في هذا الزمن الصعب لم تعد لنا سوى ذكريات الماضي/ شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يونيو 26, 2015, 08:48:50 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

في هذا الزمن الصعب 
لم تعد لنا سوى ذكريات الماضي




برطلي . نت / خاص لبريد الموقع
   


لقد تقدمنا كثيراً وتطورنا أكثر ، وهذا وفّر لنا كافة اسباب الراحة وهيّأ لنا السبل لبلوغ الرفاهية ، كثرتِ الاموال وتنوعّت المكاسب، ولكن هل وجد الانسان سعادته وراحته الداخلية تناسبا مع هذا التقدم والتطور ؟ الجواب هو نفي قاطع. لقد بلغنا القمة ، غير اننا الان على شفير هاوية  سحيقة . غدونا غير آمنين  على حاضرنا ونخشى المستقبل ، نحن مواطنون في زمن مخيف . لقد امسينا أقزاماً يقودنا عمالقة اقوياء وطويلي القامة ، لا يبصرون الا الطوابق العليا التي توازي انظارهم لأنها تأوي خططهم واهدافهم ، فمن بقوا في الطوابق السفلى هم بمثابة حشرات يجب ابادتهم او مجرد كنسهم  . وأمام هذا التحول وتغيّر المفاهيم ، اصبح القتل المكثف اليومي اللامعقول عملية عادية فقدت حتى صفتها  الاجرامية .  اينما التفت المرء ، يرى نفسه أمام حائط عالٍ أو وسط صحراء قاحلة  . إنه لا يسمع ولا يرى ولا يقرأ الا عن الحروب والاقتتال والمعارك واعمال الذبح والغدر والخيانة وانعدام الآداب ، فيضطر الى اغماض عينيه واللجوء داخل نفسه ، باسطا ذراعيه ومبتهلا الى ذاكرته لتسعفه في فتح صفحة قديمة تنقله الى زمانٍ ينسيه حاضرَه وتناقضاتِه. 
والصفحة التي من شأنها تغيير اجوائه  تحمل لحناَ ، أو صوتاَ عذباً ، أو قصيدة ، أو صورة  قديمة ، أو شخصا عزيزا ، أو زهرة خاصة ، أو لونا معينا ، أو مشهدا لاحد مواسم الطبيعة  ، أو مناسبة عيد ،  لان كل هذه  مرتبطة ، بزمان  ومكان ، يحتفظ  فيهما الانسان بأحاسيس جميلة وذكريات صافية سعيدة لا تمحى .
على سبيل المثال أقول ، وهنا اتكلم عن نفسي لأني اهتديت الى بعض صفحات الذاكرة : أصوات لا يسمعها الناس كثيرا في ايامنا ، لمطربين كحضيري ابو عزيز ، أو زهورة حسين ، أو داخل حسن ، هؤلاء هم أوّل من سمعتهم وامتعوني كثيرا  وتركوا أثرا في نفسي  منذ صباي ، لان الطرب في العراق انطلق من الريف . كنت انصتُ اليهم بسعادة لا توصف . اتذكر في أحد الايام  ، لشدة تعلقي بصوت زهورة حسين ، طلبت من والدتي تأجيل صلاة الوردية ، كي لا تفوتني اغنية لها تستهلها بمقام دشت  !! 
اغاني ام كلثوم ، كلها دون استثناء تذكرني بليالي شقلاوا الجميلة ، حيث كانت قد دأبت كازينوهات البلدة ، في زمن الخير ، تبثّ اغانيها في ليالي الصيف على اسماع السهارى والندامى . كنت اسمعها من بعيد  ، لأنها كانت تنطلق من سفح جبل سفين وتصل الى ابعد أذن سامعة ، حيث  كان  القمر يبقى ساهرا لا يبارح مكانه ، إعجاباً بصوت ام كلثوم ، وحرصا على إبقاء الجو شاعريا الى حين مغادرة آخر شخص .
