كل قلب يرى السماء على هواه / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, مايو 28, 2012, 12:54:05 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

كل قلب يرى السماء على هواه




شمعون كوسا

في مقال سابق بعنوان (هل هناك حياة بعد الموت) كنت قد ذكرت فقرة عن جدتي التي، بالرغم من تقواها، كانت تجيب سائلها عن الحياة الاخرى قائلة : وهل قدم شخص من وراء الآكام البعيدة ، يحمل علامة فارقة ، كي يُعلمنا عمّا يجري هناك في الاعالي ؟!!

السماء هي مقر الابدية ، والابدية هي سعادة يتخيلها كل انسان على هوى ما يشتهيه قلبُه وترتاح له نفسه . لقد تناول الموضوعَ العديدُ من الكتّاب والشعراء ، وعبّر كل واحد منهم عن الموضوع على هواه ، فقلت في نفسي لماذا لا أجرب  انا ايضا خوض الموضوع والتجول داخل غمامات خيالي في محاولة لوصف تمنيات بعض الفصائل من الناس وما يتوقعونه من سمائهم ، فاسفرت جولتي عمّا يلي :

سماء الرسام فضاء فسيح  ، مفتوح على أروع المناظر واللقطات التي تدعو الفنان تلقائيا إلى العمل والابداع . سماؤه تنقله من بقعة الى بقعة وتختار له  الزوايا التي تملأ نفسه إلهاما . سماؤه ورشة تتيح له انتاج لوحات جميلة جدا لا يستطيع الا ان يقف امامها  غير مصدق ما خرجت به ريشته ، كما فعل الله ، دون تشبيه ، ايام الخليقة حيث كان بعد كل يوم من الخلق ، ينظر الى ما صنعه فيُعجب بما فعلته يداه .

أما الراعي فان سماءه هي مرج مترامي الاطراف يأخذه بعيدا عن الاراضي القاحلة والصحارى والجفاف التي كانت مفرداته اليومية على الارض . سماؤه سهل لا تحدّه حدود ، مساحة خصبة ودائمة الخضار تتوسطها عيون ماء تروي عطش ماشيته ، انه في سمائه يستمد ارتياحه وسعادته من راحة مواشيه .

سماء الشاعر عالم جميل يوفر له الاجواء لنظم أروع القصائد . العائق الوحيد الذي يقلق الشاعر في سمائه يتمثل في  حاجته الى شيطان الشعر الذي له دور أساسي في تدفق افكاره وانتقاء مفرداته وإيجاد قوافيه ، وبما أنه لا يُعقل دخول الشيطان الى السماء ، فان الشاعر في غمرة احلامه يحاول اقناع نفسه بالحل التالي ويقول : ساتعهد للمسؤول الثقافي هناك بان رفيقي سوف لن يحتفظ من كيانه وشخصيته غير اسمه ، وانه مستعد للتخلي حتى عن اسمه إذا لم تحتجّ المعاجم العربية على ذلك لانها لا تتساهل بأمر تغيير الكنايات !!

واذا سألنا المظلوم كيف يرى آخرته ، فانه ينهض وقد ازدادت عيونه بريقا ليقول : وهل لي ان اتمنى غير تحقيق العدل . انا لا اطلب من السماء حضوة أو امتيازا ، حتى انا لا اطلب رحمة لان كل ما احتاجه هو العدل . حلمي هو ان يتم سحب الطعنة المغروسة في ظهري ظلما . اني اري سمائي في عالم يكون للديّان فيها إطلالة مباشرة على الظالم والمجرم وليس الاستنتاج من خلف الستار وتحليل الامور ومتابعة تطورها بالاستناد على أدلة وقرائن كاذبة يستنبطها من تمّ تكليفهم بتزوير الحقيقة. سمائي هي عالم يسوده العدل .

