حلم أعادني إلى أيام الصِبا / شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, مارس 07, 2017, 05:21:46 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

حلم أعادني إلى أيام الصِبا       
   


برطلي . نت / بريد الموقع

شمعون كوسا



بغية قطع خيط افكاري التي فقدت تسلسلها لأنها كانت تقفز من سياج الديك الى حظيرةالحمار كما يقال ، خرجتُ هائما على وجهي  من جديد أسير على غير هدى .كانت قدماي قداستلمت زمام الامور فوضعتني على سكةلا يمكن الحياد عنها ، سكة تحاذي المياه وتنتهي في اوسع مرتع فتحت فيه الطبيعة أحضانها عارضة  كامل سحرها وجمالها. بعدوقت قصير من مسيرتي على هذه السكّة، وجدتُ نفسي قبالة حائط شكلتهمجموعة من الطيور، حشد كبير لم يكن بوسعي تجاوزه.توقفتُ قليلا لاستقصاء أمر هذه التظاهرة ،واذا بالطيور تتسابق في التقدم نحوي وكل واحد منهم يردّد دون انقطاع كلمة أنا أنا. قلت  في نفسي ما بالُ هؤلاء الاخوة ؟هل يرون فيّ صاحب مشروع  قصدهم لانتقاء عدد من الايدي العاملة لتنفيذ مشروعه مثلا ، كما يفعل بعض اصحاب المشاريع في الاسواق عند احتياجهم للعمال؟ جلب انتباهي بصورة خاصة طيرُقد ارتدى بدلته ذات الالوان الهادئة، وقال لي : اليوم انا الذي سأقودك الى موقع جميل شاعري، في بقعة لم تطأها قدماك قبل الان ، موضع تهطل عليه أمطار محمّلة بكثير من الالهام والاحلام .
تفرقّ الحشد وانتهت طلباته، مشيتُ والطيرَ قائدي الى ان بلغنا المنطقةالمقصودة ، فتوجهت الى صخرة عريضة وجلست عليها .بقي رئيسُ  تشريفاتيذو الالوان الهادئة واقفا أمامي ينتظر.رفعت انظاري واجلتها بكل الاتجاهات ، وبعد فترة من الصمت ، قلت له : أين الالهام واين الاحلام التي وعدتني بها، هل تعرف باني خرجت لأستجدي افكارا تساعدني في كتابة مقال؟
قال لي : سوف اقول لك شيئا ، وأرجو ألاّ تغضب . ألا يكفيك ما كتبتَه لحدّ الان ؟ ماذا جنيت من كتاباتك ؟ لقد تناولتَ رجال الدين مرات عديدة في نقد بنّاء ، وكنت تحسب نفسك في كل مرة بانك فجّرت قنبلة ، ألمستَ تغييرا او فرقا فيمن كنت تقصدهم ؟ لقد كتبتَ عن الظواهر السلبية والعادات السيئة ، لقد كتبت عن الكذب والحسد والغيرة والتكبر  وتناولت موضوع الصداقة الحقيقية والقناعة والوفاء ، لقد بكيت لحالة البؤس ووصفتَ هول الكوارث التي اضحى أهلونا ضحية لها ، هل اصطلح شئ اوتغيّر ؟ ومن جهة اخرى ، ماذا تحسب نفسك ؟إعلم بانك لست سوى  ذرّة صغيرة في نقطة ماء في المحيط مقارنة بِمن سبقوك من ملايين المشاهير والحكماء والفلاسفة والكتّاب والمفكرين وقبلهم الانبياء . توالوا تباعا منذ آلاف السنين وكانت وصية واحدة ، بل كلمة واحدة كانوا قد أجمعوا عليها ، وهي المحبة ، وهذهالكلمة الوحيدة كانت كافية لإصلاح المجتمع وايقاف الخصوماتبينهم ووضع حدّ للحروب واحلال الامن والسلام في العالم أجمع ،  هل ترى بأن البشرية اهتمت لهذه الكلمة وطاوعتها ولو قليلا ؟ وهل هي الان في حال افضل ؟ توقفَ الطيرُ هنا منتظرا جوابي، فلم يكن بوسعي إلا ان أؤيده تماما واقول : ان ما تقوله هو عين الصواب.
