لماذا مصالح الفقراء دائماً بالآجل؟

بدء بواسطة صائب خليل, فبراير 27, 2012, 11:36:45 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

أثار تصويت مجلس النواب العراقي على موازنة 2012 إحتجاجات كبيرة بين الناس، شملت المؤيدين للحكومة ربما لأول مرة. وحظيت نقطتان بغضب المحتجين، الأولى كانت تخصيص 60 مليار دينار عراقي لشراء 350 سيارة مصفحة للنواب، والثانية الغاء فقرة لإنشاء مشاريع إسكان وبنية تحتية "للفقراء" كان يفترض أن تدفع "بالآجل" (1).

من الناحية الحسابية، ربما يبدو الغضب على مبلغ السيارات المصفحة البالغ حوالي 50 مليوناً، غضب مبالغاً به، إن تذكرنا عشرات المليارات الضائعة هنا وهناك، والتي لم تثر مثل ذلك الغضب علماً أنها تبلغ ألف مرة تقريباً بقدر مبلغ السيارات المصفحة، وأنها سرقت واختفت تماماً، بالتعاون بين قادة الولايات المتحدة ولصوصنا المحليين، ومنها 40 مليار دولار في ضربة واحدة! (2).

إلا أن غضب "المصفحات" كان له صفة خيبة الأمل الشديدة بالنواب، الذين يفترض أنهم الأقرب إلى الشعب الذي انتخبهم. ومما زاد الغضب من قرار شراء السيارات المصفحة الذي بدا وكأنه قد تم طبخه سراً، أن إعلانه تواقت مع تفجيرات إرهابية عنيفة هزت العراق، فصب ذلك الإعلان الملح على جروح العراقيين، ووجدوا في نوابهم تصرفاً مخيباً للآمال.
لذلك سارع القادة والسياسيون إلى التبرؤ من هذه الفقرة وادعى الجميع أنه لم يصوت لها، أو تجنب الإشارة إلى ذلك. ووصف السيد مقتدى الصدر من يستعملها بأنه خائن للشعب. وكشفت المناقشات أن هناك ما لا يقل عن 1000 سيارة مصفحة، ليس فقط للمسؤولين الكبار وإنما لحماياتهم أيضاً، وطالب أحدهم بـ "عرض جلسة التصويت على السيارات المصفحة على الشعب" من أجل "إنهاء المزايدات" (3). كما طالب آخرين بإيجاد مخرج لإلغاء تلك الفقرة من الموازنة (4).

الغضب من النقطة الأولى كانت لإقرار المجلس لفقرة بعيدة عن الشعب، أما الغضب من الثانية فكان لعدم إقرار الفقرة الأقرب إلى الشعب وهنا طامة أكبر، وقال أحد النواب بأنها " ضربة قاضية للفقراء". ومثلما سارع النواب والقادة إلى التبرؤ من الأولى، كثرت المزايدات في الهجوم على عدم التصويت على الثانية. فهذا النائب عن ائتلاف دولة القانون حسن السنيد يهدد بالاستقالة من البرلمان إذا ألغيت المادة 36 (5).
وعن تلك الفقرة، قال عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار عزيز شريف المياحي عن الكتلة العراقية البيضاء بأنها "مشاريع للبنى التحتية بما لايزيد عن 18 ترليون دينار منها 2 ترليون دينار لبناء مجمعات سكنية للفقراء توزع بحسب النسبة السكانية لكل محافظة وتنفذ على اساس الدفع بالآجل "، محذراً من إجراء أي تعديل او تغيير عليها (6).
والحقيقة أن الفقرة لم تغير فقط، وإنما تم التصويت بإلغائها كلية، وسننتظر إستقالة السنيد ونتيجة غضب الباقين على "مصالح الفقراء"!

الملفت للنظر ليس فقط أن "فقرة الفقراء" بالذات هي التي ألغيت من الموازنة، وإنما حقيقة أن مخططي الميزانية قد اجمعوا وقرروا بأنها، لو تم التصويت عليها، فسوف تنفذ بالدفع "الآجل"!
ولعلكم تذكرون القضية التي إثيرت على وزير الكهرباء السابق وأن سببها كان قرار الحكومة بالدفع بالآجل لمشاريع كهرباء، فلم تجد وزارة الكهرباء شركات "رصينة" تقبل بالآجل في ظروف العراق فاضطرت لإعطائها للشركتين الوحيدتين التين قبلتا بذلك، وكان ما كان.

