تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

محطة استراحة مع اوراق الخريف

بدء بواسطة simon kossa, نوفمبر 15, 2011, 06:54:21 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

محطة استراحة مع أوراق الخريف
شمعون كوسا

بينما كنت أسيرُ بمحاذاة حديقة كبيرة أمرّ عليها  من حينٍ لآخر ، سمعت صوتا يناديني من بعيد قائلا : ها إنك قد دنوتَ من موعد الإعداد لمقال جديد، لماذا لا تسمعني وتوفـّر على نفسك عناء التفكير ، فتخلـُد الى قليل من الراحة وتريح الناس أيضا ولو لحين ، تتركهم مع اهتماماتهم وممارسة عاداتهم ، لان ما تتناوله انت في مواضيعك كمعضلة أو تناقض أو تجاوز ، غدا اليوم جزءً من الحياة وبات لا يمثـّل أيّ عائق لدى الناس . أرِحِ الناس قليلا وانطلق مع الطبيعة واستجب لندائها لترى بانها في صمتها ستتحدث اليك باروع الكلام وأبلغِه . هلمّ واحضر عرضا راقصا لا دور فيه للبشر .

كان هذا في أحد ايام الخريف حيث الشمس في ساعاتها الاخيرة قبل الغروب . إقتادني النداء الى باب الحديقة ، فدخلتها وجلست على أول مقعد متروك . بعد ثلاث دقائق فقط  تيقـّنت من صحة الكلام الذي سمعته وأحسست باني كنت فعلا  في حاجة ماسة للعودة الى ما هو غذائي طوال حياتي ، ألا وهو التحليق في أجواء الطبيعة والتغزّل بجمالها .

بدأت اجيل النظر بهدوء وإمعان في ما حواليّ من اشجار مختلفة الاحجام والاصناف ، رأيت أوراقا تتناثر هنا وهناك بكثافة ودون توقف ، تهبط وهي على عجل من امرها وكأنها تريد اللحاق بموعد مهم قد اخطأتة . إلتفتّ الى يميني ، إلى اقرب الاشجار إليّ  ، وقلت في نفسي : أوليست هذه الشجرة ذاتها التي كنت ارقبها منذ اشهر وهي عارية تماما في فصل الشتاء ، ومع ابتداء الربيع تفتّقت براعمها من كافة الجوانب وتفتّحت بآلاف او ملايين الاوراق لتؤمّن لنفسها كسوة تستر فيها عورتها ، وها هي الان تتعرى من جديد .

وهكذا دخلت تلقائيا وبكافة حواسي جوّاً خريفيا ، ووجدت نفسي كما قال النداء ، وسط عرض راقص بدت الاوراق فيه بابهى حللها واجمل الوانها و أزهاها، فعدت الى نفسي ثانية وقلت : هل هناك أغرب من رؤية أشجار، بعدما التجأت الى كمّ هائل من الاوراق لتحمي نفسها ، تطلب منها  التهيؤ للرحيل باحتفال كبير، وتشترط على كل ورقة ان تتوشح قبل وداعها وهبوطها بابهى ما لديها من ثياب مزركشة .

وفي غمرة انتقالي من شجرة الى شجرة ، نهضت كي ألقيَ نظرة شاملة على اشجار بعيدة تبدو،  في تنوّع الوانها،  وكأنها متجهة الى عرس او قادمة منه .
بعد هذا ،  توقفتْ انظاري عند عدد من الاشجار المثمرة التي ، بالاضافة الى خضارها وضلالها ، تتحمل مسؤولية توفير الاثمار . اشجار معرضة لتقييم صاحبها الذي ، عند حلول الموسم ، يأتيها بخطى بطيئة وبنظرة استعلاء يستعرض انتاجها ، فيحاسبها دون إنصاف او رحمة ، إذ يعلن رضاه عن بعضها ويقطـّب الجبين امام من قلّ انتاجها ويحنق على من لم يحالفها الحظ في تلك السنة . وتبقى هذه الاشجار في اصطفاف وفي حالة استعداد تام أمامه ، غير قادرة على الردّ عليه بكلام وكّلتني  هذه الاشجار ، المغلوبة على امرها ،  للتعبيرعنه كالتالي : » يا صاحبنا ، لقد وهبناك كلّ ما لدينا ، واحترمنا توجيهات الطبيعة وخضعنا لتقلباتها . لقد وردتنا أوامر من الشمس ، وأوامر اخرى من الهواء وأخرى من المطر ، وغيرها من الماء ، وحتى الغيوم لعبت دورها في ما أنتجناه كمّاً ونوعاً ، فاذا اشتدت بعض هذه العناصر الحقت بنا اللعنة واذا خفـّت بعضها انزلت علينا النعمة . نحن لسنا سوى أوعية تحمل بذرة الانتاج وتخرجه على هوى هذه العناصر وعواملها الطبيعية ،  ويا حبـّذا لو استقرت هذه العناصر ولو لاسبوع واحد !!  «

