غيوم مقلقة فوق بغداد – 2- العوامل الداخلية للدكتاتورية

بدء بواسطة صائب خليل, مايو 22, 2012, 09:18:01 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

استنتجنا في الحلقة الأولى من هذه المقالة(1) ، ومن خلال التصريحات التي جاءت في مقابلة رئيس الحكومة نوري المالكي مع قناة العراقية في 9 أيار الجاري(2)، أن الوضع في العراق ينبئ بخطر محتمل على الديمقراطية من جانبي الصراع، وضرورة المحافظة على حرية المناقشة، ورفض الإستقطاب والتأييد غير المشروط، دون التنازل عن المواقف. ففي الساحة الهادئة التي تتيح للجميع الحديث، وتجبر الجميع على الدفاع علناً عن مواقفهم، تجد الديمقراطية فرصتها الأكبر للإنتصار.
هذا لمن يسعى للديمقراطية، فماذا عن من يسعى للدكتاتورية؟

يحتاج رئيس الحكومة الديمقراطية إن طمح للدكتاتورية، أن يؤمن عدداً من النقاط، أولها السيطرة على جهاز الأمن والجيش بشكل مباشر وكبير. ومن ملاحظة الخطوط العامة، نجد هذا الإتجاه موجود لدى المالكي بالفعل. ورغم أنه طرح أسباباً لذلك، فأن مثل هذا الوضع يتيح له، سواء أتى بقصد أو غير قصد، تحقيق الشرط الأول لإقامة الحكم الدكتاتوري ويترك له أن يقرر بنفسه أن يستفيد منه أو لا يفعل.

الإنتقال من الديمقراطية أو المشاركة إلى الدكتاتورية يمر بمرحلة أنتقالية غير واضحة المعالم وحرجة. ولكي يصمد الدكتاتور على رأس السلطة في تلك الفترة، عليه أن يؤمن، إضافة إلى سلطته على القوات المسلحة، تأييداً جماهيرياً كافياً لإعطاء حزبه الأصوات اللازمة، وأن يؤمن بطريقة ما، انتخابه من داخل قيادة حزبه سواء عن طريق الضغط والتخويف والرشوة، أو عن طريق إقناع الحزب أنه هو شخصياً من يجلب للحزب اصوات الناخبين، وأنه بالتالي "قائد ضرورة" للحزب إن أراد الحزب أن يحكم.

وقد لا يتورع الرئيس في الإستفادة من سلطته على الأمن لـ "تشذيب" الأصوات المعارضة داخل كتلته أو إئتلافه أو حزبه، إن كانت محدودة، كما أن مجرد الخوف من تلك السلطة يكفل له سكوت أغلب أصوات المعارضة داخل الحزب بلا عنف. وللخوف اشكال مختلفة. الخوف من القائد، أو الخوف على وحدة الحزب أو الخوف على مكانة الشخص المعارض بين رفاقه أو وظيفته أو غيرها، وكلها أسباب تؤدي إلى نتيجة واحدة رغم اختلافها، وهي أن الرأي المعارض في داخل الحزب لا يشعر بالحرية للإفصاح عن نفسه، وبالتالي يهيء الجو لنشأة دكتاتورية داخلية وتطورها. وهنا تلعب ظاهرة "حلزون الصمت" النفسية المعروفة التي كتبت عنها قبل سنين(3) دورها في تثبيت صمت المجموعة، حيث يتصور كل فرد من المجموعة التي يخيم عليها الصمت، أنه الوحيد المعترض، فيفضل السكوت، ويشجع بذلك الآخرين على السكوت أيضاً، وهكذا تكبر دائرة الصمت كالحلزون.