والآن، ماذا لو لم تجد الوزارة المسؤولة شركات تقبل بالتنفيذ بالآجل للبنية التحتية ومساكن الفقراء؟ ماذا إذا لم تجد غير شركات "غير رصينة" لتنفيذ تلك الفقرة؟ ماذا لو قبلت شركات ولكن بأسعار تعجيزية؟ عندذاك سيولول الجميع بعدم توفر المال وعدم قبول الشركات بالتنفيذ، ويتم إلغاؤها وكأن الحكومة والأحزاب قد أدت ما عليها تجاه "الفقراء" لكنه سوء حظ هؤلاء الفقراء ليس إلا، ولن يحتاج السنيد إلى أن يستقيل أو أن يشعر أي نائب بوخز ضمير!

يتساءل المرء، لماذا تترك مطالب الشعب إلى الصدفة وتعامل باعتبارها أقل المشاريع أولوية؟ الكهرباء كانت أيضاً مطلباً شعبياً أساسياً، فوضعت على لائحة "الآجل". ومثلما أعلن السيد المالكي في نفس تلك الأيام عن عقود طائرات أمريكية "تدفع من فائض النفط" تاركاً مشاريع الكهرباء لمشاكل "الآجل"، فأننا نقرأ اليوم ايضاً أن "العراق يستعد لتسلم صواريخ ومنظومة رادار متطورة جداً" (7)، وأنها ستأتي "من البلدان العالمية المعروفة بتصنيع هكذا انواع من الاسلحة." وهي بالتأكيد ليست بالآجل، بل تدفع مقدماً. هذا مع العلم أن العراق ليس معرضاً لأي تهديد، وليس هناك أية ضرورة مستعجلة لها.

يتعجب صادق حسين الركابي، كيف يمتلك شعب عشرات المليارات في خزانته، ورغم ذلك يبقى العراقيون "أغنياء تحت خط الفقر."؟ (8) لكن الصورة تتوضح شيئاً فشيء، والعجب يزول تدريجياً. ليست فقرة "مساكن الفقراء" هي السابقة الأولى من نوعها التي يصوت ضدها أو توضع على "رف الآجل"، ولم تكن الكهرباء هي الأولى ايضاً، بل يبدو أنها القاعدة العامة للتصرف بأموال الدولة، وأن مصالح الفقراء دفعت دائماً إلى "آجل" غير مسمى. ولولا ذلك لما وجدنا 7.6 مليون عراقي بدون مياه صالحة للشرب (9)، ولا جلس التلاميذ في مدارس الطين التي بلغت الألف مدرسة في العام الماضي، ومازالت تتكاثر، يعانون الحر الشديد في الصيف، وفي الشتاء ينقلون المدافئ القليلة بين الصفوف والإدارة، لكي لا يتجمد أحد من البرد (10)، ولا عاش "اكثر من نصف الشعب العراقي ... بأقل من "نصف بقرة" اوروبية!" (11)، ولا أضطر بعض العراقيين أن يبيع أعضاءه (12)، أو تصل الحالة بأب أن يبيع إبنه أو آخر أن يلقي به في النهر لشدة العوز! في ثاني بلد في إحتياطي النفط، وبعد سبعة سنين من ديمقراطيته (13).

وعندما يكون تركيز النواب على فقرات مصفحاتهم والسياسيين على إرضاء شركات الأسلحة الغربية وغيرها، فمن الطبيعي أن لاتجد فقرات الفقراء إلا "الآجل" المؤجل، بل إلى قضم الموجود البسيط منها. ففي أواخر عام 2007 الغت حكومة المالكي الأولى نصف مواد البطاقة التموينية بسبب "عدم توفر المخصصات المالية الكافية"، حيث تتطلب 8 مليارات دولار وقد خصص لها 3 مليارات فقط، حسب وزير التجارة.
في هذه الأثناء، كان وزير المالية باقر جبر الزبيدي يعلن أن العراق وقع اتفاقا مع الوكالة الدولية لحماية الاستثمار يقوم البنك الدولي بموجبه برصد 17 مليار دولار لحماية المستثمرين في العراق من "أية إجراءات تعسفية محتملة." وطبيعي أن البنك سيقوم باستقطاعها من العراق لاحقاً! فمن الذي قرر ان يعطي الإستثمار 17 ملياراً وأن الناس لا يستحقون أكثر من ثلاثة؟ هل انتخبه الشعب، أم "الإستثمار" يا ترى؟ (14)

