تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

قصة رجل اضطر للسفر جوا

بدء بواسطة simon kossa, يوليو 20, 2011, 02:59:24 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

قصة رجل أُضطـُرّ للسفر جـّواً
شمعون كوسا


انها قصة رجل عجوز إسمه أليصافان . شخص بقي صافنا لفترة طويلة من مرحلة شبابه متسائلا بحيرة : من أين استنبط  لي والدي هذا الاسم الغريب ، الطويل والمعقد ؟ إلى أن عثر على الجواب أثناء تصفحه اسفار العهد القديم ، فوجده في سفر العدد ، مذكورا كالتالي : أليصافان بن فرناخ ، من سبط  بني زبولون !!

أمضى أليصافان حياته ، مزاولاً مهنة الفلاحة ، في قرية وضيعة لا يَرِد ذكرُها إلاّ في أطلس مخصص لصغريات القرى . كان أرملاً حديثَ العهد يعيش لوحده بعد أن يمّم أبناؤه شطرَ الاراضي البعيدة ، مقتفين آثار من سبقوهم أرتالا باحثين عن مستقبل جديد ، من شأنه أن يدرأ الخطرعن اولادهم ويساعدهم في العيش بعيدا عن هواجس الخوف والمطاردة والحروب وكثير من المآسي الاخرى .
بعد أربع سنوات من مغادرتهم ، إشتاق الابناء لابيهم ، فوجهوا له دعوة لزيارتهم  . نزولاً عند رغبة  أولاده وإشباعا لشوق عارم كان يلهب أحشاءه منذ يوم فراقهم ، تقدم أليصافان بطلب للحصول على جواز سفر . بعد مراجعات لا تحصى ، وتبليغات يومية او نصف اسبوعية تحمل اسماء التحقيق والاستجواب  والاستفسار والتعقيب والتأكد والتدقيق والاختبار وجلسات اخرى لم تجد لنفسها مسمّيات ، وبعد سيل أسئلة  ابتدأت من يوم كان اليصافان مشروعا في عالم المجهول،  حيث لم يكن قد قرر والدُه إخراجه الى عالم الوجود، وانتهت بآخر يوم المعاملة ، صدرجواز السفر أخيراً ، واستغرقت العملية خمسة اشهر فقط .

حال استلام جوازه ، توجّه أليصافان الى بيت اخته المجاور  ليعرض وثيقة سفره على ابنها ويتأكد من صحة معلوماتها . مع فتح الصفحة الاولى من الجواز ، وقعت انظار الشاب على خطأ في محل الولادة ، فطلب من خاله الاسراع فوراً الى مكتب الجوازات لتصحيح الخطأ .  عند مواجهة أليصافان لمسؤول المعاملة ، تناول هذا الاخير الجواز منه بخشونة وغضب ، وأمسك بالورق اللاصق الشفاف الذي يغطي الصورة لينزعه بنفس العصبية، فتمزقت الصورة من وسطها . لم يبالِ صاحبُنا بما فعل وشطب المعلومة  مستبدلا اياها بمحل الولادة الصحيح .  اعاد اللاصق الى مكانه بعصبية أخفّ ، ولكن خط التصدّع كان قد شطر الصورة الى شطرين .  حاول أليصافان لفت انتباه الموظف المسؤول الى تمزّق الصورة ، نقطة من شأنها إثارة كثيرمن الشكوك والشبهات في المطارات، فردّ عليه المسؤول بكل بساطة : لا تخف ، أنا مسؤول عن كل ما سيحدث لك .  إحتارأليصافان بين شعورين متناقضين ، هل ينفجر ضحكا أم يستشيط غضبا ؟ ما قيمة كلام هذا المسؤول غير المسؤول عند وقوع الحدث على بعد آلاف الكيلومترات ؟ !!
في اليوم التالي ، تقدم أليصافان بطلب تأشيرة استغرقت شهرا واحدا .  بعد التأكد من صحّة التأشيرة ، بدأ  باجراءات الحجز ، وابن اخته كان مُلازماً  له في كل خطوة يخطوها ، لأنّ أليصافان لم يكن يجيد من بين اللغات إلاّ الكلدانية  او الارامية التي اضحت الان في طابور اللغات التي تفتش عمّن يواريها الثرى ، لغة كان لها وزنها ودورها في غابر الازمان عندما كانت اللغـَةَ  الرسمية لرقعة جغرافية مترامية الاطراف ، متقدمة بذلك ، في فترة من الزمن ،على العبرية والفارسية وحتى اليونانية .