في الغالب يبدأ الصمت بأن ينتظر المعارضون "وقتاً أفضل" لإبداء اعتراضهم، مثلاً أن يعبر الحزب أو الحكومة أو الدولة "الأزمة"، لكن الدكتاتور المحتمل، يعرف ذلك جيداً وسوف يحرص أن هذا "الوقت الأفضل" لا يأتي أبداً، وأن "الأزمة" ستمتد وقتاً يكفيه لتأمين سلطته وفوات فرصة مجابهته. "الأزمة" هي الرباط اللاصق الذي يستطيع أن يبقى تلاحم الحزب أو المجموعة رغم الإختلاف، والمانع الذي يستطيع لجم الأفواه وتأجيل الإعتراض، حتى يتم بناء ما يكفي من "الخوف" لأستلام تلك المهمة بشكل ثابت.

لنعد بعد هذا النقاش العمومي، إلى الحالة العراقية، ونسأل: هل أن للمالكي من الصفاة ما قد يدفعه إلى الدكتاتورية؟ هل هناك مؤشرات سابقة في تصرفاته لذلك؟ هنا مسألة تقدير ورأي، وفي تصوري، نعم هناك مؤشرات مقلقة لذلك. ورغم أن "المؤشرات" ليست دليلاً حاسماً فهي جرس إنذار مبكر مهم.

- صولة الفرسان:  أذكر أن المالكي كان في أقصى حالات فرحه وفخره حين قاد "صولة الفرسان" شخصياً، رغم أنه ليس رجلاً عسكرياً، وبقي يردد بفخر أنه "اتخذ القرار وحده" (وهو أمر غير قابل للتصديق في بلاد محتلة بجيوش أجنبية تسيطر تماماً على الوضع اللوجستي والمعلوماتي والأمني، وقد تصطدم وحدات منها بتحركات العسكر الآخر ما لم تفهمه وتنسق معه، وبالتالي فهو غير معقول وغير سليم لو كان فعلاً قد فعل ذلك). ورغم أن الكثير من مؤيدي المالكي يعدون صولة الفرسان من إنجازاته، والكثير من الآخرين يعتبرها دليل على لا طائفيته، فأن الصولة نفسها وأسلوبها والفخر به، تدل على ميل قوي لتفضيل الحلول العسكرية العنيفة، واعتبارها فرصة لعرض القوة. ولنلاحظ أن المالكي لم يحاول أبداً حل المشكلة أولاً عن طريق قانوني، والمفروض أن تعطى مثل هذه الأمور وقتا وجهداً كبيرين لإيجاد حل قانوني سلمي اولاً، وتجنب الحلول العسكرية وكوارثها قدر الإمكان (وتفسيري الشخصي هو أن الأمريكان لم يكن يناسبهم ذلك)، وهو ما دفع ثمنه لاحقاً بعد الإنتخابات الأخيرة من إشكالات مع التيار الصدري، ماتزال آثارها مستمرة حتى الآن.

- اعتقال رسام: اعتقلت السلطات يوماً رسام الكاريكاتير سلمان عبد (5) لأنه رسم المالكي في كاريكاتير بسيط لم يكن فيه أية إهانة له، وهي من حركات الدكتاتوريات. ورغم أن الحادثة بسيطة، إلا أنها مؤشر خطير. الظريف ان مجلة نيوزويك الأمريكية نشرت نفس فكرة الكاريكاتير(6) عند انسحاب الجيش الأمريكي، ولم يشر أحد إلى ان المالكي قد انزعج منها.

- الإتفاقات الأمريكية: واتخذ قراراه دون استشارة رفاقه، بتوقيع الاسطر الأولى من الإتفاقية الأمريكية وأسماها "مذكرة تفاهم" وهي من مراوغات الإدارات الأمريكية المعروفة،  يبعد بها الساسة الأمريكان برلمانهم عن صلاحياته من خلال تسميات غير صحيحة.

- حالة الطوارئ: مدد إعلان حالة الطوارئ بدون موافقة البرلمان في حكومته الأولى، وهي مخالفة دستورية كما اعترض التيار الصدري حينها. ونذكر أن تمديد حالة الطوارئ أمر خطير استعمل كثيراً لتثبيت حكم دكتاتوري في بلدان عديدة، ولذا يناط القرار بموافقة البرلمان.

