تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

ولقد ظهر واشٍ بيننا / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, مارس 08, 2012, 10:00:32 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

ولقد ظهر واشٍ بيننا


شمعون كوسا




في غياب موضوع عميق اتناوله هذه المرّة ، عُدتُ بالذاكرة الى إحدى حقبات حياتي فقادتني سنوات النصف الثاني من ستينات القرن الماضي إلى قصة وشاية سطحية لم يكن لها عواقب وخيمة ولكني اعتبرها مثلا صغيرا عن الوشاية لانه توفرت فيها كافة المتطلبات من واشٍ ووشاية ومحسابة. إنها وشاية من النوع الخفيف جرت احداثها في معهد مار يوحنا الحبيبب . وللذين لم يسمعوا بمعهد مار يوحنا الحبيب من الجيل الجديد اقول بانه كان معهدا كهنوتيا يديره الاباء الدومنيكان الفرنسيون في الموصل.

ولعله من المفيد البدء بتعريف الوشاية قبل دخول القصة :

الوشاية عادة ذميمة ومخجلة تتمثل بالابلاغ عن شخص او فضحه دون علمه. انها تتناقض واصول الاداب والاخلاق ، وإن لم تكن ممنوعة قانونا.

في منتصف فصل الربيع ، أو بصورة أدقّ عند بدء موسم الحرّ في الموصل ، ومن جاور الموصل يعرف مدى حُبّ الحَرِّ لهذه المدينة ، كانت قد جرت العادة على أن ينتقل التلاميذ من قاعة النوم الشتوية الى السطوح . وكانت عملية الهجرة هذه تتم عادة في منتصف شهر نيسان، فترة قصيرة قبل العطلة الصيفية. كان التلاميذ ينتظرون النوم فوق السطح بفارغ الصبر لانه كان يحرّرهم من قاعة النوم الجماعية وكأنهم خارجون من معتقل الى فضاء مفتوح لا تحدّه حدود ولا تغطيه سقوف .

كم يحلو لي شخصيا ان استعيد ذكريات النجوم في تلك الليالي وظهور الخطوط الاولى من الفجر حيث يستهل اليمام هديله ، ولحد الان كلّما سمعت هذا الصوت اتذكر ساعات النوم الصباحية اللذيذة فوق السطح .

في إحدى الليالي الحارة التي لا يسهل فيها النوم ، بقيَتْ بعض العيون مفتوحة وكأنّ الكرى كان قد جفاها أو أخطأها لدى مروره ، فظلت مترقبة عودته الى ساعات متأخرة من الليل علّه يوزع عليها فُتاتَ جفون كانت قد استسلمت لنوم ثقيل قبل وصوله ، أو حصةَ بعض السهارى الذين لم يحتاجوه لانهم كانوا قد حوّلوا الليل نهاراً . كان بعض الطلاب يتقلبون في فراشهم وينادون سلطان الكرى من خلال خراف يُحصونها مرة ومرتين وثلاث منتقلين من قطيع الى قطيع وموهمين انفسهم كل مرة بانهم اخطأوا الحساب ، ولكن دون جدوى.

بعض التلاميذ مِمّن يئسوا من محاولاتهم هذه ، او بالاحرى أثنان منهم ، فكرا بترك السرير والاتجاه كل واحد الى غرفته ، وكان هذان التلميذان طالبَي لاهوت في سنتينهما الاخيرتين ، حيث كان لطلاب اللاهوت غرفهم الخشبية داخل قاعة النوم الشتوية . نهض الطالبان لمراجعة موضوع في اللاهوت كان عليهما اجراء امتحان فيه .

بعد ساعة او ساعتين من القراءة ، بدأت العيون تكلّ وغلبهما النعاس فعاد كل واحد بدوره الى السطح حيث سريره ونام .

عند الصباح ، وبعد وجبة الفطور ، سمع التلاميذ رنينا خفيفا لناقوس المعهد ، وكان هذا عادةً إيعازاً من المدير للتجمع في في الصالة المشتركة لمناقشة أمر هام .