وهل نحتاج أن نسأل المريض عمّا ينتظره من سمائه ؟ بالرغم من بديهية الجواب ، سألت احدهم فقال لي : اني أرى أغلبَ الناس ينعمون بصحة جيدة ويجهلون هذه النعمة. أنا أسأل هل صحيح بانه كُتب النعيمُ لبعض الناس والعذابُ للبعض الاخر ؟ لم يبقَ عضو سالم في جسمي ، وقد عاث الالم فساداً في كل شبر من جسمي وكأني ارض شائعة . لقد اصبحتُ مكوكا ينقل كل يوم سلام طبيب لطبيب آخر.   كان يعتقد مريضنا باني مكلف بتحديد آخرته فقال لي : سجّلْ يا أخي بان طلبي يقتصر هناك على حياة خالية من المرض ومخلفاته وعواقبه .

واذا سألنا الفقير كيف يتخيل سماءه ، فانه سيقول : لقد سئمت حياة الشقاء والعوز هنا. لقد  مررت باوقات الحاجة وعشت أياما كنت أطوي مع اولادي على الطوى ، لقد اضطررت لمدّ يدي لبعض الموسرين ولا حظت نظراتهم التي تدعو للشفقة لان بعضهم كان بخيلا  جدا. انا لا ارغب في مال ولا انوي تكديسه . اريد فقط سماء اتمكن من السير فيها الخيلاء جنبا الى جنب مع من كانوا يستخفون بي ويتجنبون حتى ظلـّي .

وسماء من خانه الحب في تحقيق أمانيه في حياة الدنيا ، هي حلم يتكرر ليليا فيرى فيه رجلا بشوشا يمسك بيده ويسير به في شارع مفروش وردا ، وعند الوصول الى اول منعطف يتركه منطلقا كالقذيفة الى هدفه تقوده جاذبية قوية لا يمكن مقاومتها . يتوقع مجروحُ الفؤاد هذا من السماء أن تحقق له ما انتظره طويلا وأن تُطفئَ نار عواطفه التي لم تخمد يوما ، وأن تزيل عن طريقه عقباتٍ وضعها الاهل او الاصدقاء او أطراف اخرى . لقد حرمته الحياة من حلم يتحقق للناس بسهولة ولكن حظه التعيس اوصله الى طريق مسدود في هذه الدنيا ، لذا فان جلّ ما يطلبه من السماء هو تحقيق امنيته في ابدية الحب والكمال والجمال .

أما سماء مَن لا تتركه الهموم وكأنه حافلة تعمل على مدار الساعة دون ان تفرغ لحظة، لانه إذا غادره همّ ، أتاه غمّ ، واذا أخلى الشك مقعده يحلّ محله القلق حاملا على كتفه الخوف ، وعندما يحس بانه قد ارتاح لدقيقتين فقط يتفاجأ بافكار سوداء ومشاكل اخرى قد احتلت اربعة مقاعد في رأسه .  ان حلم هذا الانسان المهموم هو التخلص من حالات قلقه الدائم . انه يحلم في سماء تؤمّن له السلام والطمأنينة وراحة البال ، انه يبحث عن الساعة التي يستطيع فيها القول بثقة كبيرة : ما احلى هذه الحياة الهادئة والهنيئة.

وما السماء عند المطرب غير مسرح كبير يدعوه الى الغناء فينطلق في الحان ساحرة بعيدة كلّ البعدعن ايقاعات الارض المملـّة التي فقدت أصلا كافة مقومات الغناء الاصيل . حلمه يتمثل بسماء توفر له جمهورا ذا شعور رقيق ، ينطرب لسماع ما هو جميل ويُعجب بما هو شجي . سعادة المطرب في السماء هو انطرابه أولا لانه اذا انطرب فعلا فانه سيطرب سامعيه .

أما الرجل الطيب الذي  لاتفارق الابتسامة شفاهه ، فان حلمه هو الوصول الى عالم تسود فيه المحبة ، حيث لا وجود لتجهم او عبوس . إنه يبحث عن سماء ينظر فيها الناس الى بعضهم البعض بحنوّ ويهبّ كل واحد  لمساعدة  غيره . لقد عاني الرجل الطيب من معاشرة اناس لا يبادلونه نفس شعوره المرهف الرقيق، لقد تألم من رؤية ابتسامته تقابل بالغضب واللامبالاة .