- إخفاء معلومات جرمية: إخفائه معلومات جرمية خطيرة عن أعضاء في حكومته حتى اللحظة التي يقرر فيها إبرازها. وقد برر له ذلك بعض رفاقه في حالة الهاشمي، بأن الأمريكان كانوا يمنعونه من ملاحقة الإرهاب (والفساد) وأنه فعل ذلك بمجرد خروجهم، لكن ذلك لا يبرر توقيت إثارة الموضوع في حالة النائب الجنابي، الذي كان من الواضح أن المالكي استغل معلوماته لصالحه الشخصي المباشر للتخلص من هجوم النائب عليه في البرلمان واتهاماته له، وفي اللحظة المناسبة له وليس للوطن، كما يقول في حالة الهاشمي. وهو اليوم يستمر بإخفاء المزيد من المعلومات باعترافه ، رغم أن الأمريكان قد رحلوا.

- الدكتاتور العادل: تكاثرت في الإعلام مؤشرات مقلقة لا يمكننا أن نعلم مدى علاقة المالكي بها. مقالات عن "الدكتاتور العادل" والهجوم الشديد على البرلمان بشكل عام، رغم أن البرلمان ليس خليطاً متجانساً ونادراً ما تصح مهاجمته ككل. وكذلك التأكيد على مساوئ الدستور والدعوات لإلغائه، الخ. والحقيقة أن النقطة الأخيرة يشترك فيها جميع الأطراف مثلما يشتركون في العودة للتأكيد على أهمية احترامه، ولكن من قبل المقابل.

- الدعاية الشخصية المباشرة: في مقابلته مع قناة العراقية قال المالكي هذه العبارات معيداً الفضل كله لنفسه شخصياً:
"أطلب مبلغ مليارين دولار أبني بيوت للفقراء توزع مجاناً، يعترضون عليها في البرلمان وحينما يصوتون ضدها يصفقون.. "
"من الذي دفع الثمن؟ دفعه المواطن البريء الفقير اللي ما عنده وحدة سكن وآني دا أسويله 140 الف وحدة سكن واوزعها مجاناً..."
"لولا أني ماسك الأمور لكان العراق فرط"
"لعلي الوحيد الذي ادافع عن شيء أسمه العراق ، ودستور العراق والآخر يتعامل معه على خلفيات ... "
"أنا الآن ألأكثر تحملاً لهذه المسؤولية .. مشكلتي أني أقوم بهذا الدور"
"أولى خطاياي وخطيآاتي شلون عدمت صدام حسين هي الجريمة التي لا تغتفر  والتي لا تزال تغلي في كل الدول وفي الداخل شلون آني ألاحق الذين يريدون العودة بالعراق الى الإنقلابات ، شلون ضربت الميليشيات والطائفية .."

- إهمال رأي ومصالح الشعب: نذكر ان المليارين التي قال الرئيس أنه طلبها "للفقراء"، قد خصصها بالدفع بالآجل دون غيرها، رغم مرارة تجربته مع الآجل التي دفعته لإقالة وزير الكهرباء السابق، مما يعني أنه أخذ بنظر الإعتبار أنها لن تنفذ أصلاً، ورغم الحركات الإعلامية للسنيد بالتهديد بالإستقالة. هذا وعلماً أن هذين المليارين هما كلفة مؤتمر القمة حسب بعض التقديرات، والتي علق عليها المالكي خطأً بأن القمة كلفت اقل من نصف مليار، وانها "ستبقى للشعب"، علماً أن الكلفة المباشرة المسحوبة لها كانت 550 مليون، وبحساب كلفة الرواتب المعطلة والحياة المعطلة بمنع التجول يكون المليارين تقديراً معقولاً إن لم يكن متحفظاً. أما كونها "ستبقى للشعب" فلا شك أن الذي "يبقى للشعب" أكثر، هو بناء مساكنه ومدارس أبنائه الطينية وليس المزيد من البذخ على فنادق الدرجة الأولى.
نلاحظ أن الذين استطاعوا "منع رئيس الوزراء من خدمة الفقراء" كما يقول، لم يستطيعوا منعه من إقامة مؤتمر القمة، ولن يتمكنوا من منعه من أستضافة مؤتمر 5+1 رغم أنه كما تؤكد المصادر الحكومية وكذلك وسائل الإعلام أن شركاء المالكي سعوا ويسعون جهدهم لمنعها! (7)