في الفترة التي كانت تفصله عن يوم سفره ، كان يسأل الناس عن إجراءات السفر ، وما يجب القيام به وما يجب تجنبه . وعند حلول اليوم المشهود ، أعني الاحد الاول من شهر آب ،  توجه أليصافان الى المطار . بعد اجتياز حاجز الشرطي الذي يتحقق من حصول المسافر على جواز السفر، توجّه الى الحزام النقـّال الذي يواكب الحقائب الى نفق الاشعة الفاحصة. توقف الموظف الفاحص عند كيس لم يستطع تشخيص محتواه . طلب من أليصافان فتح الحقيبة للتأكد من محتوى الكيس . كان هناك فعلا كيس يغلف علبتين مِن (مَنّ السما)  التي كان يحبها أولاده ، مادة تستنجد بكمية كبيرة من الطحين الابيض للمحافظة على صلابتها. وهل لي أن اوضّح ما يوحي به منظر الطحين الابيض لموظفين ، لربما في بداية خدمتهم ، مكلفين بتشخيص كلّ ما يشبه المخدرات ؟ !!

بعد هذا كان على مسافرنا المستجدّ الخضوع شخصيا للفحص من خلال عبور بوابة يجب ان يجتازها دون أن يرنّ الجرس . نزع أليصافان حزامه وساعته وأفرغ جيويه كاملا  كما طـُلِب منه، وشرع بالدخول بهدوء وصمت مكتوف اليدين خوفا من أن يمسّ احد اطرافه الباب ، ولكنه ما أن وطأت قدمه الطرف الثاني ، حتى انتفض الجرس ورَنّ بوقاحة  . طـُلِب منه الرجوع الى حيث ما كان والعودة دون أحذيته ، فنفّذ الامر ، ولكن هذا الاجراء الجديد لم يمنع الجرس من الرنين من جديد . ُطلب منه الرجوع ثالثة لنزع البنطال ، وجد أليصافان الطلب وقحا وفي غير محله ، ولم يشأ الانصياع له في البداية  ، ولكنه رأى بانه لا بدّ من ذلك . لم تمسّ قدمه كاملا أرضية الجهة الثانية إلا واستأنف الجرس رنـّته الغاضبة . إعترى أليصافانَ خوفُ شديد ، لانه تمثّل نفسه تماما وكأنه  بطل مسرحية مرعبة ، عليه اُرتجالَ دورٍ فاشل فيها ، دورلا يفقه معناه  . لماذا يُطلب منه كل هذا ، أيكون جسمه ملغوما دون علمه  أم ماذا ؟ توقف مسؤول البوابة محتارا وأحاط  به الفاحصون الاخرون ، وكأنهم مجموعة اطباء أمام حالة مرضية غريبة . وفعلا تصرفوا كأطباء ، فسألوه عن صحته وعن احتمالية تعرضه لعمليات استوجبت ادخال قطعة معدنية  داخل جسمه ، فأجابهم أليصافان والارتباك باد على وجهه بان المعدن الوحيد الذي يحتضنه جسمه هو بضع سنتمرات من البلاتين في ساقه اليسرى التي كانت قد تعرضت لكسر قبل سبع سنوات . زرع كلامه هذا ارتياحا ملحوظا في نفس الفاحصين الذين بَطـُل أخيراً عجبهم بعد ان عرفوا السبب، وهكذا تمّت عملية العبور الاخيرة برنة جرس مصحوبة بابتسامة عريضة.
بالرغم من اجتيازه ، لم يتمكن أليصافان من التحكم في رعشة لازمت اوصاله وكأنّ جسمه موصول بتيار كهربائي  .  كان خوفه نابعا من إحساس حقيقي بانهم اشتبهوا به كمجرم خطير ، وبأنه كان على وشك الوقوع تحت عقابهم !!