قبل ثلاث اعوام تقريبا قال علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة العراقية أن "عدد الأيتام في العراق يفوق قدرات الدولة العراقية!" ومن الطبيعي أنه يقصد أن "قدرات الدولة العراقية" بعد استقطاع المصروفات الباذخة والرواتب الضخمة والسيارات الغالية والسرقات الكبرى، فأن "عدد أيتام العراق" سوف يفوق ما يتبقى من قدراتها! كتبت حينها في مقالة لي بعنوان "قدرات الدولة وأيتامها"، وشبهت حالة الشعب العراقي بالشعب المصري تحت حكومته السابقة التي ولا تجد المال اللازم لسكن أبنائها سوى المقابر لأنه "يفوق قدرتها" أيضاً، لكن دعم إسرائيل من تصدير الغاز المخفض بمقدار 13.5 مليون دولار في اليوم، لا "يفوق قدرتها".
و"يفوق قدرات الدولة العراقية" التي يحكمها الدباغ أيضاً، توفير مياه الشرب والحد الأدنى من العيش للإنسان الذي يضطر إلى بيع ليس شرفه فقط، بل أطفاله أيضاً، مثل قصة (زهراء) ذات الأربعة اعوام والتي بيعت في وسط بغداد بمبلغ 500 دولار كما نقل التلفزيون السويدي وطفل آخر في العاشرة باعه أبوه ليطعم أخوته فانتحرت أمه بمبيدات زراعية (15).

يجب أن يدرك العراقيون أن الإتجاه نحو "الإستثمار" والخصخصة والمؤسسات المالية الدولية التي تسيرها الشركات، أمر يجب أن يؤخذ بحذر شديد، وأن المنطقة مليئة بالألغام والأفاعي التي لا تقدر على الولوج فيها إلا أقوى الدول وأكثرها خبرة وخبثاً وقوة، وأن السقوط بين انيابها قد يعني نهاية البلد ومستقبله. والعراق ليس في وضع يتيح له الإستفادة المرجوة من تلك المؤسسات وذلك الإنفتاح على السوق والخصخصة والإستثمار، وان خير ما يفعله العراق اليوم هو غلق الابواب بوجه الإستثمار والقطاع الخاص، خاصة الاجنبي الكبير، قدر الإمكان والإعتماد على القدرات الذاتية وعدم تبديد النفط واستعماله بعناية وبحساب دقيق حريص وبضمير حي.

إن الإتجاه الحالي للساسة العراقيين بمختلف كتلهم هو بالعكس من هذا تماماً، وهناك اندفاع يكاد يكون جنونياً نحو الإستثمار والتبذير في استخراج وبيع النفط وكانه قذارة يجب التخلص منها بسرعة، وبلا اي تخطيط ولا اي حساب لما يحتاج إليه البلد وما يستطيع أن يستخدمه من امواله. مخططي الإقتصاد العراقيون، يخبرونا أنهم "يخططون" للوصول إلى 12 أو 14 مليون برميل في اليوم، لكنهم لا يخبرونا لماذا يريدون ذلك. لا يخبرونا أن العراق بحاجة للمشاريع كذا وكذا، وأن هذا يتطلب كذا مليار، وبالتالي نحتاج إلى 12 مليون برميل من النفط يومياً، إنما يقدم الرقم الأخير وحده، وكأنه يمثل خطة إقتصادية وغاية بحد ذاتها – ثم سنرى ما نفعله بتلك النقود! المهم أن نغلب السعودية في تبديد ثروات بلدنا لندخل مقياس جينيس. هذه حالة جنونية، ولقد لعب الإعلام العراقي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة دوراً سيئاً للغاية في توجيه المزاج الحكومي وربما حتى الشعبي، نحو استخراج النفط بلا حدود، ونحو الإستثمار والإنفتاح واقتصاد السوق. بل أن حتى يساريي العراق يخلطون انفسهم مع "الليبراليين" بلا وعي.

