اللبن الخاثر والقشفي ..لذيذة وغنية ومصلاوية / مع صور

[جون شمعـون آل سُوسْو]

   
اللبن الخاثر والقشفي ..لذيذة وغنية ومصلاوية

الدكتور سمير بشير حديد




اللبن بشكل عام غذاء صحي يصنع من حليب الماعزأو حليب الغنمأو حليب البقرأو من أي نوع من أنواع حليب الحيوانات الأليفة اللبونة. قد يكون الحليب مبستراً أو غير مبستر مقشوط (بدون قشطة) أو بكامل دسمه، وقد يكون طازجاً أو مجففاً.

أما اللبن الخاثر فهو منتج من حليب النعاج (الأغنام أو الضان) بعد أن يتم فصل القشفي منه ويكون قوامه أثقل من قوام الحليب الكامل الدسم وأخف من اللبنالرائب، حامض المذاق؛ بسبب إحتوائه على بكتريا اللبنيك التي تحدث بسبب تخمر السائلأثناء فصل الزبدة عن القشدة، فهو مهم جدا في ضبط حموضة المعدة ويحتوي على بكتريانافعة وفعالة ويمكن تقديمه كغذاء كامل عند الأفطار أو العشاء، ويقدم أيضاً كشراب بارد فيفصل الصيف، يروي من العطش ويقاوم التعرق الزائد.

ويعد لبن الخاثر هو الأطيب، وله نكهة خاصة تميزه عن بقية الألبان ولا تجده إلا في الموصل أو الجزيرة العربية وبلاد الشام وخلال فصل الربيع فقط. أما القشفي أو القشطة السميكة ذات الطبقات المتعددة والناتجة من تسخين حليب النعاج وتجمعه على سطح الحليب بشكل طبقات كثيفة تطفو على سطح الحليب بعد تسخينه، ثم ترفع الطبقة الكثيفة وتوضع في إناء خاص، وبتكرار العملية على هذا النحو نحصل على القشفي بسمك يبلغ ما يقارب عشرة إنج.

تطورت صناعة الألبان في نهاية القرن الماضي وحالياً، وتم إنشاء مصانع خاصة لصناعة الألبان والقشطة والأجبان ويستخدم عادة في هذه المصانع تقنيات عالية، ولا تلمسها الأيدي حفاظاً عليها من الجراثيم. وفي منتصف القرن الماضي كانت الألبان تصنع لاسيما في الموصل وشمال العراق بالطرق البدائية وباستخدام الأيدي ومعدات بسيطة، وغالباً ما يتم استخدام أواني من الفافون والفخار؛ لخزنها ونقلها، حتى لا تفقد: نكهتها ولذتها ومذاقها الطيب، ولكن قد يتعرض بعض متناوليها إلى الإصابة ببعض الأمراض خاصة ما يسمى بـ "الحمى المالطية" التي تنتشر من خلال تناول القشفي المصنعة يدوياً من حليب النعاج. وعلى الإنسان أن يكون حريصاً وأن يتوخى الحذر عند تناول هذا النوع من القشفي، لاسيما في: النظافة، والنوعية، والصلاحية، ومكان الحفظ، فالوقاية رأس كل دواء...

وفي هذه المقالة سنتحدث عن نوع خاص من الألبان يدعى لبن الخاثر والقشفي اللذين تشتهر في إنتاجها الموصل وبعض القرى في شمال العراق وشرق سوريا. وقد جرت العادة حين أكتب مقالة عن أكلة شعبية، أن ترتبط ارتباطاً مباشراً بعاداتنا وتقاليدنا وأن الأكلة شعبية لها منزلة خاصة في نفوسنا؛ لأنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالمكان الذي نعشقه، والزمان الذي لا ننساه، والحالة النفسية التي تربطنا بوشائج قوية بالزمان والمكان، يضاف إلى ذلك كله تلك الذكريات الجميلة التي لا يمكن أن تنتزع من الذاكرة.



وللموصلييون طقوس وعادات في تناول لبن الخاثر والقشفي، وأوقات معينة يستمتعون بأكلها، فمثلاً: عندما يكون الجو بارداً، أو يميل إلى البرودة في بداية فصل الربيع يتم إعداد الموقد (المنقل) وإضرام النار بالفحم، وبعد نضج الاشتعال يسحب المنقل إلى داخل الغرفة، وتجتمع العائلة حوله، ويحضر الشاي الموصلي على الفحم، ويتم تناول القشفي ولبن الخاثر مع الشاي وخبز التنور الساخن أو الخبز الرقيق اليابس (خبز غقاق) الذي يجهز مسبقاً من خلال رش الماء عليه ولفه في قطعة قماش، وبعد دقائق يصبح خبزاً رقيقاً طازجاً لذيذاً يلف فيه القشفي ويؤكل. ما أروع هذه الأوقات! ما أطيب الاجتماعات العائلية والأجواء الأسرية التي تلتقي فيه العائلة وربما معهم بعض الأقارب والضيوف على شاي الفحم والقشفي ولبن الخاثر! نعم، كنا نحس بالدفء والحنان والآمان، وكنا نستمتع بطعم المأكولات ولذتها على الرغم من بساطتها... كم كان يتخلل تلك الجلسات أحاديث وقصص وحكايات ومقالب وقوجمات! نعم، لقد كنا نمرح ونفرح لهذه الأفعال وهذه المقالب...