استفسر مسافرنا من بعض المتواجدين هناك عن مرحلة عذابه المقبلة ، فأشاروا اليه بالتوجه الى قسم الشحن . فاجأته موظفة الشحن بان عليه دفع ثمن عشرة كيلوغرامات فائضة في حقائبه ، كان المبلغ مهمّا ولم يجد صاحبنا في جيبه ما يسدّ المبلغ ، فاضطرت الموظفة الى التنازل قليلا والاكتفاء بافراغ جيب اليصافان كاملا . بعد هذا ، سألته عن المحطة التي يرغب استلام حقائبه فيها ، لم يفقه العجوز معنى سؤالها وأجابها ، اريدها عند وصولي .

بعد استلام بطاقته وتحديد رقم مقعده ، توجه نحو نافذة ضابط الجوازات . لم يأبه الضابط بالقادم الجديد  ولم يلتفت إليه أصلا لانه كان منشغلا مع احد زملائه ، وفي هذه الاثناء رنّ هاتفه النقال  واشغله من جديد في مكالمة استغرقت ، بين ضحك وقهقهة ، لأكثر من عشر دقائق  .تفرغ له رجل الامن أخيرا ،غير أن صاحبنا لم يحصل منه على اكثر من نظرة ازدراء .  إستلم جوازه وبدأ يقـلب الصفحات واحدة تلو الاخرى حتى غير المستخدمة منها ، ورجع الى التأشيرة . طرح عليه عدة اسئلة لم يستطع أليصافان الاجابة إلا على قليل منها لانه لم يكن يفهمها او لا يسمعها احيانا ويخاف ان يطلب منه اعادتها . امضى رجل الامن ما يقارب عشر دقائق في عمل دؤوب بين نظر وتمحيص وتصفح وتدقيق كمن يصرّ على إيجاد ثغرة لا يراها ،  وانتهى بالقول بان هناك حرفا في الاسم المذكور على التأشيرة يختلف عمّا هو مذكور في الجواز . أجاب العجوز تلقائيا ، لربما كان الموظف المسؤول على عجلة من أمره فنسي الحرف ، معتقدا بان هذا الجواب الطبيعي كافٍ لاقناع الضابط ، فضحك رجل الامن من الردّ وقال ، ان هذه مسؤولية كبيرة تمنعني من ختم جوازك .  وتسهيلاً لامرك ،أقترح عليك العودة للسفارة لاجراء التصحيح المطلوب !!. كاد أليصافان يسقط ارضا ، لانه ، بعد مفاجأة جهاز الفحص ، والوزن الزائد لدى الشحن ، وجد نفسه امام حائط جديد من شأنه تقويض كل شئ  . حاول اقناعه من جديد متوسلا ومعتبرا نفسه دخيله ودخيل الله والاولياء وحتى القديسين ، ولكنه عندما لم يجد اذنا صاغية . اسرع في الرجوع الى موظفة الشحن لتبليـغها برغبة رجل الامن الودّية ، فهزّت هذه رأسها لانها كانت على علم بتصرفه ودماثة اخلاقه مع المسافرين  !! فطلبت من احد العمال سحب الحقائب بسرعة قبل دخولها عنبر الطائرة وتسفيرها الى جهات لن تعود منها بسهولة.

كانت السفارة قد اغلقت ابوابها ، فتوجّه اليها في اليوم التالي . اصيب موظف السفارة بدهشة كبيرة من طلب ضابط الجوازات الذي سمح لنفسه بالغاء رحلة أليصافان بهذه البساطة، وقال بانّ ما يعتبره رجل الامن اختلافا هو مجرّدُ جهل ،  كان يجب عليه ان يعلم بان هذا الحرف يكتب بطريقتين . أجرى الموظف التصحيح خشية تعطيل المسافر من جديد .

ألغى اليصافان حجزه الاول مع تحمل خسارة طفيفة ، وحصل على يوم مغادرة جديد . وكان ذلك في الاحد الذي يليه . مرّ الاسبوع وكأنه شهر من التفكير والهمّ والقلق ممّا سينتظره في المحاولة الثانية .
لا حاجة للقول بان موظفي المطار كانوا قد تغيروا  وكان على مسافرنا الخصوع من جديد لكافة المتطلبات من فتح الحقائب وافراغ الجيوب ،  غير أنه بيّن لهم مسبقا موضوع ساقه . تمّ الشحن دون ان يُفلح في استرجاع مبلغ الزيادة الذي طولب به في المرة الاولى ، ولكنه لم يهتم لذلك .  ورجل الامن أيضا كان قد تغير،  المسؤول الجديد الذي كان شخصا يتحلى باخلاق رفيعة ، استغرب بدوره لطلب زميله مؤكدا بان العملية لم تكن ضرورية اطلاقا .
بعد ختم جوازه ، استبشر صاحبنا لانه بلغ برّ الامان . وكان أليصافان في هذه الاثناء دائم الاستفهام والسؤال من المسافرين عن أرقام الرحلات وأرقام البوّابات والاتجاهات التي ليست بديهية احيانا حتى للمخضرمين في السفر.