كتب رئيس الوزراء نوري المالكي في مقالة له في الواشنطن بوست في العام الماضي انه  يعمل "من اجل تحطيم الحدود التي تعيق الاستثمار من اجل ان تكون هذه الرؤية واقع حقيقي، وانا اعمل باجتهاد مع هيئة الاستثمار لضمان حق المستثمر الأجنبي، من اجل خلق بيئة مناسبة تساعد على قيام الاستثمار" (16).
ماذا عن حق العراقي في "بيئة مناسبة" لحياته؟ ما الذي تم عمله من أجلها؟ يجب أن يدرك الشعب أن هذا الإتجاه مؤسس بضغط الشركات العالمية، وأن لا مصلحة له إطلاقاً في مثل تلك السياسة. ولو ان العراق بلد فقير تعوزه الأموال لفهمنا إضطراره لقبول شرور الإستثمار على مضض، كما تفعل بقية الدول الفقيرة إلى المال، لكن كيف يمكن أن نفهم أن يفعل ذلك من يضطر إلى معاقبة وزرائه لعدم تمكنهم من صرف الأموال المخصصة لوزاراتهم؟ لقد اضطرت الحكومة سابقاً إلى معاقبة كل وزير لا يصرف ما يزيد عن 75% من مخصصات وزارته، واليوم تراجعت مضطرة إلى محاسبة كل وزير لا يصرف 60% من المخصصات المالية له، وإلا عوقبت كل الوزارات تقريباً! مثل هذا البلد يفترض به أن يستثمر أمواله في الخارج إن لم يستطع أن يجد لها استثماراً في الداخل ويعجز عن صرفها، لا أن يجلب إستثمارات من الخارج، وأن يستدين من مؤسسات تضع القيود على إقتصاده وقراراته، وأن يتحدث عن "عجز" في الميزانية، وكأن العجز قاعدة إقتصادية!

هل من المعقول أن تشتري وزارة الدفاع العراقية "النانو تكنولوجي" وطلاب العراق يقتلهم الحر والبرد في مدارس الطين؟
هل يجب أن ننسى ذلك ونفرح لأن "بورصة العراق تتصدر تداول الأسواق المالية العربية"؟ (17)، رغم أنه وفي نفس الوقت تماماً، تعلن وزارة التربية العراقية، عن إيقافها مشروع التغذية المدرسية المقرر تطبيقه للمدارس الابتدائية للعام 2012 ، والذي يتضمن قطعة بسكويت وقدح حليب وقطعة فاكهة، بسبب قلة التخصيصات المالية للوزارة؟(18)
هل من الضروري أن نشتري دفعة واحدة 18 من أغلى الطائرات الحربية "المتطورة" في العالم، في الوقت الذي يخبرنا اليونسيف أن هناك "حوالي 3.5 مليون طفل يعيش في فقر ويعاني أكثر من 1.5 مليون طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية ويموت 100 رضيع تقريباً كل يوم"، وأنه ينبغي حصولهم على الغذاء الكافي لتمكينهم من النمو بشكل سليم؟(19)

كم عراقياً ستنقذ تلك الطائرات الغالية و"الرادارات المتطورة"، وكم سياسياً ستنقذ تلك السيارات المصفحة، بأكثر من خطر يقتل 100 رضيع كل يوم ويشوه نمو الملايين، باستلابها التخصيصات المالية من أفواههم؟

لماذا تتفتح "قدرات الدولة" عندما يتعلق الأمر بشراء السلاح والتبذير ومشاريع مشكوك بها وأخرى مشبوهة، وتقف عاجزة أمام طعام الأطفال ومساكن الفقراء وحاجة الناس للماء والكهرباء والصحة، لتلقي بها في غياهب "الآجل"، أو يصوت البرلمان ضدها في النهاية؟ لقد شبه عبد الزهرة المنشداوي في مقالة له في المدى الفوارق بين رواتب المسؤولين ورواتب الناس، بالذي (يأكل بين عميان)، فيستغلهم بلا رحمة أو ضمير (20)،  وهذا هو الحال كما يبدو. لذلك فعلى الناس أن "تفتح أعينها" إن أرادت الأكل من وليمة الميزانية، وإن أرادت لأطفالها أن تتعلم وتنمو بشكل سليم. عليها أن تتساءل عن فائدة أي مشروع بالنسبة لها، وأن لا تخدع بعبارات لا ناقة لها فيها ولا جمل، مثل النانو تكنولوجي والبورصة والإستثمار وحرية السوق وصندوق النقد الدولي والخصخصة، فليست هذه إلا عبارات منمقة لأدوات لصوص أخترعت لسرقة ثروات الشعوب قبل ان تبني بها بلدانها. كيف يكون الإستثمار خيراً عندما يطالب بـ 12 مليار لما يستطيع القطاع العام توفيره بـ 800 مليون كما برهن وزير الكهرباء المقال، وبمثال عملي من الواقع؟ (21) أليست الخدعة واضحة؟

