تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

نكران الجميل

بدء بواسطة matoka, فبراير 18, 2012, 05:14:32 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

نكران الجميل




شمعون كوسا

قبل ايام كنت في زيارة لاحد الاصدقاء أتصفح وإياه كتاب الدهرعن طبائع البشر واخلاقهم وأيضا عن موازين الاعتدال والتقصير والمبالغة في التصرف، ذهبنا من فصل الى فصل الى أن بلغنا الصفحة المائة والثمانين عن موضوع نكران الجميل . حال وقوع نظر صديقي على هذا العنوان ، طلب مني التوقف ليسرد لي قصة بهذا الخصوص كان قد تأثر بها  ، فقال :

كان هناك شخص يُدعى العم منصور قد حباه الله بكثير من المزايا والصفات الحميدة التي جعلت منه شخصا طيب المعشر ، جذّابا . مرونته في التعامل مع الغير سهلت عليه إقامة علاقات ودّ مع كثير من الناس ومن بينهم شخصيات رفيعة  تحتل مراتب عليا في المجتمع ، ممّا يسّر عليه تسيير الكثير من أموره  وأمور غيره من المحتاجين .

قصَدَه ذات يوم شابّان يحملان رسالة من احد معارفه يرجوه فيها استخدام علاقاته لايجاد عمل لهما . كان الشابان ، اللذان يحملان اسمي  قَـرَني وصبري ، حديثيَ العهد في تخرجهما ويبحثان منذ فترة عن عمل يُعينهما على إعالة اسرتيهما الكبيرتين ، ولكن دون جدوى . عند وصولهما الى بيت العم منصور ، إعتراهما مزيج من الخجل والتردد بحيث كان كلّ واحد يدعو الاخر للدخول قبله . لدى رؤيتهما من بعيد واقفَين عند عتبة الباب ، لان الباب كان مفتوحا، أشّر لهما العم منصور بالدخول وهدّأ من روعهما  ودعاهما للجلوس. بعد قراءة رسالة صديقه وسماع حديث كل واحد منهما ، طمأنهما بابتسامته الوديعة ودعاهما لتناول الغداء معه.

لدى مغادرتهما رَبَتَ على ظهرهما ووعدهما خيرا . وفعلاً  تمّ كل شئ كما تمناه إذ بعد اسبوع واحد فقط تمّ تعيين  قرَني  موظفا في وزارة الاتصالات وصبري في وزارة الاشغال.


دارت أيام ومرّت شهور غدت أعوامَ . خلال هذه الفترة كان قرَني ،موظف الاتصالات،  يقوم كل سنة بزيارة العم منصور الذي كان يعتبره وليّ نعمته. كلّما كان يدخل بيت العم منصور يُسرع منحنيا لتقبيل يده وكان هذا يسحبها مستغفرا الله ويحضنه مطولا وبقوة . لم يفوّت قرَني سنة واحدة دون القيام بهذا الواجب الذي كان بالنسبة له جزءً بسيطا جدا من ردّ الجميل .

أما عن صبري ، موظف الاشغال ، فانه لم يُجرِ أيّ اتصال خلال تلك الفترة ، غير ان العمّ منصور كان يتابع اخباره وتطوراته عن بُعد . بَعد اثنتي عشرة سنة من ابتداء قصتنا، وجد العم منصور نفسه ضحية تقلبات الدهر ، إذ اختفى اغلب معارفه المتنفذين واصبحوا خارج الساحة ولم يَعُد ليده نفس طولها السابق والكثير من اموره الاعتيادية واجهت عقبات لم تتعرض لها فيما قبل . بعض الاجراءات في احدى المعاملات ، اجبرت العم منصور على التوجه الى العاصمة ، فوجدها فرصة مؤاتية لزيارة صبري، لانه كان مشتاقا للقائه ، ومن جهة اخرى فكر بانه بزيارته سيمنحه شرف ردّ بسيط لجميل قديم ، لان صاحبنا كان قد تبوّأ منصبا مرموقا في وزارته .

عند وصوله امام مكتب صبري ، سأله الحاجب عن اسمه وسبب زيارته ، فاجابه العم منصور بان مجرد ذكر اسمه كافٍ لكي يترك المدير مكتبه ويتلقاه بالاحضان . ولكن كم كانت دهشته كبيرة عندما خرج الحاجب ليقول بان السيد صبري لا يستطيع مقابلته حاليا بسبب انشغاله وانه سيقابله بعد ساعتين . إندهش العم منصور ولكنه لم يشأ الذهاب بعيدا في التفكير أوتأويل الامر . عندما حان موعد مقابلته ، دخل المكتب بابتسامة عريضة وبيدين امتدتا من بعيد لمعانقته ،غير انه لم يلقَ من صبري غير ترحيب بارد هو اقرب الى الجفاء . جلس العم منصور والدهشة قد بدت على وجهه ، وقبل أن يبدأ بالكلام طلب منه صبري إيجاز حديثه لضيق وقته ولارتباطه بمواعيد اخرى . لم يتحمل العم منصور هذا التصرف ، واراد ان يذكّره بنفسه وبما جرى قبل اثنتي عشرة سنة ، فقاطعه صبري بعصبية وقال :