ركب أليصافان الطائرة بالرغم من ارجاع بعض أمتعته البسيطة المتواجدة داخل حقيبته اليدوية كعصير الرمان وادوات الحلاقة والماء ، لم يكن المسافرعلى بيّنة من تعليمات الطيران الجديدة . لا اريد الدخول في تفاصيل حقيقية اخرى قد تبدو مملـّة ، كالوصول الى المقعد وربط حزام الامان ، وفي هذا الخصوص قال اليصافان : وما الحاجة لحزام الامان ، هل الطائرة معرضة للاصطدام كالسيارة ؟

في ابتداء تحليقها ، شعر العمّ بهبوط  داخلي بسيط وطبيعي أقلقه وخَطـَفَ بعض الاحمرار من ألوان وجهه ، فأ مسك بيد جاره المباشر الذي طمأنه بابتسامة عريضة . استقرت الطائرة في ارتفاعها وفي سرعتها ، وكان أليصافان يتجنب النظر من الشباك خشية الاصابة بدوار . أتت الدقائق التي تدخل فيها الطائرة مجالا جويا تتخلله مطبّات هوائية قد تكون أحيانا قوية . كانت المطبات لذلك اليوم قوية فعلا . اعتبر العجوز بانه شخص منحوس يسافر في يوم مشؤوم وقال : لماذا يحدث كل هذا معي ؟  تعاقبت الهزات وافضت به الى قناعة كاملة بان الطائرة آيلة للسقوط لا محالة . فبدأ يبكي وأمسك بوسط جاره والقى بنفسه عليه ، وهذا بدوره احتضنه قائلا : لا تخف ، ان الهزات قوية فعلا هذا اليوم ، ولكن لا يجب الخوف اطلاقا ، لان هذا يحدث في كثير من الرحلات.

لدى توجهه الى الطائرة الثانية ، لانه كان قد استقل ثلاث طائرات ، فوجئ باضراب لموظفي برج المطار ، مما تسبب في الغاء رحلته  وتاخـّـُرِ موعد وصوله الى الاتجاه النهائي بست ساعات دون امكانية ابلاغ اولاده .

وبما اني لا أنوي البتة إعطاء المقال نفس المدة التي استغرقتها الرحلة ، أقول :بعد هبوط الطائرة في المحطة النهائية ، إتجه أليصافان نحو الحزام الناقل  لحقائب القادمين . ترقـّب الحقائب طويلا ،  وفي كل مرة كان يعتقد بانه عثر على حقيبته ، يكتشف بانه وقع على شبيهتها . انتظر الى آخر حقيبة دارت مرتين  وعثرت على صاحبها ، واليصافان بقي ينتظر الى ان توقف الحزام بعد ثلات دورات اضافية  فارغة ، وكأني به يخاطب المسافر قائلا : باسف شديد وخجل كبير اقول باني لم اعثر على حقيبتك . كانت حقيبته محمّلة بالهدايا ، والأهم من ذلك كانت تحمل علاجه ، أدوية يجب تناولها يوميا دون خطأ.
إتـّجه أليصافان نحو باب الخروج بوجه خال من أي تعبير وبعيون دامعة قرأ فيها الاولاد فرحا كبيرا ، غيرانها كان فعلا قطرات حزن اراد حبسها لحين ولكن تراكمها اللامعقول ادى الى انفجارها .  فتح أليصافان ذراعيه بدموع همومه التي امتزجت بدموع فرح اولاده ، وبدأ على الفور بسرد معاناته لهم .

انتهت القصة هنا ، ولكني علمت لاحقا بان أليصافان كان قد أقسم لاولاده بانه سوف لن يستقلّ الطائرة ابدا ، وبانه يفكر جديا في العودة الى البلاد سيراً على الاقدام !!!

Kossa_simon@hotmail.com