تركتُ الاشجار المثمرة وشكواها وعُدت من جديد الى العرض الذي دُعيت اليه ، وقلت : إذا كانت هذه الاوراق جميلة عند ولادتها في الربيع ، فانها اجمل لدى تساقطها في الخريف . من أين اتت بهذه الالوان ،  الاحمر القاني ، والاصفر الساطع وذاك الازرق الهادئ وآلاف الالوان المتفرّعة منها والتي يصعب على أبرع رسام إيجاد خلطتها ؟ ترى على نفس غصن الشجرة صفـّاً بلون ، وصفاً آخر بلون أخف ، وترى على نفس الغصن ورقة بلونين واخرى بثلاثة او اربعة وتتجاور كلها بتناسق كامل يريح العين    **.  بعض هذه الاوراق تتساقط بمجاميع مسرعة مع أول هبة ريح ، وبعضها يقاوم اكثر أو ينفرد ، وقسم آخر يدخل في صراع مع الهواء ويصمد الى ان تأتي ريح عاصفة تلوي ذراعه.
رأيت بعض الاوراق في تساقطها  متزامنة وبعضها متفاوتة، كما لاحظت أوراقا تختار أقصر الطرق في مسارها واخرى تفضل الترنح ذاهبة ذات اليمين وذات الشمال قبل ان تتلقاها الاكوام المتراكمة. تخيلتها مرة اخرى وكأنها في سباق على فنون الهبوط ، وأيضا على رهان مع بعضها البعض على طول فترة المقاومة والصمود . وفي هذا السياق الخيالي ،  سمعت عددا من الاوراق ،التي استجابت لاول نداء اتاها من الرياح فهوت ، تتهامس بينها قائلة :   »ماذا جنته زميلاتنا الاوراق من مقاومتها وعنادها ، مهما فعلت وصمدت فانها في نهاية المطاف ستفترش الحضيض مثلنا وتتحول الى تراب . وهل هي افضل من كائن آخر يدعى بالحيوان الناطق ؟ فهذا أيضا ، بالرغم من مقامه السامي فانه في النهاية آيل للسقوط مثلنا . عزاؤنا نحن هو في العودة كل سنة لدورة جديدة . اما الاخ الناطق هذا فانه يصبو للخلود لانه يرى بأن متوسط عمره لا يكفيه ، غير انه ، حتى ولو عاش ألف سنة ، لايقبل بخريف عمره ، ويعتبر نفسه بانه لم يعش يوما واحدا.  في الحقيقة ، إن عقله ونفسه اللذين يميزانه عن سائر المخلوقات هي أثمن من أن تلقى نفس مصيرنا . اننا نحترم رأيه ونتمنى له التوفيق  . « !  ! أمّا لماذا أدلت الاوراق بهذا التعليق الطويل عن الانسان ؟ لا ادري !!

عند هذا الاقرار الصريح والمنطقي للاوراق التي سقطت في الخطوط الاولى ، وبعد ما رأيتـُه لمدة ساعتين في حفلة راقصة ، أحيتها أوراق إختفت وراء الكواليس ، واوراق استقرت في الهواء تتمايل راقصة مع حركة الريح ، وكأنها في انسجام مع انغام موسيقية تتكيف مع إيقاعها ،  أوراق لم تكن راغبة في مبارحة مكانها وتطلب المزيد لانها تعرف بانها في لحظاتها الاخيرة ، شعرتُ برغبة عارمة للمساهمة في هذا العرس لاطالة عمر الاوراق ولو لدقائق وأيضا للاستمتاع بعرض سوف لن اشاهد مثله كل يوم ، فأطلقت العنان لحنجرتي في موّال يتغني بالخريف واشجاره واوراقة وألوانه ، موال أفلح بدوره في إبقاء كثير من الاوراق تتطاير في الهواء راقصة بهدوء ، اوراق تكاثرت وظلت محتشدة الى آخر نغمة صدرت مني ، وبعد هذا أستأنفت هبوطها على مضض، وببطئ شديد عساها تصادف ريحا ترفعها او غناء يدعوها الى الرقص من جديد.

عند آخر خيط للغروب ، حملتُ نفسي المشبّعة باجواء هذا الحفل الراقص ، ودخلت مقهى قريبا من هناك كي اكتب بعض ما رأيته وسمعته قبل ان تهجرني احداثه . كان جوّا أتاح لي الابتعاد عن هموم الحياة ووفـّر لي فرصة كتابة هذه الاسطر التى لا أتوقع لها إقبالا شديدا  من القراء ، لان البعض سوف لن يرى فيها  أكثر من نشرة عن الانواء الجوية !!



**لقد دعوت لهذا الهامش كي اروي قصة عن تركيبة الالوان ، لم أتمكن من التطرق اليها في سياق المقال لانها كانت ستبعدنا كثيرا عن موضوع الخريف وجماله :
إنها قصة حقيقية عن شركة فرنسية تصنع القبعات العسكرية (البيريات) . استلمتِ الشركة طلبية مهمة لِصناعة كمية كبيرة من القبعات  بلون معين . أثناء القيام بانتاج اللون ، إرتكب فنيّو الشركة غلطة في المقادير فخرجوا بلون غريب لا علاقة له باللون المطلوب . كانت الكمية كبيرة وإتلافها كان سيكلفهم خسارة كبيرة ،  فقرروا ان يجرّبوا حظهم وارسلوا الشحنة الى المشتري وهم على يقين بانها سترفض ، واذا بهم يتلقـّون رسالة  إعجاب من المشتري يطلب فيها مضاعفة الكمية وبنفس هذا اللون . كانت الرسالة مصدر سعادة للشركة من جهة ، ومن جهة اخرى ادخلتهم في حيرة كبيرة . إعتذرت الشركة لصاحب الطلبية واعلنت عن عدم امكانيتها تنفيذ الطلب لان هذه الخلطة جاءت تنتيجة خطأ لا يمكنها الاهتداء اليه !!!



Kossa_simon@hotmail.com

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة

د.عبد الاحد متي دنحا

شكرا استاذ سايمون على الموضوع الممتع وباسلوب ادبي جميل

مع تحيات

عبدالاحد
لو إن كل إنسان زرع بذرة مثمرة لكانت البشرية بألف خير

simon kossa

 

شكرا للاستاذ ماهر والدكتور عبدالاحد على قراءتهما للموضوع وتقييمهما اياه
شمعون كوسا