كان التلاميذ مجتمعين يترقبون بصمت عميق وصول المدير ، وكل واحد يحاول الافتراض وتخمين ما يدور بخلد المدير ، واذا به يدخل الصالة مسرعا وبوجه صارم يحاول بصعوبة كظم غيضه ، وبدأ دون مقدمات قائلا : بلغني أنّ بعض التلاميذ قد نهضوا في الليل للدراسة في غرفهم ، لذا اطلب ممّن قام في الليل ان يتوجّه الى غرفتي للاعتذار او تبرير موقفه . قال هذا وغادر الصالة تاركا التلاميذ في حيرة من امرهم لانهم لم يفهموا شيئا عن الموضوع لسبب بسيط وهو انهم لم يكن لديهم سابق علم بذلك . فبدأ الكثيرون منهم يشكّون في انفسهم قائلين ، لعلي كنت انا الذي قمت في الليل دون وعي لاني أتجول احيانا في منامي ، ويذهبون الى المدير لطلب العفو عن مخالفة لم يقوموا بها .غير ان المدير كان ينتظر بصورة رئيسية شخصا واحدا لان الوشاية كانت قد أبلِغتْ إليه بالاسم . مرّت ساعتان على اجتماع المدير ولم يتلقّ هذا الاخير توبة التلميذ الرئيسي الذي كان ينتظره. عندما نفذ صبره قام بمناداته عبر جرسه الكهربائي برنة طويلة ورنتين قصيرتين ، لانه هكذا كان يُنادى التلاميذ حيث كان لكل تلميذ رنته ورقمه الخاص اللذين يحتفظ بهما لمدة اثنتي عشرة سنة .

ولكي يكون الكلام مباشرا، أقول بان الطالب المُنادى كنتُ أنا . دخلتُ غرفة المدير بهدوء كامل ، فدعاني للجلوس وقال لي : كان بودّي ان تكون أول القادمين إليّ ودون الحاجة الى مناداة . فقلت له : انا لم افكر بالمجئ لاني لم أجد عيبا في كل ما ذكر حول الموضوع، ولم أرَ نفسي مقترفا ذنبا كي آتي واستغفر عنه .

فقال لي : انا اعرفك واعرف رصانتك في كل شئ ولكنك تعرف بان هناك نفوسا ضعيفة تأوّل كل حركة، فقلت له : حتى المنطق في هذه الحالات يمسك بيدي ويقودني الى غرفتي ويفتح لي الكتاب ويقول: أشغلْ نفسك، وكم بالحري اذا كان الكتاب هذا سيساعدني في امتحان يجب ان اتهيأ له جيدا . وأضفتُ ايضا : أولستم انتم الذين كنتم تقولون لنا (رأس البطّال دُكّان الشيطان) ، هل تريد ان يبقي الرأس فارغا لكي يبيع الشيطان بضاعته فيه بكل حرية ؟ عاد من جديد ليقول : بان الخوف ليس منك ولا عليك لاني مقتنع من رجاحة عقلك واستقامتك ولكن الخوف ممّن يرون عيبا في كل حركة. فاجبته : من المؤسف ان تدفعونا للتفكير في امور لم تخطر ابدا ببالنا ولا يمكن لها ان تخطر ، ولكنه اذا كان لا بد من الاعتذار فانا اعتذر عن مخالفة لا اعرف ماهيتها .

لقد كان قد قام واشٍ بيننا ، وبادر لعمله بكل دقّة منذ اللحظات الاولي من النهار لغاية في نفسه !!!

كما قلتُ إنّ هذه قصة وشاية بسيطة لم يكن لها عواقب وخيمة ولكنها نموذج مصغّر عمّا تعنيه الوشاية . كان الحدث بنفسه عديم القيمة اصلا ولكن الواشي الذي استطاع الوصول الى الاذن الصاغية افلح في تأزيم الموقف.

لو رجعنا الى ماضٍ قريب نجد في بلدنا ، بلد الغرائب ، سلسلة أمثال عن حالات وشاية اسفرت بعض منها عن جرائم . وشايات نفّذها قوم تعهدوا بالاضرار بالاخرين من أجل مال او لنيل حضوة او الفوز بجائزة او وسام او بلوغ منصب او إحراز مكسب أوغيره . هؤلاء الوشاة تذرّعوا بقوانين جائرة او اتّكأوا على تعليمات اصدرها مسؤول اناني لحماية مكاسبه ، قوانين تخدم مصالح شخص حديدي ، غير انها تتنافى وحقوق الانسان .

كم من هؤلاء الوشاة اللطفاء ابلغوا عن جنود ، بعد ان نجوا من الموت في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، رغبوا في قضاء بعض الوقت مع ذويهم بعد فترة اجازتهم ؟ إقتيد هؤلاء الى السجن ، والذين استطاعوا الافلات من الاعدام خرجوا باذن مبتورة لا يعرفون كيف يفسرونها للاجيال الجديدة إلا بالقول إنها نتيجة حادث أو خصام عنيف .