- الشفافية: ليست الشفافية من ميزات السيد المالكي بالتأكيد. وهو في شروحه يتجنب من الحقائق أكثر مما يطرح، وهذا أمر مقلق. لقد قال المالكي في مقابلته: "نريد الإجتماع الوطني يعلن ليراه المواطنون" وأنا لا أقف معه في ذلك فقط بل أطالبه بالوفاء به، لكني من خلال متابعتي للمالكي وخياراته، متأكد أنه سوف يتراجع عنه حين تحين الساعة، وسوف يعتمد على نسيان الناس له، ولن يقدم أي شرح عن سبب التراجع.

- مدى الإلتزام بالقانون: ليس صحيحاً أن رئيس الحكومة ملتزم بالقانون، فإضافة إلى الأمور المعروفة مثل إخفاء المعلومات الجرمية التي يعترف بها ويتيحها لنفسه، والكثير من الأمور الأخرى، فأن لدي بضعة مواضيع تابعتها شخصياً لا تدل على ان العراقيين يعيشون في بلد تحترم فيه الحكومة القانون كما تدعي وكما يوحي إسمها.
أذكر من تلك على سبيل المثال الواضح، أن تحقيقاً لم يجر مع الرئيس السابق للمحكمة الجنائية العليا رغم أني قدمت وثائق (8) تثبت أنه أرتكب عملاً غير مسؤول ورغم خطورة موقعه، باستعمال سلطاته القضائية بشكل غير معقول لملاحقة حتى الذين يختلف معهم في قضايا عائلية، ولا يتورع أن يتهمهم بتهم "الإبادة الجماعية" الخطيرة التي تختص بها محكمته! وكان شاهد على الوثيقة أحد البرلمانيين، وقدمتها إلى كل الجهات المسؤولة بما فيها رئاسة مجلس الوزراء وأجابوني باستلامها، كما كان قد قدمها صاحب الشكوى، ودون أن يحدث أي شيء.
إن لم تحصل قضية بهذه الوضوح والفضائحية، ورغم إعلانها على الناس، على المحاسبة القانونية فأي احترام يمكن ادعاؤه للقانون؟ إني لا اشك أن الكثيرين قد استفادوا من وجود شخص سهل الإرتشاء في هذا الموقع الخطير، ولا أستبعد ابداً أن يكون المالكي واحداً منهم بعدما حدث، خاصة أن رئيس المحكمة هذا قد عين بتوصية من المالكي نفسه!

هذه وغيرها كثير، وربما يعرف كل عراقي قصصاً أخرى ودلائل اخرى غير مريحة. ولو أتت كل واحدة من هذه النقاط بشكل منفرد لربما أمكن تجاوزها، لكن المقلق أنها كثيرة، ورغم ذلك يكثر الحديث عن الإلتزام بالقانون.