هل اتيت لكي تذكّرني بنفسك وبانك صاحب فضل عليّ ؟ يجب ان تعلم بانك لم تفعل شيئا من اجلي . هل كلفتْك مكالمتُك الهاتفية في حينها شيئا ؟ هل انفقت مالاً لاجل ذلك ، أم تعرضت أنت لجهد عضلي أنهك قواك وطرحك الفراش ؟ على أية حال أنا كنتُ سأعثر على العمل إن كان ذلك بواسطتك او بدونها . إن الدنيا قد تغيرت وانا ارتبط الان بعلاقات مهمة مع اصدقاء لهم وزنهم الثقيل .   لم يتحمل العم منصور هذه الصلافة فترك مكتب المدير مخذولا والحيرة قد خيّمت على زوايا فكره الاربع وأثقلت خطاه . كان يهزّ رأسه ويردد مع نفسه قائلا : أيُعقل ان يكون الانسان ناكرا للجميل بهذا القدر وبهذه الصورة السافرة والوقحة ؟ هل يمكن ان يكون الانسان بهذا الجحود وهذه العجرفة   ، أنه لم يشأ حتى الاطلاع على طلبي ، لقد اهانني انا الذي وضعته على سكة أفضت به الى هذا المستقبل وهذا المنصب الرفيع .

عندما انتهى صديقي من سرد رواية العم منصور ، قلتُ له بان الحديث هذا نموذج صغير لقصص تتكرّر وتتنوع كل يوم فالدنيا مليئة باحداث مماثلة ، بنكران جميل تقع احداثه بين الاولاد واقربائهم ، والاصدقاء فيما بينهم ، والزوجة مع الزوجة ، والرئيس مع مرؤوسيه ، أوالمعلم مع طلابه وهكذا .

إن ما يحدو بالانسان الى نكران الجميل هو أنانيته وتكبره واحيانا وجود خلل في احساسه .  فالجحود سمة من لا يرى أبعد من مصلحته الذاتية ، وعند حصوله عليها يتناسى كل شئ . لا يمكن لمثل هؤلاء مبادلة صاحب الفضل بنفس شعوره .

إن من يبادر عادة بتقديم خدمة للغير لا ينتظر ردّا أو مقابلا ، ولكن موضوع الاعتراف بالخدمة أوالتعبير عن الامتنان هو أمر طبيعي لا سيما اذا كان صاحب الفضل قد عرّض حياته للخطر او ضحى الكثير في هذا السبيل ، او صرف أموال طائلة او اقرض مبالغ او منحها  او قام بضمان وكفالة المحتاجين ، أو في حالات اخرى قام بالعفوعن اهانة كبيرة أو آوى أحدا في داره ، أو أية حالة صعبة اخرى تندرج ضمن  الخدمات الخارجة عن نطاق المألوف .

إن نكران الجميل هو من شيم اللئام . تحضرني هنا طرفة صغيرة لربما قد سمعها الكثيرون ولكنها تندرج ضمن هذا السياق :

كان هناك رجل اعمى . بعد سنتين من زواجه ، عطفتْ عليه زوجته وفكرت في التخلي له عن عينها اليسرى لكي ينفتح على العالم ويرى جمال الحياة . خضع الزوج لعملية نقل العين وبقي معصوب العين لمدة يومين . بعد رفع ضماداته في اليوم الثالث ، بدأ الزوج باجالة نظره في جميع الاتجهات وهو مندهش لما يري وعند الوصول الى زوجته قال لها : هل انت زوجتي ؟ فقالت له نعم وهي تبكي من الفرح . ولكنه هو قطّب جبينه وقال : انه من غير المعقول ان امضي حياتي مع امرأة عوراء ، وألقى عليها يمين الطلاق في الحال ، وهكذا دخل اسمه سجلّ من قيل عنهم : إتّق شرّ من احسنت اليهم . فالاعمى الذي ابصر النور ، وهذا شئ لا يحدث الا في الاعاجيب ، لم يكتفِ بانكار الجميل فحسب ولكنه قابله بالسوء .

ان الحياة مزروعة في كل شبر منها بمثل هذا النوع من الناس ، ولكن بمستويات متفاوتة . بعض هؤلاء يخشون الرجوع الى سنوات خلت لئلا يجدوا انفسهم امام دَين عليهم ان يعترفوا به. مصلحتهم الذاتية والانية تدفعهم الى بناء سور عال يحدد الزمن في ضمائرهم بحيث لا يترك المخيلة تذهب ابعد من عشر او خمس عشرة سنة لان عبور السور سيوقعهم في أرض ملغومة بجمائل لا سبيل لنكرانها ، جمائل قد تحرجهم لانهم لم يعودوا على استعداد للاقرار بها خوفا من ان تحط من قدرهم ، هم الذين غدوا كبارا بمقاييس الدنيا ومظاهرها وصاحب الفضل بقي صغيرا بمفاهيم الدنيا ومقاييسها غير انهم تناسوا شيئا وهو ان هذا الصغير كان دوما كبيرا بمعايير اخرى وبقي كذلك لان كرمه لم ينقطع وعطاءه لم ينضب .

أختتمُ الموضوع بالقول إنّ الاعتراف بالجميل  شعور لا يصغّر الكبير ولا يخجل منه الصغير لانه يرفع من  شأنهما .انه شعور نابع من أصالة الانسان واخلاقه وتربيته . فالاصيل ، لانه ذو جذور عميقة ، يعترف ويشكر ويردّ الجميل اذا سنحت له الفرصة ، اما غير الاصيل ، لانه سطحي ، فانه لا يضع اي اعتبار لغير نفسه ولهذا فانه على استعداد لنسيان اعظم الجمائل وانكارها .







ورد لينا عبر بريد الموقع
Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

علمته رمي السهام فلما اشتد ساعده رماني
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة