جدل بقاء القوات الأمريكية – نقاش ام حرب نفسية؟

بدء بواسطة صائب خليل, مايو 16, 2011, 11:06:09 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

جدل بقاء القوات الأمريكية – نقاش ام حرب نفسية؟


نيويورك في الثلاثينات من القرن الماضي.. يدخل شاب انيق الملبس إلى محل البقالة ويسأل صاحب المحل إن كان يريد تأميناً ضد الحريق، فيجيبه الرجل أنه ليس بحاجة لذلك، فليس هناك سبب لتوقع حصول حريق في محله. وبعد بضعة جمل مبهمة غير مباشرة، يفهم صاحب المحل أنه أمام رجل مافيا يهدده بحرق محله إن لم يدفع "الخاوة". بعد دقيقة تردد يلعب المسدس الذي يتعمد الشاب إبرازه من تحت قماش سترته، دوره في حسم القرار ويوقع صاحب المحل ورقة "التأمين ضد الحريق".
حين يعود إلى المنزل يقول لزوجته وكأنه يحاول إقناع نفسه: "من يدري، ربما نحن فعلاً بحاجة للتأمين ضد الحريق".

ليس الرجل ملاماً، فليس سهلاً على رجل أن يعترف بأنه خائف..إنها التركيبة الإنسانية منذ القدم ، ولازالت كماهي. رسول حمزتوف يخبرنا بحكمة داغستانية تقول: ما هو اشد المشاهد بشاعة؟ رجل يرتجف خوفاً. وما هو أشد منه بشاعة؟ رجل يرتجف خوفاً. وما هو أشد من ذلك بشاعة؟ رجل يرتجف خوفاً!
ينتظر من الرجل أن يكون شجاعاً مستعداً للتضحية، فذلك ما يؤمن سلامة عائلته، إنها حكمة الطبيعة. ورغم ذلك نتفهم موقف صاحب البقالة، فنموذج الرجل القادر على الإرتفاع فوق الخوف وهو يواجه هول المافيا، نادر. لا نستطيع أن نطالب أحد بأن يكون بطلاً، لكننا قد نطالب البقال أن يقول لزوجته "أسباب" موقفه بصراحة لتفهم ما يدور حول عائلتها من خطر، لا أن يخلق لها حججاً ويسميها "أسباباً". 

"الأسباب" التي يطرحها دعاة بقاء القوات الأمريكية في العراق، أو حتى دعاة مناقشتها، ليس بينها ما يمكن ان يسمى سبباً، لكنها قد تصلح ان تكون حججاً لإقناع النفس على الأقل.
لم يكن الأمر مختلفاً قبل اكثر من عامين، ولعل "السبب" الذي قدمه وزير الدفاع العراقي للتوقيع هو "خطر القراصنة الصوماليين" الذين سيصعدون في شط العرب على ما يبدو، إن لم نوقع المعاهدة!
في البداية رفض المالكي توقيع ورقة "تأمين الحريق"، رغم تغيير نصوص العقد مرات عديدة، وتغيير اسمه إيضاً. لإقناعه، جاءوا له بضابط كبير في المافيا. وخرج المسدس من خلف قماش السترة وأطلق النار على النائب الدكتور صالح العكيلي، وارداه قتيلاً. غير الرجل رأيه أخيراً ووقع، وقال لنا أننا " بحاجة فعلاً إلى التأمين".

اليوم يعود الشاب الأنيق الى العراق يحمل وثيقة تأمين جديدة...ويتتالى ضباط المافيا الكبار لزيارة "محل البقالة".
يحاول من يريد التوقيع، ان يقنعنا، بأن "الحريق" يهددنا فعلاً ، ويبدو خائفاً بصدق من "الحريق"! فقد أقنع نفسه قبل أن يأتي ليقنعنا:

"ضروري لحماية الديمقراطية"..
" قواتنا لم تكتمل بعد" ... 
"عليهم التزام أخلاقي"...
"ليست لدينا حماية لسمائنا"...
"الدعم اللوجستي" 
"القاعدة"... 
"البعث"...
"جيش المهدي"..
"صداقة أميركا ضرورية لنا" ...
"الإقتصاد"..
"الفصل السابع" 
"ضمان ضد الإحتقان الطائفي" ..
"حمايتنا من دول الجوار"

(هذه قائمة مشتريات لا يجب أن نسمح للمحتل ان يغادرنا قبل أن يكملها لنا! ..يقول لنا المطالبون بالبقاء..)