على الناس أن تسأل المسؤول: ماهو نفع هذا المشروع بالنسبة لي؟ ما هي الإتفاقات التي تمت للدراسة في الخارج، وبأي اختصاصات وكم تكلف، وهل نحن بحاجة إليها، وهل استخدمنا كل الشهادات العليا المتوفرة لدينا فعلاً لنرسل البعثات الجديدة بكل هذه الكلفة؟ ماهي نسبة بقاء الطلاب في الخارج بعد تخرجهم؟ ما هو النانو تكنولوجي ولماذا يجب أن نصرف فلوس عليه؟ إن لم أفهمه فاشرحه لي، لأن من حقي أن أعرف وأن افهم. لا يهمني أن أتفاخر بـ "آخر ما توصل إليه العلم"، لا اريد أعلى برج في المنطقة ولا أجمل بناية مجلس وزراء في العالم... أريد شيئاً نافعاً لي ولأولادي يعيننا على الحياة. هكذا يجب أن يفكر المواطن ويتكلم.

إن كل ما يقال عن تطوير الإقتصاد وبناء البلاد عن طريق حرية السوق كذب مفضوح. لقد تحدى البروفسور جومسكي أن يقدم أحد له مثالاً واحداً عن بلد تم بناء إقتصاده عن طريق حرية السوق، فلم يجد من يقبل تحديه! كلها بلا أي استثناء بنيت بالحماية، وعلى مدى التاريخ، من بريطانيا وأوروبا إلى أميركا وصولاً إلى اليابان ونمور آسيا والصين، فلماذا يشترطون على العراق أن يبني صناعته بحرية السوق؟ إن من يقول بحرية السوق والقطاع الخاص، لا يريد لهذا البلد والشعب الخير، وكلما أدرك الشعب ذلك مبكراً، بوضوح وبلا مجاملات، وأتخذ مواقفه الواثقة على اساس ذلك، زادت فرصته في الحياة.

في النهاية أقول، ورغم مرارة أخبار الميزانية الجديدة، فإني أرى هذا الغضب نقطة ضوء ووعي ديمقراطي، تبعث بعض الطمأنينة. إنه يعني أن الشعب بدأ أخيراً يدرك عميقاً أن ثروات بلاده هي ثرواته، وأن المسؤولين ليسوا أصحابها يتفضلون عليه بفتات التبرعات هنا وهناك كلما أراد واحد منهم أن يؤمن أصوات ناخبيه، وإنما هم وكلاء أُجراء فقط، كلفهم بإدارتها وتحت رقابته، وقد بدأ يطالبهم بتوزيعها لصالحه ولصالح مشاريعه، ويرتفع صوته المهدد وليس المتوسل، بما يخيف "ممثليه" في البرلمان، ويجعلهم يحسبون حساباً لرأيه. وخير دليل على ذلك الدعوات التي تنادي بإعادة التصويت على "فقرة 36" و "فقرة السيارات".

يجب أن أذكر هنا أن البرلمان يبقى الحصن الديمقراطي الأهم للشعب، وسنده الأخير، وأن حكومة المالكي هي حكومة منتخبة بحق، رغم بعض إشكالات الإنتخابات، وإن جرى تزوير في الإنتخابات السابقة فقد جرى بالضد منها وليس لصالحها. ليكن واضحاً أن هذه المقالة لا تدعوا إلى إلغاء البرلمان أو إعادة الإنتخابات، فليس هناك أي مؤشر إن الحكومة القادمة ستكون أفضل بالضرورة. إنني أدعو الشعب فقط إلى ممارسة دوره المطلوب في الرقابة الشعبية، وإلى الوعي بأن ثروات البلاد ملك له وأن البرلمان والقادة ليسوا سوى وكلاء انتخبهم الشعب لإدارة مصالحه، ولكن برقابته المستمرة. فإن تخلى الشعب عن رقابته، فلن يمكنه أن يأتي بحكومة ونواب يخدمونه حقاً، مهما حاول ومهما أعاد الإنتخابات، وتجارب الشعوب العريقة في الديمقراطية تؤكد ذلك. مجلس النواب والحكومة المنتخبة والإنتخابات والصحافة الحرة، هي أدوات للديمقراطية – حكم الشعب – وليست الديمقراطية نفسها. ولهذه الأدوات كغيرها، أمراضها ونقاط ضعفها، ولذلك وجدت الشعوب أن الطريق الوحيد الصحيح هو باستمرار المراقبة الشعبية والتصحيح والتنظيف إن تطلب الأمر. فالسلطة تدعو للفساد والتوسع، والإغراءات شديدة والضغوط أشد عليها، وأن هذه الضغوط والإغراءت على النواب والحكومة يجب أن يتم معادلتها بضغط الرقابة الشعبية القوية من أجل حماية ممثلي الشعب وحكومته من الإنزلاق.

