التقدم في السنّ يزيد المرء ذكاء ودهاء/ شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 10, 2017, 12:04:05 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

التقدم في السنّ يزيد المرء ذكاء ودهاء     
   


برطلي . نت / بريد الموقع

شمعون كوسا



لقد قيل بانه لا جديد تحت الشمس . فعلا ، كل ما قيل  ، ويقال الان ، وسوف يُقال قد تكرر لمئات ألوف المرات قبل الان. منذ أن وعى الانسان لنفسه ، ابتدأ بمعرفة الامور ، وبملا حظة الظواهر ، وتوصل الى نتائج . وعلى مرّ العصور قام الاذكياء بصياغة الامثال ونضمها في ابيات شعرية  ، ووضَعَ القدامى الاسس والانظمة ، ولم يكفّ  اجدادنا وجداتنا عن سرد القصص القديمة عن المبادئ والاخلاق  الحميدة . ونحن الان كل ما نقوم به هو العودة الى إحدى تلك القصص ، خدمةً للذين هم في عشية بلوغهم  وهم بأمسّ الحاجة الى دروس مستقاة  من صلب الحياة  ولا يمكن الاستغناء عنها. والقصة القصيرة التي  أنا بصددها تلقيتها من احد الاصدقاء الفرنسيين . لعل البعض قد سمعها ولكنها تستحق الاعادة بأسلوب جديد مشوّق ، لأنها بالرغم من بساطتها فإنها تنطوي على الكثير من العبر ، وعلى شاكلة الكثير من الامثال والقصص فالأبطال هنا أيضا حيوانات متواضعة.
يُروى عن كلب كان قد تقدّم به السنّ ، نهض صباح أحد الايام بعد ليلة أمضاها في حلم طويل وهو بصحبة مجموعة من الفراشات . أراد الكلب ان يتواصل مع حلمه ، فقرر الخروج لمطاردة الفراشات داخل غابة قريبة من شقته. كانت الغابة كثيفة جدا ولم يكن قد تجرّأ دخولها قبل ذلك  خشيةَ الضياع ، كونها غابة مترامية الاطراف ، واسعة ومتشعبة بصورة غير منتظمة . غير أنه منساقا برغبة عارمة في البقاء حالماً ، ارتدى ثوب الجرأة  وقال : الى متى الخشية ، إن الحياة قصيرة ويجب عليّ  عليّ استغلالها.
تقول القصة بان فراشات الغابة أحسّت بمقدم الكلب وبنواياه، فاتفقت على اللهو معه قليلا وإدخاله في مقالب. بدأت ترفرف بالقرب منه ، وانتقلت بغنج من شجرة الى شجرة ، ومن زهرة الى اخرى ، حطّت حينا على غصن شجرة وهبطت الى حدّ التماسّ مع الاعشاب ، كان تأخذ منحى اليسار وتعود الى اليمين ، وهكذا كانت من خلال حفلتها الراقصة هذه ، تلهو في حركات دنوّها وابتعادها. كان يلاحقها الكلب اينما اتجهت ، وكأنه لا زال  في ذات الحلم الذي اسعده ليلاً . استمر اللهو لعدة ساعات ، ولم يشعر الكلب  بالوقت الى أن وجد نفسه وقد ابتعد كثيرا من نقطة انطلاقه بحيث أضاع تماما طريق العودة.
في خضمّ حيرته هذه ، لاحظ الكلب من بعيد حيوانا مفترسا ، يتأهب للتوجه نحوه والهجوم عليه ، عرفه للحال بانه فهد حديث العهد . بدأ الفهد المليء حيوية يغذّ السير ويجري دون دويّ لئلا يلحظَه الكلب فيلوذَ بالفرار.