أما ناحية السيطرة على الحزب، فمن الصعب في هذه اللحظة تقدير إلى اي مدى يسيطر المالكي على حزب الدعوة. لكن هناك مؤشرات مقلقة أيضاً نستنتجها من بضعة ظواهر، لعل أهمها ردود الفعل الحزبية على موضوع ولايته الثالثة، فهذه قضية خلافية بامتياز ولوجهتي النظر حججها المتقاربة القوة، فعندما لا نجد صوتاً واحداً داخل تنظيم سياسي يتبنى وجهة النظر الأخرى المعقولة، فإننا نشعر بالقلق، لأن مثل هذا الرأي لابد أن يكون موجوداً، وأن شيئاً ما يمنعه من الإعلان عن نفسه.
كذلك لم نسمع صوتاً يحتج على إعادة العلاقة مع صالح المطلك، وكأن الموضوع إن قال المالكي عن شخص أنه سيء، ينهال جميع الرفاق عليه باللعنات ويصبح شيطاناً يستحق حتى من يتعامل معه اللعنة، وما ان يرضى عنه الرئيس حتى تخنس الأصوات كلها فوراً. إنها أيضاً ظاهرة لا تدعو للإطمئنان.

في الخندق المقابل يقف خليط غير متجانس يقوده مسعود البرزاني واياد علاوي، وهما بلا شك آخر من يمكنه أن يتكلم بالديمقراطية والدكتاتورية دون أن يثير الإبتسام. فالأول قابع هو وعائلته على السلطة منذ عقود، ولم يؤسس ميزانية لـ "بلاده" إلا بعد خمسة عشر عاماً من صرفها كما يهوى، مع شريكه الآخر، وله قصص ليست مشرفة حتى مع صدام حسين في ضرب شعبه عندما احتاجت مصلحته ذلك، وقام بتحويل مصيف سره رش، إلى قرية مغلقة له يسميها الكرد "العوجة" تشبها بعوجة صدام حسين!
أما الدكتور اياد علاوي، وحتى إن تغاضينا عن ماضيه غير المشرف، فيكفي ان نقول أن أحداً لم يستطع اليوم أن يؤلف معه أي تكتل سياسي لم يتحطم بعد حين، والسبب المطروح دائماً، إن لم يكن تبعية الرجل لأجندات أجنبية، فهو "دكتاتوريته" في اتخاذ القرارات، ومع ذلك فلا احد ينافسه في الحديث عن أهمية الديمقراطية والمشاركة في القرارات! إن كنا قد تحدثنا هنا طويلاً عن نواقص المالكي ومصادر قلقنا منه، فقد سبق أن كتبت مقالات كثيرة وطويلة عن فساد الجانب المقابل وأكاذيبه، ولا يستحق هنا أن نعيدها.

لقد أستعمل خصوم المالكي بعض المواضيع لتبيان اتجاهه إلى الدكتاتورية مثل موضوع الهيئات المستقلة والنفط والمشاكل الحدودية والمطارات وتحركات البيشمركة وسلطتهم العليا على الجيش الإتحادي ليس في كردستان فقط، بل حتى في المناطق التي قرروا أنها "متنازع عليها". هذه كلها وغيرها نحن لا نريد أن يتم التنازل عنها أو التراجع بشأنها أية خطوة، فهي ليست فقط مسألة منطقية ومبدئية، وإنما تشكل إحساساً بالمهانة في الشارع العراقي العربي، وإن تم تغطيتها تحت البساط فستظل تستعر في النفوس وترفع الكراهية بين "شعوب" هذا الوطن. من السخف إتهام الحكومة او المالكي بالدكتاتورية لطرحه وإصراره على مثل هذه المواقف، فلا يوجد بلد ديمقراطي في العالم يقبل به الرئيس الإتحادي بمثل هذا الخلل في بلاده.