وهل للبخيل في الحياة الاخرى غير حلم تافه بالعيش بخيلا كما كان في الارض دون ان يزعجه احد ويطلب مه مالا . سعادته تكمن في تأكده من عدم الحاجة الى الصرف على طعامه وملبسه وهذا ما سيساعده بتكديس المال اذا سمحت له شرائع السماء بذلك .

اما عن الام التي ثكلت باولاد تركوها في سن مبكرة ، فان نار قلبها لا ينطفئ الا بلقاء فلذات اكبادها في السماء. امنيتها هي البلوغ اليهم فقط لانها سوف لن تخشى هناك الحروب والحوادث أم اي شئ آخر يتسبب بفقدهم من جديد .

وهل لرجال الدين سماء خاصة ؟ بالتأكيد لا ، لانهم بشر وكل واحد يتخيل سعادته وفق طبيعته ، فالراعي الصالح الاصيل بينهم يجد فعلا سعادته بلقاء رعاياه سعداء هناك لانه كرس نفسه لاجلهم في الارض ، فرح لفرحم وبكي لمآسيهم ، وهنا سيعد لسعادتهم . اما الراعي الاناني المستبد الذي اختار طريقه أصلا لاغراض اخرى ، فان سعادته لا تكتمل الا  برؤية رعاياه هناك خانعين وخاضعين لاوامره دون سؤال أو نقاش أو اعتراض أو حتى استفسار.
تعددت تصورات السماء بتعدد فصائل الناس واختلاف طِباعهم ، ولا اريد هنا التكلم عن سماء شريحة كنت قد نسيتها ، شريحة من اهل الشمال ، ممّن رضي عنهم الزمان وابتسمت لهم الحياة ، أو ضحك بوجهم القدر وقهقه لهم الحظ ، فان هؤلاء قد اعتادوا على نمط من العيش يتمنون استمراره هناك . فسماؤهم يتخيلونها مملكة متخصصة بتوزيع الاراضي وتسهيل معاملات البيع والشراء، مملكة توفر مواد البناء لتشييد القصور والعمارات وحتى الابراج . باعتفادي سوف يخيب ظن هؤلاء ، لان عماراتهم ستبقى خالية لعدم وجود مستأجرين يسددون لهم بدلات ايجار بالعملة الخضراء.

أما انا ، فاني اتخيل السماء لحظات سعادة ذقتُها لفترات قصيرة جدا من خلال لحن جميل او مجر د مقطع أو نغمة ، أو لدى إبصاري لونا خاصا ذكرني بطفولتي ، او لدى هبوب نسمة خفيفة جدا في موسم معين او في غيوم متحركة او اهتزاز اوراق في قمة الاشجار او زرقة سماء في صباحات الخريف أو أفق بعيد أو غيره . انها امور طفيفة جدا قد لا تعني شيئا لغيري ولكنها طرفات عين هزت كياني وأنستني نفسي وكأني في عالم آخر. امنيتي ان ينتبه مسؤول قسم الخياطة في السماء لسعادتي هذه فيقوم بجمع قطع النسيج هذه وايصالها ببعضها البعض كي تستمر في دوران  يمكنني من إحياء هنيهات رفعتني عاليا واخرجتني من قيودي ، هكذا أرى السعادة .

ختاما يجب القول بان الانسان يتخيل السماء بما يمليه عليه قلبه، غير ان ما أملته هذه القلوب وألوف قلوب اخرى غيرها ، ليس الا قطرة في بحر مقارنةً  بالسعادة الحقيقية التي ستوفرها السماء في عالم الكمال المطلق وفي حظرة الله.






ورد الينا عبر بيريد الموقع


Matty AL Mache