أغاني اسمهان كلها كانت تطربني ولحدّ الان ، لان لصوتها رنّة تنفذ ذبذباته الى اعماق النفس. اغنيتها ، ليت للبراق عينا ، تعيدني الى غروب الشمس في مصيف صلاح الدين ، لا اعرف لماذا ارتبطت الاغنية بهذا الزمان وهذا المكان ، ولكني كلما سمعتها في هذه الاغنية اغمض عيني لأعيش جوّ الماضي .
الأغاني الفارسية القديمة ، تنقلني دون ارادتي الى ما وراء شقلاوا ، طريق حرير وكلي علي بك وبيخال وخاصة المرتفعات التي تحيط بها ، وصولا الى منطقة حاج عمران التي زرناها مرة في شهر تموز ، واضطررنا لإشعال النار لكي نتدفّأ .
وماذا اقول عن الاصوات الاخرى لعبدالوهاب ، المطرب الراقي ، وفريد الاطرش العاطفي المؤثر ، وليلى مراد . وعن صوت آخر رافقنا كثيرا  ، صوت فيروز الديني والدنيوي الذي لا يمكن الا ان يدعوك للخشوع والتأمل أو النظر الى ابعد الحدود ،  آفاق بعيدة تلتقي بها الارض بالسماء . هؤلاء وغيرهم ،  في بعض اغانيهم ، يرفعون السامع ، المتذوّق للموسيقى ، الى فضاء صافٍ ويتركونه معلقا متابعا صدى لا يضمحلّ الا عند فتح العينين. وصفحات اخرى لم افتحها للأغاني التركية والكردية والكلدانية .
صور موسم الشتاء تذكرني وانا جالس في مكتب أبي ، بالرياح التي كانت  تهبّ بقوة  على الصنوبر الشوكي ، فتطلق معه صوت أزيز خاص .أشجار قديمة كانت قد اختارت اقامتها خلف فندق خانزاد القديم . أما صورة هذا الفندق ، الذي تمّ تشييده في العهد الملكي ، لأنه كان مقر استراحة للملك في جولاته ، كان موقعه يوفر أجمل منظر لجبل سفين الشاهق ، خاصة بعد تكلله بالثلوج. كانت تكتنف الجبلَ  غيومُ كثيفة ، وبعد انقشاعها يكون السفين الشامخ  إما قد اكتفى  بقلنسوة بيضاء ، أو ارتدى ثوبه الابيض الطويل الذي يغطي كامل جسمه ، وكأنّه مقبل على اداء مراسيم سحرية خاصة .
وبعض صفحات الماضي أوصلتني الى الاعياد الكبيرة التي كان لها طعم خاص قلّما نجده الان . أرى سعادة الطفولة الحقيقية عندما اتذكر ونحن صبيان ننهض في الفجر لقطع مسافة نصف ساعة بغية اللحاق بمراسيم العيد الدينية ،  وبعدها نرتدي الملابس الجديدة البسيطة جدا . ونكون في قمّة السعادة عند حصولنا على عيدية لم تكن  تتعدّى العشرة فلوس ، ونقضي النهار على الاسطح في لعب الدعابل أوغيرها .
لقد تحوّلتُ اليوم بحديثي هذا الى تاجر مفلس بدأ يفتش عن دفاتره القديمة !!   قمت باستعراض صفحات الماضي لأبتعد عن صخب الحاضر، وتوقفتُ عند الكثير منها لأتذوّق طعم ما احسست به في صباي وشبابي ، ذكرياتُ الطفولة هي ذكريات الانطباع الاول ولأنها صادقة فأنها  لا تمّحي . سمعت ونظرت وتجولت وتوقفت واطلت التأمل وامضيت دقائق في جو جميل طاهر اتذكره بحذافيره ، ذكريات تعيد المرء الى وجوه وقلوب ملؤها حبّ وحنان . كان هؤلاء البسطاء الاصلاء يعيشون ، بحيث لا تغرب الشمس على غضبهم ، وينفضون الاتربة في يومها كي لا تتراكم وتعيق علاقاتهم .