إن ما حدث اليوم هو تجاوز للإستقطاب الطائفي الذي طالما احتمى به السياسيون ليقيهم المساءلة، فهو يقسم الناس بين "مؤيدين دائماً" لا يخشى منهم، و"محتجين دائماً" لا جدوى من محاولة كسبهم ، وهو ما يعفي الحكومة والبرلمان من أية رقابة شعبية مؤثرة، والتي هي من أسس الديمقراطية.
لكن الرقابة الشعبية مازالت عليلة، بل ومازالت مستهدفة. ومازال مجهولاً للناس أي من البرلمانيين صوت على اي قرار وبأي شكل. واليوم قرأت عن غش في التصويت الإلكتروني في البرلمان(22). ولكن متى تم إقرار التصويت الإلكتروني في البرلمان؟ وما هي الإحتياطات التي اتخذت بشأنه؟ لطالما حاول البعض التخفي وراء التصويت الإلكتروني والتصويت السري الذي لا يفسر إلا على أنه ستار يحتاجه لتمرير مواقف مخجلة لا يريد الناس أن يروه يتخذها، مثل المواقف الأنانية اللصوصية ومواقف الرضوخ لضغوط الشركات الأجنبية الكبرى والدول القوية على حساب مصالح الناس، وطالما كتبنا عن ذلك وحذرنا منه، وإذا به يمرر خلسة وبدون علم الناس!
على الشعب أن لا يستخف بهذه الإجراءات ولا يعتبرها صدفة وأن ينظر بعين الشك إلى أي إدخال للإلكترونيات والحاسبات في شوؤن التصويت وحساب الأصوات، فهي مصدر لا ينضب للغش الذي لا يرى ولا يكتشف، وهو بالضبط ما يريده البعض. يجب المطالبة بكشف كل جلسات البرلمان (إلا في الحالات النادرة التي يريد المتكلم فيها ذكر أسرار عسكرية أو أمنية خطيرة) وجعلها علنية، وربما تخصيص قناة تلفزيونية لها كما في بعض الدول الأوروبية. على الشعب أن لا ينسى حقوقه، ولا يأتمنها تماماً لأحد، ولا يقبل أن يكون "أعمى الوليمة". عندها فقط يمكنه أن ينتظر ثمار الديمقراطية الطيبة ويستحقها، ولتكن "غضبة السيارات المصفحة" إشارة تحول في الرقابة الشعبية العراقية، وعندها فقط لن نرى من يجرؤ على التصويت ضد فقرات مصالح الفقراء أو تركها لـ "الآجل".

(1) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13420
(2) http://al-nnas.com/ARTICLE/TITaha/5mth5.htm
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13532
(4) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13517
(5) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13418
(6) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13356
(7) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13554
(8) http://al-nnas.com/ARTICLE/is/16t.htm
(9) http://www.margaya.com/forum/index.php?topic=16601.0
(10) http://www.yanabeealiraq.com/n1011/n14111108.html
(11) http://www.doroob.com/archives/?p=22338
(12) http://www.dctcrs.org/s5297.htm
(13) http://www.sautalomal.org/index.php?option=com_content&view=article&id=1508
(14) http://www.alnoor.se/article.asp?id=15382
(15) http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/1eg.htm
(16) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=10072
(17) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=5784
(18) http://www.aknews.com/ar/aknews/3/286660/
(19) http://www.yanabeealiraq.com/news0511/n02071108.html
(20) http://almadapaper.net/news.php?action=view&id=16598
(21) Iraqi ousted minister: J.P. Morgan chockes our economy and controls it
(22) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=13553

ماهر سعيد متي

تنادي وينادي الخيرون .. فها من مستمع ؟؟؟
عاشت الأيادي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة

صائب خليل

الأستاذ ماهر سعيد المحترم، مادام الأصدقاء من أمثالك يستمعون، ويشجعون ، فالجهد لم يضع .. :) تحياتي وشكري لك