كان الكلب قد ابصر الفهد ولكنه أدار له ظهره . تقول القصة بان الكلب كان في مأزق شديد ولا يعرف كيف يتصرف ، لانه إذا قرّر الفرار فان الفهد الفتي اسرع منه في العدو  فسيلحق به ، لذا رأى بان الاجدر به إعمال عقله . إلتفتَ قليلا الى اليمين فرأى عظاما كانت بقايا وجبة دسمة لاحد الكواسر. خلال لحظات قليلة استعرض الكلب  سنوات عمره وتصور الكثير من المآزق الحرجة التي واجهته ، وأعاد الى اذهانه احاديث سمعها من ابائه واجداده ، فأنتبه  لفكرة أضاءت داخل رأسه وقال : أفضل ما استطيع القيام به هو تمويه الفهد . فجلس وكأنه لا يرى الحيوان المفترس الفتي ،  وبدأ يتناول العظام الواحدة تلو الاخرى ويمضغها بشهية غير مسبوقة ، وبقي على هذه الحالة الى ان دنا الفهد منه كثيرا وتهيّأ للهجوم عليه . في تلك اللحظة ، فتح الكلب فمه وصرخ بصوت عال قائلا : يا لله ، ما اشهى هذه الوجبة ! هل يا ترى سيُسعفني الحظ بالحصول على فهد آخر افترسه والتذّ بلحمه وعظامه ؟!!
عند سماع كلام الكلب ، إنسحب الفهد الفتيّ ببطء لكي لا يحسّ به الكلب ، وبدأ يزحف في الغابة دون ضجيج الى ان ابتعد عن المكان فاطلق ساقيه للريح شاكراً الله على نجاته والنفاذ بجلده من انياب كلب كان سيلتهمه لا محالة . في هذه الاثناء ، كان هناك قرد معلق على غصن شجرة غير بعيدة ، أحس بالحيلة التي لجأ اليها الكلب ، فنزل من الشجرة بسرعة البرق وقال في سرّ نفسه : لماذا  لا استغل الموقف لصالحي فأكشف للفهد حقيقة الكلب ، فاحصل منه على تعهد لحمايتي في الغابة !!؟
شعر الكلب بحركة القرد المفاجئة ، وادرك بانه هناك مؤامرة تحاك ضده ولم يأمن الوضع.
عند سماعه وشوشة القرد، غضب الفهدُ للمكيدة والسخرية التي تعرّض لهما وقال للقرد : اقفز على ظهري وسترى ماذا سأفعل بهذا الكلب الهرم المخادع . سوف لن ينجوَ مني هذه المرة. أحسّ الكلب من جديد بالفهد متجها نحوه بسرعة هائلة وهو يحمل على ظهره القرد الواشي. كان الكلب في ذكائه ودهائه قد تهيّأ للموقف الجديد ، ولم يتحرك ، بل بقي ثابتا في مكانه غير آبهٍ بالقادم الجديد ولا بما  يحمله على ظهره ، تجاهلهما الكلب  ولم يُعر لهما اهتماما وكأنه يسمع طنين ذبابة.
في لحظة وصولهما ، رفع الكلب من جديد صوته عالياً بتبرّم  وامتعاض شديدين  قائلا : اين ذهب هذا القرد اللعين ؟ اين هو، لقد تأخر كثيرا ؟  كنتُ قد ارسلته للبحث عن فهد فتِيّ آخر ألتهمه والتذ بلحمه وعظامه ، اين هو لا زلتُ جائعا ؟
عند سماعه صوت الكلب ، قال الفهد في سرّ نفسه ان هذا الكلب فعلا قد اختص بالبطش بالفهود أمثالي ، وان القرد هذا حيوان مراوغ ،  ولم يأتِ بي هنا الا خدمة للكلب ، فرماه من على ظهره بقوة وولّى هاربا .
هنا تنتهي القصة وقد لا تحتاج لتفسير. ولكني لن اغادر الصفحة  قبل ان أقول : هذه قصة بسيطة موجهة لنا نحن البشر ، إنها تحوي  درسا بليغا القاه الكلب . يقول لنا استاذنا الكلب بانه لا يجب ان يستهين الشباب بقوة من تقدموا في السنّ . صحيح  ، انهم ضعفاء البنية وغير قادرين على المقاومة ، غير انهم قادرون على المقاومة  والخروج من المآزق لان قوتهم في عقلهم وفي خبرتهم التي أكسبهم دهاء . انهم يقابلون بعقلهم ودهائهم العضلات الشابة المفتولة التي تفتقر الى هذه الافاق الواسعة .