ثم تسأل:
حماية الديمقراطية؟ أية ديمقراطية حمى هؤلاء؟ سفارة من، كانت تتدخل في العملية الإنتخابية وتضغط على المؤسسات الدستورية والقضائية؟
إكتمال القوات؟ ماذا يعني أن "تكتمل القوات"؟ هل هناك حدود تكتمل فيها القوات؟ من يطلب من إحتلال أن يكمل له قواته وكل شيء قبل رحيله؟
ملزمين أخلاقياً؟ ألست أنت الذي تبرر جرائم أميركا على قاعدة "لا اخلاق في السياسة"؟ فكيف تنتظر منهم تنفيذ التزام اخلاقي؟ متى فعل جيش احتلال ذلك؟
ومن الذي يهدد سماءنا؟ هل لدينا اراض تطالب بها دولة أخرى؟ أم أننا سنخوض قادسية لتحرير عربستان؟ أم أن القوات الأمريكية ستساعدنا على استعادة ما استقطعته وتستقطعه الكويت او السعودية أو الأردن، أحبة حامينا الجديد؟
قاعدة؟ أية قاعدة، وأي عفاريت صوماليين؟... يفترض بعشيرة كبيرة أن تخجل من الخوف من هؤلاء، فأية دولة هذه التي تخاف ان تترك وحيدة أمام هذه الأشياء؟
البعث؟ ومن الذي تفاوض مع البعث في اسطنبول رغما عن الحكومة، ومن الذي يفرض مصالحة البعث ومن دعم قائمة البعثيين الأولى؟
"جيش المهدي"؟ إنها مراوغة وكذبة كبرى، فقد قالوا أنه سيعود فقط في حالة بقاء الأمريكان وليس مغادرتهم...
صداقة؟ ولماذا "صداقة أميركا" لا تكون إلا بوجود بساطيل جيشها فوق كرامتنا؟ هل من صديق يشترط ما يهين كرامة صديقه ليقبله؟
الإقتصاد؟ هل عملوا على تحسين الإقتصاد أم على تدميره؟ من سرقات بريمر الهائلة إلى دعم كل الفاسدين الكبار وتهريبهم إلى اميركا عند افتضاحهم إلى فرض شروط صندوق النقد الدولي المدمرة إلى الدفع إلى الخصخصة اللصوصية والإستثمار الأجنبي وعقود النفط الفضيحة في كردستان ...
الفصل السابع؟ ألم يعدونا بإخراجنا من الفصل السابع إن وقعنا المعاهدة؟ الم تجعلوا رؤوسنا طبولاً حول خطورة هذا الفصل؟ لماذا نسيتموه فور توقيع المعاهدة؟ هل هو الجزرة التي سيبقى الحمار يقبل أن يساق من معاهدة إلى معاهدة على أمل ان يحصل عليها؟
إحتقان طائفي؟ أي احتقان طائفي هذا الذي أوقفه الأمريكان؟ هل سنصبح أقل طائفية عندما نراهم مثلاً؟ لكننا لن نراهم على كل حال، ألا يفترض أنهم سيبقون في قواعدهم بعيداً عن المدن، فكيف سيحموننا من جنوننا الطائفي من بعيد؟ ثم أليس الكثير من الإحتقان الطائفي بسبب وجود الأمريكان واتهام كل للآخر بالعمالة له؟
قبولنا في المجتمع الدولي؟ أليس من أكبر صعوبات قبول العراق في الخارج أن البعض يعتبر حكومته تحت الإحتلال؟
يحموننا ممن؟ هل ننتظر أن يهاجمنا أحد؟ هل هناك مؤشرات على ذلك؟ ألم تقولوا أن القوات "المقاتلة" غادرت جميعاً فكيف سيدافع عنا هؤلاء "المدربين" الـ 47 الف (!) وهم ليسوا قوات "مقاتلة"؟ كيف سيحمونا من القاعدة والطائفية والجوار ... ؟


ربما تشعر بالسعادة بأنك أجبت عن كل التساؤلات، وكشفت كل الحقائق، لكنك تكتشف ان الرجل الذي أمامك لم يكن يستمع إليك منذ فترة... وتكتشف ان الموضوع ليس له اولوية عنده، وأن "مخاوفه" لا تهمه، وأن القضية كلها ليست قضية نقاش وأسباب ومحاججة وإقناع، فالمقابل ليس سوى خائف يبحث عن حجة تعفيه من الإعتراف بأنه خائف..!
خائف ممن؟ حسناً..المقال الذي اقتبست منه معظم "الأسباب" لإبقاء القوات أعلاه، ينتهي بـ "السبب" التالي:

"وجود القوات الامريكية في العراق قد يؤدي الى مزيد من الاستقرار، ويعزز العملية السياسية، عندما تشعر الولايات المتحدة بالاطمئنان الى توجه العراق نحو علاقة ستراتيجية معها. "

فالموضوع هو ليس لحمايتنا من أخطار قد تحدث لنا، وإنما الهدف من التمديد هو طمأنة أميركا أننا سنكون دائماً في "علاقة ستراتيجية" معها، "علاقة ستراتيجية" لا يمكنها أن تقنعنا بها إلا بوجود قوات عسكرية تخيفنا بها إن رفضنا تلك العلاقة يوماً أو طلبنا تغييرها أو قلنا أنها لم تكن ما اتفقنا عليه! قوات تستطيع ان تحدد بواسطتها تفسيرها للبنود وشروط تنفيذها وكل ما ترك غامضاً.

مثلما صدع هؤلاء رؤوسنا بضرورة توقيع المعاهدة للخروج من الفصل السابع، ثم نسوه تماماً فور التوقيع، فأنهم سينسون كل هذه "الأسباب" المزيفة فور توقيع معاهدة بقاء جديدة، وتمضي الأمور كما هي: إرهاب وتخويف وعرقلة عمل الحكومة واغتيالات غير مفسرة وسرقات كبرى وانتخابات مزورة وسفارة تحكم البلد من وراء الستار، مدعومة بجيش عند الحاجة، واحتقار دولي وشعور داخلي بالإحباط والقهر يتم تغذيته حتى في برامج التلفزيون والكليبات بين البرامج. سينسى هؤلاء "الخائفون" كل مخاوفهم، لأنهم يعلمون في داخلهم أن الخوف الوحيد الحقيقي لديهم كان من غضب أميركا، وأن هذا تم إرضاؤه، اما بقية "الأخطار" و "المنافع" فقد أدت غرضها وذهبت، تماماً كما أدت حجة الفصل السابع غرضها في توقيع المعاهدة، وذهبت!

ليس كاتب المقال اعلاه وحده من يشعر بالحاجة "لتطمين أميركا" بأننا سنبقى "عقّال" وتحت تصرفها، فلو راجع كل مؤيد لتمديد القوات نفسه بصدق، لأكتشف أن ما يخيفه من رفض التمديد ليس فقدان الحماية الأمريكية من خطر ما، وإنما الخوف من إغضاب أميركا نفسها! إنشغاله بدرء غضب أميركا يجعله ينسى خطر غضب أغلبية سكان العراق الذين يشعرون بالحيف والإمتهان، وخطر التوتر الإجتماعي الهائل الذي يهدد البلاد ببقاء قوات الإحتلال، والذي لمح إليه المالكي والناطق باسم حكومته قبل أسابيع قليلة عندما كان خطابهم رافضاً بوضوح. من يريد بقاء القوات، ودون أن يدري، يقبل بإبقاء العصا فوق رأس العراق ليطمئن أميركا أننا سنكون طوع إرادتها دائماً.

عندما نفهم أميركا، وقد فهمناها جيداً خلال هذه السنين القليلة المرعبة، فليس غريباً أن يخاف المرء منها. رغم التصريحات التمويهية الكثيرة، لا يشك أحد أن الأمريكان يريدون وبشدة، إبقاء جيشهم في العراق. لا تتضح تلك الإرادة فقط من خلال تكاثف زيارات المسؤولين الأمريكان الكبار هذه الأيام للعراق، بل أيضاً من كثرة التقارير التي تؤكد للقادة العراقيين أنه من الضروري لهم أن يبقوا على بعض الجيش الأمريكي في العراق ودعوات السياسيين والعسكريين الأمريكان لهم لإستعجال تقديم طلبهم لتوقيع "تأمين الحريق". وبالطبع فعندما توافق على إبقاء الف جندي، سيبقون عشرة ألاف، فليس هناك من سيحصي أؤلئك الجنود، والغش في هذا معروف تاريخياً، وحدث في فيتنام وغيرها. لذلك هم بحاجة إلى اتفاقية ما، لا يهم العدد الذي تضعه على الورق. سيضعون على الأرض ما يريدون في النهاية.

السؤال الذي يجب أن لا يغيب عن بال أحد هو: لماذا يريد الأمريكان بهذا الإصرار بقاء قوات لهم في العراق؟ إن تجاوزنا الأساطير وقصص الأطفال، فليس لدي تفسير أفضل من أنهم يتوقعون اصطداماً بين ما يخططون له للعراق، وبين حكوماته القادمة. وهذا يعني أنهم يتوقعون أن مخططاتهم لن تكون مقبولة من قبل حكومة ليست عميلة لهم، قد تأتي بها الديمقراطية، وأنه لن يكون هناك سبيل لتنفيذ تلك المخططات إلا بالقوة أو التهديد بها. في هذه الحالة فقط تأتي أهمية القواعد العسكرية لتأمين مصالحهم.

لا يوجد مكان تساعد فيه القواعد العسكرية على بناء "صداقة"، بل تثير الحساسيات والكراهية اينما وجدت، وهذا الأمر المفهوم والبديهي قد تم تثبيته مؤخراً في دراسة صدرت قبل أيام لـ "مدرسة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية" و جامعة إيسيكس، (1) والتي تثبت أن الهجمات الإرهابية الأجنبية على المواطنين الأمريكان تتزايد مع زيادة التواجد والدعم العسكري للولايات المتحدة لحكومات بلدانهم، وهذا صحيح أيضاً في أوروبا حيث طالما تظاهرت شعوب هذه البلدان مطالبة بخروج القواعد الأمريكية التي فيها، ثم سكتت على مضض، وليس عن رضا واقتناع، أما في اليابان فقد اسقطت الحكومة وجاءت الإنتخابات بحكومة شعارها الأساسي هو إنهاء التواجد العسكري في قاعدة امريكية في اليابان، (وكالعادة أزيحت الحكومة المنتخبة وبقيت القاعدة). إذن القواعد الأمريكية لا تخدم أية علاقة "صداقة" أو تعاون، بل تسيء إليها، فلماذا تصر أميركا إذن على قواعد لها في العراق؟ أترك الجواب للمتحمسين لبقاء القوات.

هذه هي حقيقة علاقتنا مع أميركا، وكل من يتحدث عن الصداقة التي تحتاج قواعد عسكرية لحمايتها يوهم نفسه. فطريق الصداقة مختلف، يحتاج ظروفاً مختلفة وتوازناً مختلفاً وحاجات مختلفة. إننا كمن يجد نفسه أمام لص لص يصوب مسدسه نحو رأسه ويأمره أن يطيع. نحن خائفون من أميركا وليس من أن نفقد حمايتها. إن كنت تشك في ذلك فتخيل للحظة أن أميركا اختفت من الوجود، ألا تشعر بأن كل العفاريت التي نحتاج لأميركا لتحمينا منها، ستختفي من رأسنا فجاة ، وتصبح تلك الأخطار "سخيفة" ومخجلة، وسيرقص الجميع طرباً؟ أميركا لن تختف طبعاً، إنما هذا الخيال يساعدنا على ان نفهم انفسنا ومشاعرنا الحقيقية، وأن نعترف بهذه الحقيقة أولاً لنفهم أين نقف، وما يجب أن نفعل.

