تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

هكذا قال الغراب / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, مارس 27, 2012, 10:25:38 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

هكذا قال الغراب



شمعون كوسا

إشتدّ بي الشوق للكتابة ولكني لم اجد شيئا أكتبه . راجعت مواضيعي السابقة فرأيت باني قد غطيت مجالات واسعة ، وما لم اتناوله كاملا وبعمق عرّجت عليه جزئياً ، وفي كثير من الاحيان ذهبت الى حدّ تكرار نفسي .
خاطبت نفسي مرة اخرى وقلت كعادتي ، وما العيبُ في إعادة الاشياء ، أوليست الحياة كلها تكرارا، وهل يتّعظ الانسان مثلا من أول عِظة أو يرعوي بعد أول نصيحة ، ألا يعيد الناس نفس الكلام يوميا عن نفس المواضيع كي ينتهوا بنفس الاستنتاجات ويعيدوا الحديث عن نفس المبادئ ، وهل هناك جديد تحت الشمس ؟
بعد هذا الكلام الذي كنت احتاجه لقناعتي الشخصية ، وضعت القلم جانبا ودعوت نفسي الى نزهة بين احضان الطبيعة التي كانت وستبقى مصدرَ إلهامي والمعين الذي أنهلُ منه ما ينعش نفسي في اوقاتٍ تعجز فيها أرقى مراكز الانعاش القيام بهذه المهمة .
كان الموسم ربيعا وكل ما فيه بدأ يبتسم ، فالاشجار شرعت بارتداء قسم من ملابسها الداخلية الشفافة بانتظار بدلتها الرسمية الخضراء ، وبعض الزهور كانت قد اختارت الالوان التي سترتديها في هذا الموسم ، والعصافير خرجت بموسيقاها والحانها وتقليعتها لهذه السنة ، والنسيم اضحى يهبّ بهدوء لانه قيل له انه آخر عنقود الرياح ، والغيوم البيضاء كانت قد اكملت انسحابها الى الحدود لكي تكشف عن قبة زرقاء رائعة الجمال . أما النهر الذي لم تتوقف حركته يوما ، كان منشغلا جدا ومثقّلا بأحمال تركتها له الامطار والثلوج وانصرفت .
كنت انظر واتأمل واتوقف قليلا واناجي احيانا ، وهكذا لم اشعر بالوقت الى ان وصلت موقع المصطبة التي جمعتني ذات يوم برجل عجور إلتقيته دون ميعاد واصبح فيما بعد من أعزّ اصدقائي . اعادت المصطبة الى اذهاني صديقا لم يشبع أبداً من التحدث عن تجاربه في الحياة ، صديقا لم يبخل عليّ بنصائحه وخزين امثاله ، صديقا أطربني بما يشنف الاذان من اعذب الالحان التي تنفذ الى اعماق الروح ، الحان ترفع اسمى ما في الانسان الى الاعالي وتدعه معلقا في اجواء سعادة لا توصف . انها لحظات يتمناها الانسان ألاّ تغيب ، لحظات يضمحل فيها الانسان قليلا فقليلا ويتحول الى ذرات تتناقلها النسائم وتعيدها الى نفسها لتطيل سعادته . وهو العجوز نفسه الذي اسمعني أيضا الحان حزن لم يكن بوسع سامعها اخفاء دموع تبدأ غيضا وتنتهي فيضا ، الحان هي ضالّة ينشدها كل ذي قلب مكلوم أو من لم يروا من الدهر الا غدره . كان العجوز يُطرب حقا لان الله كان قد حباه بصوت جميل ينتقي ما يقوله من بين اعذب الالحان .
كان من الطبيعي ان اجلس قليلا لاستردّ بعض الذكريات واجترّ بعض لحظاتها السعيدة . نظرت حواليّ قبل ان اغمض عيوني فابصرت سربا من الطيور يحطّ على الارض قريبا من الشاطئ ، كان السرب يتكون من غراب ، وبلبلين ، وببغاء وهدهد ، ودوريّ ، وزرزور ، وبوم وسنونو ، وانظم الى السرب من جهة البرّ حمامتان وبطة .
كان السرب الذي يتقدمه الغراب يتقدم نحوي بخطى ثابتة وثقة تامة . أُصِبت بدهشة جعلتني انهض تلقائيا ، ولكني استدركت نفسي وقلت : اليست هذه فعلا سخرية القدر ، ان اترك مكاني هربا من الطيور فيما يُفترض أن يكون العكس ؟!!
وبلغت دهشتي اشدها عندما سمعت الغراب يخاطبني ويقول :
لقد رأيناك كثيرا وانت تحجّ الى هذا المكان ولقد سمعتُ شخصيا الكثير من احاديثك مع العجوز واصغيت بانشراح لالحانكما ، لقد قصدناك اليوم انا وزملائي هنا لفتح حوار خاص معك .
أوقفتُ الغراب وقلت له : ومن اين اتيت بقابلية الكلام هذه ، فها إني ألتقط كلامك وكانك تنطق بعربية فصحى لا غبار عليها ؟ اجابني : ألم تسمع عن الغربان وذكائهم وبأنهم أحكم قوم بين الطيور ؟ الم تسمع عن معشر الغربان والاجتماعات التي يعقدونها فوق الاشجار لمناقشة بعض الامور بنعيقهم الخاص ؟ أمّا عن السمعة السيئة التي الصقت بالغراب بأنه نذير شؤم لانه لم يعد عندما أطلقه نوح من الفلك ايام الطوفان ، فان ذلك كان لظروف خاصة جدا لا تذكرها الكتب ، ولا سبيل لذكرها الان لئلا ندخل جميعا دائرة التزوير والكفر !!
بعد هذه المقدمة ، دعا الغراب الهدهد للكلام ، فاصدر هذا بعض اصوات غريبة استغرقت دقيقة واحدة ، ترجمها الغراب على النحو التالي :
يقول زميلي الهدهد، انتم البشر قد عكّرتم علينا صفو عيشنا واحدثتم خللا في نمط حياتنا . لقد دأبتم على استخدام سموم ومبيدات حشرية على الزهور والاشجار وبعض الخضراوات والمزروعات الاخرى ، ان هذا يؤثر علينا جميعا ، وإن بعض انواع الطيور والحيوانات والحشرات هي في طريقها الى الانقراض . أن بعض المحلقين عالياً من بين زملائنا الطيور يرون بان شبكات طيرانكم قد قلصت ممراتهم وكثيراً من المسارات اصبحت احادية الاتجاه ، لقد فقدت الاجواء نقاوتها ومياه البحار أيضا لم تتركوها على طبيعتها وكأن بواخركم مكلفة بعملية تلويث البحر ، فتقوم بتسريب كميات من الوقود مع التوصية بزيادة رقعتها .
قلت للغراب ان صديقك محق بكل ما قال وساكون كاذبا اذا عارضته .
بعد هذا تقدم البلبل بايعاز من الغراب ، وبدأ يغني بصوته الشجي ، فنوّع وأطال . قلتُ للغراب وماذا يقول زميلك البلبل ؟ اجابني : ان هذا البللبل ألثغ ويعيد كل جملة ثلاث مرات ولكننا نتحمله لانه يطربنا بصوته الشجي، ولكن مجمل ما اراد التعبير عنه هو :
بالاضافة الى التلوث الذي تحدثونه والذي وضحه صديقي الهدهد ، فان الاصوات والضجيج والتفجيرات التي تحدثها اسلحتكم وصواريخكم واجهزتكم الاخرى ضيّقت علينا رقعة سكينتنا واختصرت أوقات الهدوء التي نحتاجها ، ناهيك عن هواياتكم في الصيد والقتل العشوائي ، لانكم اذا لم تصطادونا وضعتمونا داخل اقفاص كالمجرمين وبعد فترة صغيرة تقودون بعض اصنافنا الى المجزرة .
ابتسمتُ للبلبل دون ان انبس ببنت شفة . وهنا نادى الغرابُ العقعق الذي بدأ من مكانه باصدار اصوات قصيرة ومتقطعة لم تتوقف الا بأمر صارم من الغراب الذي التفت اليّ معتذرا وقال :
لا تؤاخذه انه مريض ، نصف كلامه كان محاولة لتصفية حنجرته ولكني أعرف ما كان يود قوله ، أرجو ألاّ تمتعض لانه ذهب بعيدا في كلامه ، فانه قال :
انكم لم تتركوا شيئا على طبيعته ، لقد اضررتم بنا كما اضررتم بنفوسكم ايضا . ان تقدمكم وتكنولوجيتكم بقدر منافعها الانية تحمل مساوئ جمة . هل بقي لديكم طعام صحي ؟ هل ابقيتم شيئا على حاله دون ان تتلاعبوا به ؟ ان الكثير من اكتشافاتكم التي ترونها صحيحة في البداية تنتهي بعد بضع سنوات بنتائج عكسية وهذا صحيح لكثير من ادويتكم التي يتضح بعد بضع سنوات من الاستعمال بانها تسبب السرطان ، فالدواء يتحول الى داء . ان جانبا لا يستهان به من تقدمكم بات يشكل خطراعليكم ، فاصبحت حياتكم من انبلاج الفجر الى ساعة الغروب لحظات توتّر وهمّ وخوف . اجهزتكم وحواسيبكم تقودكم الى الانزواء والتقليل من اوقات علاقاتكم .
قلت للغراب : إنّ زميلك يتدخل فعلا في شؤوننا ، ولكني بالرغم من ذلك اقول بانه محق كزملائه الذين سبقوه . انا اوافقكم الرأي ولكن البشرية قد دخلت دوّامة تطور لا رجوع عنها ، فالحياة اصبحت مغامرة ، ينتفع منها البعض ويتضررمنها الكثيرون سيّؤو الحظ .
هنا اعطى الغراب الكلام الى الببغاء ، وقال لبقية أعضاء وفدِه بان هذه ستكون آخر مداخلة ، وطلب من الببغاء ألاّ يطيل الكلام لانه معتاد في كلامه على القفز من قصة الديك الى رواية الحمار!!
تقدم الببغاء قليلا وقام بترديد بعض الاصوات والعبارات ، بين صفير ومفردات منفصلة وجمل نصف مفيدة وحتى شتائم . إبتسم الغراب وهزّ رأسه واسرع الى الترجمة فقال :
ان الببغاء لقربه من البشر ، ولكثرة ما سمعه وردّده طوال سنين فانه يتجاوز بعض الحدود ، ولا اعرف الان هل يجب عليّ تفسير حديثه كاملا أم لا ، لانه تكلم هنا مدّعيا بانه فيلسوف وقد تطرق الى مواضيع حساسة جدا ، فقد قال :
انكم مولعون بالمناقشة الشديدة والاختلاف والانقسام والخصام والقتال حتى الحرب . انكم توّاقون للانفراد برأيكم والتميّز بأنانيتكم في كل شئ . لقد عشتُ داخل بيوت وسمعت نقاشات دينية وطائفية ، وسمعت ايضا عن خصامات وحتى معارك بسبب اختلافات العقائد . السؤال الذي يحيرني فيكم هو ، ألا تقولون أن الهكم واحد ، أوليس الله خالقكم جميعا ، اليست بشريتكم تجمعكم ، لماذا تختلفون وتقتلون بعضكم البعض باسم إلهكم الواحد. كل جهة تصرّ بانها الأحق وغيرها على ضلال ، فهل يحتاج الله الى خصاماتكم وحروبكم لحماية نفسه ؟
ان إيمانكم هو مجرد تقليد لانكم لا تتصرفون بموجبه . كان يكفيكم البحث في كتبكم ، ليس عن فصل ، ولا عن صفحة ، ولا عن فقرة ، ولا عن سطر ، ولكن عن كلمة واحدة مكونة من اربعة احرف ، كلمة واحدة تجمعكم جميعا ، كلمة يكتفي بها الله لعبادته لانها تنظم امور البشر ، كلمة اسمها المحبة ، كلمة بسيطة جدا ولكنها باهظة الثمن !!!
كان يعتقد الغراب بان الببغاء انهي حديثه ، ولكن هذا الاخير ، مندفعا بحماسه ، استأنف كلاما آخر ترجمه الغراب بامتعاض على النحو التالي :
أما عن موضوع الطوائف اريد ان اقول : بالرغم من كونكم حفنة صغيرة ، لقد نجحتم في ايجاد تسميات مختلفة تفصل تجانسكم وتقسم وحدتكم . كان يكفيكم الانضواء تحت تسمية جميلة ومقدسة تجدون فيها دينكم ولغتكم ، تحت لواء من لم ينادِ يوما بالقومية لانه قال : اذهبو الى جميع الامم وبشروهم .. . وعوضا عن ذكر مفاخر اجدادكم الذين عاشوا قبل ثلاثة او اربعة الاف سنة ، الم يكن الاجدر بكم القيام انتم بما يجعلكم أهلاً لحمل اسم اجدادكم هؤلاء ، أوليست امثالكم التي تقول : ليس الفتى من قال كان أبي ، انما الفتى من قال ها أنذا ، أو المثل الاخر: لا تقل أصلي وفصلي ابدا ، انما اصل الفتى ما قد حصل .
قبل ان ينصرف وفد الطيور ، قلت للغراب انصحك بوضع حماية لبعض من تكلموا من بين اخوتك وخاصة الببغاء لانه حتى الانبياء في حينه لم يسلموا من يد البشر ، واني استغرب جدا ان يتراجع قسم من سامعيه عن تناول بعض الحجارة لابادته عن بكرة ابيه .
كنت في حيرة بين نشر حديث الطيور او الصمت ، لان بعضا منها فتح مواضيع حساسة دون اية مراعاة او كلمات اعتذار أو حتى عبارات مجاملة ، ولكني قلت ، إن الكلام ، وإن كان للطيور ، فانه ينطوي على كثير من المعاني والحقائق .
ختاما اقول هل كان الغراب فعلا يتكلم العربية ام انا الذي كنت افهم نعيقه بلغتي ؟ هل كان هذا خيالا ام حقيقة ، هل غدونا نستقي الحكمة من مناقير الطيور، أم إن هذه ليست إلاّ احدى علامات اقتراب نهاية الازمان ، هذا ما سنتأكد منه في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني عشر من السنة الثانية عشرة بعد الالفين .






ورد الينا عبربريد الموقع

Matty AL Mache