وقد يتناول الموصليون القشفي ولبن الخاثر في الصباح على مائدة الإفطار مع الخبز الحار والشاي أو مع خبز رقاق والجوز والزيتون. كما تتناول العائلة لبن الخاثر والقشفي في مناسبات أخرى في العشاء بعد العودة من العمل وبحضور جميع أفراد العائلة مجتمعين مسرورين آمنين، لا سيما في موسم الربيع مع خبز غقاق والشاي أو تتناول لبن الخاثر المغفوق (الشنينة) مع وجبة الغذاء الرئيسة أو بعدها مباشرةً وعادة يضاف اليه قليل من الملح، ما اطيب شرب الشنينة المملحة بعد وجبة الطعام الدسمة!

كنت صبياً في المرحلة المتوسطة، أخرج في الصباح الباكر من محلة حمام المنقوشة، وخاصة يوم الجمعة واتوجه إلى باب سنجار أو رأس الجادة؛ حيث يتجمع هناك بائعات لبن الخاثر والقشفي وغالبيتهن قادمات من قرى ونواحٍ في أطراف مدينة الموصل، كنت اعود الى البيت محملاً بالقشفي ولبن الخاثر الطازج المصنوع محليا قبل بضع سويعات! وفي طريق عودتي أميل إلى منطقة خزرج لشراء الخبز البيتي الطازج. وفي أحيان أخرى كنا نشتري لبن الخاثر والقشفي من سيد حمدي البقال في شارع الفاروق، أو من ابن حنون في منطقة الساعة، أو من غازي الحساوي في حضيرة السادة. كما لابد من الإشارة إلى أن في كل محلة أو منطقة أو عوجة يوجد من يشتهر ببيع اللبن والقشفي، مثل: باب الجديد، والشفاء، وقرب الجسر الحديدي،...الخ. لا أعلم ماذا حصل بالموصل الآن؟ وهل لازالت هذه الأماكن التي ذكرتها عامرة في بيع اللبن والقشفي؟



وبعد، فهذا حديث يحاول أن يسجل أكلة شعبية تستحق أن تسجل في التراث الموصلي؛ لما لها من طقوس خاصة بها، ومواسم معينة تصنع فيها، وشهرة طارت في الآفاق على جميع المستويات في داخل الموصل والعراق وعموم البلاد العربية، رغبة في إعطاء فكرة عن الموصل وما فيها من عادات وتقاليد تستحق أن تعرف وتشتهر.

قد تبدو صناعة هذا النوع من القشفي ولبن الخاثر سهلة يسيرة، والذي يوحي بهذا سهولة تناوله وأكله، لكنها في الحقيقة صناعة يدوية تحتاج إلى: مهارة، ونظافة، ودقة، وجهد، ونفس طيب، ومكان صالح للصنع والحفظ، وبالتالي هي تقليد لا بد من المحافظة عليه، عن طريق توارث الأجيال له، وعلينا أن نشجعهم وندعمهم على جميع الأصعدة لا سيما في تسجيله وتدوينه وعده تراثاً وتاريخاً لا يمكن الاستغناء عنه، بل الافتخار به... ولا يعرف متعة هذا وأهميته إلا مَن: كابد صناعته، واستفاد من التجارة به، وتمتع بأكله... يضاف إلى ذلك كله تلك العادات الجميلة التي تخيم على العائلات في اجتماعاتها ولقاءاتها في كثير من المواسم والفصول والأوقات، وتنسج عليهم خيوطاً من الأنس، وتحوك بينهم وشائج قوية من الحب، وتصنع لهم جواً من الفرح... لا سيما حين يجتمعون حول الكوانين (الفوانيس) يتسامرون ويتبادلون الأحاديث، فهذا يريد أن يسرد قصته أوحكايته، وذاك يرغب في أن يروي مغامرته أو يلقي طرفته... ما أعظم أثر هذه الاجتماعات...! وما أجمل سويعات تلك اللقاءات...!



وأخيراً لا بد من أن أقول: إن الموصليين تمكنوا من أن يتميزوا عن غيرهم بهذا النوع من الألبان، لما يتمتعوا به من: كرم، وسخاء، وعطاء، وإتقان ينبعث من أنفسهم... والطعام بلا شك، يعتمد في جودته وتميزه ولذته على النفس التي صنعته. ونسأل الله تعالى أن يعيد الأمن والأمان لكل ربوع الوطن، حتى يكون بإمكان الإخوة جميعاً القيام بزيارة إلى الموصل للوقوف على ما تتميز بها من مناخ وطبيعة خلابة، وعادات جميلة، وتقاليد أصيلة، وبالتالي لا ننسى أن يتناولوا القشفي ولبن الخاثر (بالصحة والهناءة) التي حرمنا منها قرابة ربع قرن من الزمن.

أرجو أن أكون قد قدمت: ما ينفع ولو بشكل يسير، وما يذكّر بعادة من عادات الموصل الأصيلة، وما يدغدغ أحاسيس الغرباء بتقاليد بلادهم، وما يشجع الموصليين على جمع تراث أوطانهم وحفظه من الضياع... آملاً من الله أن تجد هذه المقالة طريقها إلى الإخوة القراء، الذين أرجو ألا يبخلوا بتسجيل آرائهم، وتدوين ملاحظاتهم لإفادة منها في مقالات قادمة إن شاء الله... والله الموفق.

[walaa]

تقرير رائع عن القيمر والقشفي واللبن وهسه في الربيع تكثر هذه المنتوجات المصنوعة محليا
شكرا جون

[جون شمعـون آل سُوسْو]

[ماهر سعيد متي]

[جون شمعـون آل سُوسْو]