إن طرح هذه النقاط واتهام المالكي والشهرستاني على أساسها بالدكتاتورية ليس سوى إحتيال، فموقف المالكي فيها موقف الغالبية الساحقة من الشعب العربي (وأقليات أخرى) الذي يمثل الجزء الأكبر من سكان العراق، فكيف يكون مؤشر دكتاتورية؟

أن من يثير هذه المواضيع ليس قلقاً على "الديمقراطية"، وإنما أجندته الخاصة، بل وأحياناً الأجندة الأمريكية المكلف بالدفاع عنها! فمثلاً موضوع "الهيئات المستقلة" في حقيقته جزء من البرنامج الأمريكي للسيطرة على سياسة العراق وأمواله، من قبل الشركات الأمريكية، وبنفس الطرق التي سيطرت بها على مقدرات الشعب الأمريكي، بإبعادها عن سلطة الشعب، لا أكثر ولا أقل. فلا يهم أحداً أن تكون هذه الجهات "مستقلة" إلا من يريد التسلل إلى سلطتها بعد تحريرها من المسؤولية من أية جهة ذات سلطة شعبية مثل الحكومة المنتخبة أو البرلمان. فمن مهازل الرأسمالية الأمريكية شديدة التطرف حقاً أن يكون البنك المركزي "مستقلاً"! كيف يكون مستقلاً؟ ما هي أهدافه؟ من يحددها؟ كيف يسمح لمؤسسة أن تتحكم بمصير ثروات الشعب دون أن يكون للشعب أي رأي فيما يقرره؟ إنهم يريدون تكرار الفضيحة المالية الأمريكية بتسليم الشركات البنك الإتحادي الأمريكي في مؤامرة تمت في الظلام مستغلة غياب بعض نواب الكونغرس في إجازة في عام 1913، لتمرير تلك المهزلة التي يدفع ثمنها الشعب الأمريكي اليوم بفقدانه كل سيطرة أو تأثير على أهم مؤسسة مالية تتحكم ببلاده، والآن يريدون تمريرها في العراق. لذا فرفض استقلال هذه الهيئات، ليس له علاقة بالدكتاتورية، بل هي صميم الديمقراطية، إن عرّفنا الديمقراطية بأنها سلطة الشعب على بلاده ومقدراتها.

ولقد أشار المالكي إلى أن المحكمة العليا قررت أن تلك الهيئات تقسم إلى هيئات تنفيذية وهيئات تشريعية وحكمت بتقسيم تبعيتها بين الحكومة والبرلمان، ومن حق الحكومة الديمقراطية بالذات، بل من واجبها، أن يتم تنفيذ قرار المحكمة العليا، وهو قرار منطقي يعطي السلطة التنفيذية مالها والتشريعية مالها، ويسهم بذلك في فصل سلطتيهما عن بعضهما البعض، وإلا فكيف سيمكننا غداً من محاسبة الحكومة إن أدت سياستها المالية إلى كوراث، خاصة مع كل أزمة مالية قادمة تقودها البنوك، وهي قادمة بلا أي شك؟

هذه الإتهامات الضعيفة والخطاب غير المقنع وانخفاض المصداقية، لم تتسبب فقط في فشل خصوم المالكي في الوصول إلى الشعب، بل أوصلت الشعب إلى الشك بنواياهم وأوصلتهم إلى حد اليأس كما يبدو واضحاً من الإنشقاقات المتكررة والتصريحات التي تبرز بين الحين والآخر صريحة وآخرها عند كتابة هذا المقال تصريح النائب عن العراقية طلال حسين الزوبعي(9) "أن المعارضين لنوري المالكي لا يملكون القوة والقدرة على تحسين الوضع السياسي" و "لا نتفاجى من فشل اجتماعاتهم."

لكننا يجب أن لا نعتبر أن سوء خصوم المالكي مهما كانت درجته، مبرر لقبول المؤشرات المقلقة بالمقابل، والتي تشي بأن المالكي قد يكون سائراً في طريق خاطئ وخطر، إن لم يكن نحو الدكتاتورية فنحو التفرد في القرار، كتعبير عن دكتاتورية مخففة. فإن كان الأمل للعراق يبدو في جانب حكومة المالكي، فيجب الحرص ليس فقط أن تكون هذه الحكومة أفضل من خصومها المغرقين في السوء، وإنما أن تكون هي بذاتها ديمقراطية قدر الإمكان وحضارية قدر الإمكان، فلا يكفي أن يكون القائد أفضل من الهابطين مثل صدام حسين او أياد علاوي ورفاقهما، ليوصل البلد إلى بر الأمان في هذا الوضع الصعب.