حسناً، إعترفنا، سيقول القارئ..ما العمل الآن؟

شاهدت قبل فترة برنامجاً للشرطة ، كان يقدم النصح لمن يتعرض لحادث سطو مسلح، وكيف يجب أن يتصرف لضمان أكبر فرصة للنجاة. النصيحة تقول، حاول أن تبقى هادئاً ولا تصاب بالرعب لتبقى قادرا على التفكير، لا تثر المسلح ولا تتصرف بتهور، اعطه ما معك من المال، لكن إن طلب منك أن تذهب معه إلى مكان آخر، فهنا عليك أن تحاول الرفض أو الهرب وربما المقاومة! وليس هنا موضوع بطولة ورجولة، بل مسألة سلامة. فعندما يطلب منك أن تذهب معه إلى مكان آخر، فأن هذا يعني أنه يريد جرك إلى مكان بعيد، أنسب له لإرتكاب جريمة دون أن يحس به أحد. تقول النصيحة: فكر بالهرب بالركض بسرعة.. صحيح أن ذلك سيعرضك للخطر، لكن الخطر سيكون أكبر إن ذهبت معه إلى المكان الذي يختاره. ربما يتردد في إطلاق النار عليك إن هربت، كأن يخشى أن يسمع البعض صوت الرصاص، لكنه سيكون اكثر جرأة إن كان المكان نائياً خالياً من الناس...كلما سرت معه أبعد أزداد الخطر عليك، فإن كان لديك فرصة، فهي أن تهرب دون أن تخطو معه أية خطوة!
غالباً ما يجلب الخوف الأمان، لكن في مثل هذا الموقف يكون الخوف والطاعة أكثر خطراً من الشجاعة والرفض. إنها مسألة حساب.

وفي علاقتنا الورطة مع اميركا، ربما تقتنع أميركا بعلاقة يمكننا أن نقبلها إن هي أحست برفضنا الحاسم لوضع العصي فوق رقابنا، وأن إصرارها عليه سوف يكلفها اكثر مما يفيدها، وأن عليها أن تأمل بجني ما يمكن من منافع من خلال المعاهدة الإطارية وتنفيذها بطريقة معقولة لا تحتاج معها إلى قواعد عسكرية لتأمينها بالقوة. فرفض تمديد القوات ليس رفض للعلاقة مع أميركا، إنما رفض ان تكون تلك العلاقة محكومة بوجود قواعد عسكرية فوق رقبتك في البلاد، كما تريدها هي.

ليس لأميركا لتحقيق هدفها في فرض ا لقواعد سوى إثارة الرعب في البلاد، وخاصة بين أصحاب المناصب المؤثرة، وجعلهم يرتجفون من مجرد فكرة غضبها إن لم يوقعوا. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى عليها ان تقدم لمن تمكنت من أصابتهم بالخوف وأرادوا التوقيع، ممراً قليل الإحراج قدر الإمكان، بتغليف هذا الضغط التسلطي بكلمات لطيفة مثل "الصداقة" و "المشاركة" وتقديم بعض المنح الدراسية وزيارة فرق موسيقية مثلاً. أما بالنسبة للعراقيين فليس أمامهم إلا مقاومة تأثير هذا الإرهاب والإصرار على رفض هذه الرغبة المسيئة، ليحتفظوا بقدرتهم على موازنة الضغط ولو بدرجة ما مع أميركا، مما يجعلها تقبل باستغلالهم بشكل أقل.

قبل إرسالي لهذه المقالة بلحظات وصلتني المقالة التالية من الكاتب العراقي الكردي اليساري أمين يونس، اقتبس منها مطولاً:

"سبعة صواريخ كاتيوشا ، سقطتْ على بغداد يوم أمس فقط الأحد 15/5، واحدة في الباب الشرقي واُخرى في البياع ، والبقية في المنطقة الخضراء .. والضحايا كُلهم من قتلى وجرحى كانوا من المدنيين ، أي انها لم تكُن مُوّجَهة بِدِقة الى " أهداف " مُنتقاة لقوات أمريكية أو مقرات قوى أمن عراقية من جيش أو شرطة ... بل كانتْ عشوائية ، الغاية منها الترويع وإحداث خسائر وخلق بلبلة ، وإثبات هشاشة الوضع الأمني . وتشهد بغداد إختراقات أمنية مُتصاعدة ، منذ شهر ، ما بين إنفجار قنابل ناسفة ، او إغتيالات بكواتم الصوت أو عبوات لاصقة ، وعمليات سرقة مُنّظمة وإختطاف (...) والبعض يربط بين التصعيد الحالي وكذلك المُتوقَع في الفترة القادمة ، وبين الانسحاب الامريكي (...). ومن الشائعات المنتشرة في بغداد ، ان رئيس الحكومة نوري المالكي ، والأطراف التي تؤيده ولا سيما الأحزاب الكردستانية ، وبعض أطراف القائمة العراقية والمجلس الاعلى الاسلامي .. يُحّبِذون تمديد بقاء جزء من القوات الامريكية ، من خلال عقد إتفاقية جديدة .. لكنهم بحاجة الى [ مُبررات ] قوية ، تُقنِع عدداً كافياً من اعضاء مجلس النواب ، بحيث يُمكن الحصول على أغلبيةٍ مُريحة ، يستندون عليها ، لإضفاء " شرعية " على الإتفاقية المُزمَع عقدها ... ويتم الترويج في هذه الأيام ، لحقيقة وجود أكثر من 745 قاعدة أمريكية علنية في أرجاء العالم .. من ضمنها قواعد ضخمة في اليابان وألمانيا ، في حين لايستطيع أحد الإدعاء بأن هاتَين الدولتَين الكبيرَتَين ، منقوصَتا السيادة ! .. والتمهيد الى القبول النفسي للإتفاقية الجديدة ، بحجة عدم إكتمال القدرات العسكرية العراقية ، لاسيما في مجال القوة الجوية وحماية الأجواء وكذلك القوة البحرية ، وحاجة العراق الى التقنيات المتطورة للأمريكان ، في هذه المرحلة ... إضافةً الى تصريحات العديد من القادة العسكريين والأمنيين العراقيين ، هذهِ الأيام .. بضرورة " التَرّيُث " وعدم الإستعجال في سحب القوات ، وآخر مثال على ذلك ، طَلَب قائد منطقة البصرة يوم أمس ، عند إستلامه لمُعسكرٍ رئيسي من القوات الامريكية .. طلبهِ من المالكي ، بإبقاء جزء من القوات الامريكية في [ مركز ] مدينة البصرة ، وذلك للحاجة اليها ! .. ناهيك عن تصريح رئيس حكومة اقليم كردستان قبل يومين ، حول إعتقاد حكومتهِ ، بأن إنسحاب القوات الامريكية ، من المناطق المُتنازع عليها أو المُختَلَف عليها ، سيخلق فراغاً أمنياً (...) يعتقد البعض ، ان إستمرار الإنفجارات في بغداد والمحافظات ، وتزايد الإغتيالات وتساقط الصواريخ .. سيُساعد على [ تشجيع ] المواطنين العاديين ، على المُطالبة ببقاء القوات الامريكية في السنوات القادمة .... والمُحّصِلة النهائية لهذا الوجه القبيح من المعادلة ، هو خسارة المجتمع للأمن والخدمات والرفاهية ، من أجل مصالح الولايات المتحدة وحفنةٍ من السياسيين المُنتفعين ." 

أنتهى اقتباس (معظم) مقالة السيد أمين يونس! إنها حرب إرهاب لتحطيم إرادة العقل...
الجميع يعلم من وراء هذا كله، لكن الأغلبية تفضل أن تلقيه على "العفاريت" لتسبها "بشجاعة متناهية"، فالعفاريت طيبة، لا تؤذي من يسبها، تماماً مثلما يفضل من يرتعد من إغضاب أميركا أن يقول أنه يوقع لـ "أسباب" و "فوائد" لينجو من الموت والخجل معاً.

من الواضح إذن أن الجدل حول تمديد بقاء القوات ليس جدلاً في المنطق وليس وزناً للأفضليات والمساوئ، فلا توجد أية أفضليات تستحق المناقشة أمام الأخطار والخسائر الكبيرة للبقاء. كل الأخطار والخسائر، من توتر سياسي وانشقاق شعبي وإحساس بالمهانة وتوتر مع دول الجوار، ومخاطر توريط البلاد في حروب، وفرض حكومات عميلة أو قلب أنظمة ديمقراطية، كلها أخطار واقعية لا يصعب على أي شخص ان يراها، ولها نظائر عديدة في تاريخ التعامل الأمريكي مع مثل هذه الحالات. وبالمقابل، فجميع أخطار الخروج الأمريكي إفتراضية لا أساس لها من الصحة، أو صغيرة بدرجة يستطيع أي بلد مواجهتها.

الصراع الحقيقي في جدل تمديد القوات إذن ليس في ما يقال، والمنتصر فيه ليس من لديه الحجج الأفضل، بل من ينتصر في حرب الإرهاب والكاتيوشات وكاتمات الصوت، والإبتزازات التي تدور خلف الكواليس في البرلمان والوزارات والسفارة ، مدعومة بالرشاوي والتهديدات، والحرب النفسية وراء الكلمات وبين السطور في المقالات وصياغة الخبر، وما يدعمها من أعمال إرهاب وتصريحات تؤكد الضعف والخطر، وفي ما توحي به البرامج وما بين البرامج في التلفزيون للمشاهد، وما تستطيع ان تبثه فيه من خوف وانعدام الثقة بالنفس من جهة، وبين صمود سلامة منطق وثقة هذا المواطن وذاك السياسي وذلك الإعلامي بنفسه من الجهة الأخرى. لذلك فكل ما يبعث الثقة بالنفس في نفس المواطن العراقي يعتبر حجر عثرة مزعجة في طريق تحقيق المخطط الأمريكي في التعامل مع العراق من خلال القواعد العسكرية.

أخيراً، هل سيكون قادة العراق بالشجاعة اللازمة لحمل البلاد بعيداً عن الخطر؟ لا نستطيع أن نحمّل أي كان فوق طاقته، لكننا نأمل أن يكون لدينا عدد كاف من النواب والسياسيين (والكتاب وغيرهم..) الذين سيصمد فيهم ما يكفي من الشجاعة والمنطق للتعاون ورفض توقيع "وثيقة تأمين الحريق" رغم الكاتيوشات وكواتم الصوت في كفة الميزان والملايين في الكفة الأخرى، وهو أمل نقر بأنه صعب المنال لمعظم الناس. قد يتفهم الشعب ضعف الإنسان أمام مثل هذه المعادلة الخطيرة الإختلال، لكنه لن يتفهم ولن يتسامح مع كل من أسهم في إيجادها أو الترويج لها والإسهام بضرب الواقفين في وجهها أو تنفيذها! نأمل أيضاً ممن يجد أن الرفض فوق طاقته، أن لا يقصف رؤوسنا بحجج عن الحرائق الخرافية المحتملة، وأن تكون له الشجاعة على الأقل ليقول لنفسه وللناس أنه يفعل ذلك لأنه خائف – ليس من الحريق، ولكن من الرجل الأنيق!


(1) US Military Support of Foreign Governments Increases Terror Attacks on US Citizens: Study http://www.informationclearinghouse.info/article28035.htm

ماهر سعيد متي

                      استاذنا  الفاضل .. اثرت جدلا .. يفتح الكثير من الشجون .. شكرا لك.. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة

صائب خليل

الشكر لك ولجهودك الكبيرة استاذ ماهر،
تقبل تحياتي وتقديري