كم وشاية أدّت الى فسخ خطوبة او هدم زواج بسبب كلام او رؤية شخص ثالث أو حركة فسّرها واشٍ شريف على هواه وابلغها الى احد الطرفين؟ كم واشٍ ، هربا من حملات الجيش الشعبي ، وشى باصدقاءَ وزملاء كانت لهم ظروف خاصة ، فارادوا تجنب هذه السخرة ولو لحين ، فأتى الاخ الواشي وتقدّم مسؤولي الحملة ليُرشدهم الى حيث يقبع الزميل الذي سبق وان تشرف عدة مرات في إكمال العدد المطلوب لحملات سابقة ؟ وكم شخصا بريئا ، كانت اهدرت دمَه أطرافُ ظالمة دون ان يكون له اي ذنب ، انتهى على يد واشٍ باع ضميره . وكم سجين برئ فرّ من زنزانته فكان له احد المأجورين بالمرصاد .

وكيف انسى قصة مام يوسف دختور الذي ذهب ضحية وشاية صوّرته كأخطر مجرم لانه قام بتضميد جريح عراقي وانقاذ حياته ، كانت الجريمة تكمن في كون الجريح ينتمي الى حزب آخر. افلح الواشي بالنيل من الرجل الخيّر الذي مدّ يده لاسعاف مواطن عراقي محتضر، فانتهى مام يوسف في غياهب السجون وبعد ستة اشهر ، سُلـِّم جثة هامدة الى أهله وذويه .

كم واشيا من بين ضعاف النفوس هؤلاء ، إصطادوا في الماء العكر وابلغوا عن أبٍ أو أمٍّ سافر أحد ابنائهما الى الخارج ، وكانت التعليمات الجائرة المنافية لكل القوانين، تقضي آنذاك بان يُحجز الاب او الام لحين عودة الابن الذي قد خلقه الله حرّاً ولكنه بات مقيّدا بشرائع اخرى .

تكثر الحالات ، وكما اقول دوما ان الظروف التي مررنا بها وحتى التي نمرّ بها اليوم لانها لم تختلف كثيرا ، خلقت عشرات الالوف من قصص مماثلة لان كل شئ كان ممنوعا ، وكان قد تمّ تجنيد اعدادٍ هائلة من متطوعين يقتاتون على الوشاية.

لقد اصبحت الوشاية لدى البعض عادة والبعض الاخر مهنة ، ويقوم هؤلاء بهذا بدافع الغيرة او الحسد او الانتقام ، والبعض قد وُلدوا وشاة بفطرتهم وكأنهم ، كما يقال ، فروع شجرة خبيثة !!

كلمني احد اصدقائي في احدى قرى الشمال عن شخص اوصلته رغبة الانتقام الى الايقاع بأحد اصدقائه والوشاية به. فدعا صديقه الى جلسة شرب في نادٍ معين ، وفتح معه مواضيع شائكة لا يتحدث او يتصارح بها إلاّ الاصدقاء ، كلام يكشف الغطاء عمّا يفكر به كافة الناس دون القدرة على الافصاح . لان الحظر كان يشمل كل انواع الحديث لا سيما المتعلق بوكيل الله . عندما بدأت بنتُ الحان تلعب براس الصديق هذا ، شرع يقول ما لا يقال ويتطرق الى احاديث محفوفة من كافة جوانبها بالمخاطر. كان صاحب الدعوة قد اصطحب معه جهاز تسجيل صغير إلتقط حتى الفواصل والنقاط التي دارت كحديث في الجلسة ، وفي اليوم التالي خلع ثوب الصداقة وتوجه ببزّة الواشي الى جهات تهلل لاستلام مثل هذه الهدايا، والبقية معروفة !!

لا اريد ان انتقل الى اشكال اخرى من الوشايات لان الموضوع واسع جدا وقد يتشعب الى حالات التجسس والمراقبة التي لها ايضا ازلامها ، وقد تكون لي عودة حول هذا الموضوع الدسم .

أحبّ ان اقول في النهاية بأن الانسان ليس مضطرا لقول الحقيقة دائما وفي كل مكان لا سيما اذا كان ذلك لا يمس بالمصلحة العامة وحقوق الانسان . واذا كان لا بدّ لي ان اختتم المقال بسطرين ، فاني افعل ذلك بذكرالمثل الفرنسي القائل : إذا كانت عملية الفم الى الفم قد أسعدت عشاقا وانقذت أناسا من الموت ، فان عملية الفم إلى الاذن قد هدمت بيوتا وأزهقت أرواحا !!





ورد الينا عبر بريد الموقع

Matty AL Mache