قبل الختام أشير لنقطة أخيرة وردت في أحد التعليقات المهمة حول الحديث عن تجميد الدستور في الحلقة الماضية، وأن ذلك قد يكون خياراً مقبولاً للمالكي ضد من لا يلتزم به، فأجبت:
علينا اولاً ان نتساءل: هل ان ألمشكلة في هذه القضية في الدستور؟ يعني هل يرى المالكي حلاً، والدستور يمنعه منه؟ لاحظ أن المالكي لم يشكُ من ذلك، وإنما كان يشكو أنه لا يتمكن من ممارسة صلاحياته التي يقرها له الدستور، وبالتالي فما يعرقله على ما يبدو هو قوة خارجية ما (أميركا فيما أفترض، والتي تصر على "حكومة الشراكة" المدمرة، كما فعلت في دول عديدة أخرى؟) تمنعه من استخدام كل الأدوات الدستورية المتاحة له. فمثلاً الدستور يتيح للمالكي أن يعلن حكومة أغلبية لكنه لسبب لا افهمه ابداً ، يمتنع عن ذلك باختياره أو يرى ما يمنعه. هذا الشيء الذي يمنعه، مهما كان، لن يزول بإزالة الدستور، وبالمقابل فخسارة رئيس الحكومة لموقفه باعتباره حاكماً شرعياً حامياً للدستور، ستبعد الكثير من المؤيدين له وتجعل موقفه أضعف كثيراً وبلا مقابل، وبذا تتيح لخصومه فرصاً جديدة للهجوم عليه.

أخيراً أقول أن هناك فرق اساسي بين المالكي وخصومه، وإن كنا نخشى ان يتحول المالكي إلى دكتاتور، ونراقب المؤشرات بقلق وندعوا لمساعدته على عدم الإنزلاق بالنقد والمفاتحة الصريحة، فأن الخصوم دكتاتوريين بامتياز ولا يرجى صلاحهم من هذا المرض وإن كان أذاهم محدوداً حتى الآن فذلك لمحدودية قدراتهم فقط. التاريخ يكرر نفسه، وهاهو المالكي يحتاج إلى "الدعم الناقد المسؤول" كما كتبت يوماً وتحت ضغط نفس المشاكل: "هل سيحصل المالكي على الدعم المسؤول من مؤيديه في مهمته الصعبة؟" (10)

الحلقة القادمة ستكون حول العوامل الخارجية المشجعة لظهور الدكتاتورية بالنسبة للحالة العراقية.

(1) الحلقة الأولى من هذه المقالة http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16570
(2)  مقابلة السيد المالكي مع قناة العراقية – 9 أيار:
لقاء دولة رئيس الوزراء على قناة العراقية 9 ايار 2012 جزء1
(3) حلزون الصمت – صائب خليل
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=28969
(4)  http://alhurrya.com/?p=6451
(5) الكاريكاتير إبتسامة لحمها مر لمن يحاول افتراسها – صائب خليل
http://www.yanabeealiraq.com/articles/saib-khalil190409.htm
(6) http://up12.up-images.com/up/viewimages/5c504da614.gif
(7) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16699
(8) هل يصدر رئيس المحكمة الجنائية العراقية العليا أوامر القبض لحل مشاكله العائلية؟ - صائب خليل
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=54604
(9) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16692
(10) هل سيحصل المالكي على الدعم المسؤول من مؤيديه في مهمته الصعبة؟- صائب خليل
http://www.sautalomal.org/index.php/2012-05-17-15-33-02/1895-2010-11-29-22-37-27.html