قال لي : اذن لا تُجهد نفسك ، انظر وتمتع وتأمل بما خلقة الله. ابتعد عن صخب العيش ومنغّصات الحياة وتعقيداتها واحلم وعد الى لحظاتك السعيدة. قال هذا وابتعد قليلا .تأثرت بكلام الطير الحكيم هكذا ، وبينما كنت اتطلع الى السماء الزرقاء تابعت سحابة بيضاء كانت تقودها الرياح وكأنها ممسكة بها من رقبتها  لتذهب بها الى مكان مجهول .  تابعتُ حركة السحابة المقبوض عليها ، ولم افارق خط سيرها المتباعد  الى ان غـلبني نوع من النعاس.اغمضت عينيّوفي طرفة عين وجدت نفسي داخلشقلاوا القديمة ، وفي الزمن القديم الذي لم أكن قد جاوزت فيه العاشرة من عمري. عدتُ الى بلدتي شقلاوا، التي كانت اجمل بقعة في العراق . وجدت نفسي بالتحديد في منطقة مهندسخانه التي تتّكئُ على جبل سورك المعروف بتربته الحمراء . عدتُ الى منطقة كنت أتمثّلها دوما ككرسي صلاة أو معبد مفتوح باتجاه جبل سفين . خلت نفسي جاثيا ، أناجي هذا الجبل الاشمّ الذي بارتفاعه الشاهق وجبروته ، كان يضاهي آلهة اليونان القديمة التي تناولتها أساطيرهم في الكثير من مغامراتها الخيالية!!!
رأيتُ بان الغيمة البيضاء التي ادخلتني في هذا الحلم قد استقرت  على قمة الجبل . فتذكرت حالا الساعات التي كان يكفهرّفيها الجو وتتجمع الغيوم الكثيفة في هذا القمة وبعملية شبه سحرية تنقشع كقلنسوة بيضاء تزين رأس الجبل .وتذكرت ايضا ايام يشتدّ فيها البرد ليلا ، بعد ان يكون الجبل قد لبسثوبه الطويل ، يقومبتفصيل  ما فاض عنه مننسيجه الابيض ،على مقاسات تضاريس المنطقة من تلال وآكام ومنخفضات وأحجار وأشجار.
تذكرتُ صوتَ الرياح القويةالتي ، كانت اثناء هبوبها بقوة في هذه المنطقة ومرورها بين اوراق الصنوبر الإبرية ، كانت تُحدث أزيزا وصوتا غريبا خاصا في كل كَرّ وفرّ . والجبل الازلي هذا قادني الى كنيستنا القديمة المشيدة في اعلى نقطة من سفحه. وكيف لي تصوّر الكنيسة بمعزل عن مام توما باتري وهو مُمسكبمفتاحها الخشبي . ومنظر مام توما باتري وضعني في أزقّة الدور الطينية التي كنا نسلكها صعودا للّحاق بمراسيم الاعياد التي كانت تقام في اوقات مبكرة جدا وهذا كان أحد اسباب سرورنا  .إن حلمي هذا يتناول زمناً كانت منازلنا بسيطة جدا وشوارعنا أزقة ، ولم يكن قد شوّهها العمران غير المدروس ، زمن كانت شقلاواعامرة باشجارها المثمرة في الوادي وغاباتها الكثيفة في الجبل .
كان سكانها الاصليون يعيشون بسلام لانهم كانوا قد تشبّعوا من المحبة، ولم يكن قد أمّها الأغرابالحاليين ، الذين لا يرون في هذه البقعة الجميلةغير مساحة ارض تتيح لهم تشييد بنايات ذات واجهات فخمة. تخيلت الشمس والمطر وحتى الغيوم تشكو منهم وتقول : لماذا لم يبقَ لساكني هذه البقعة نفس الشعور السابق ، إننا لم نعد نرى على وجوههم نفس السعادة  والترحيببالرغم من أننا نحلّ عليهم بنفس أشعتنا النيّرة السابقة ونأتي بنفس امطارنا الغزيرة وثلوجنا ونحترم مواسمنا ؟
قبل ان اجيب على هذا التساؤل ، أحسستُبشئ يلمسني ، ففتحت عينيّ على الطير الساحرالذي كان يحاول إيقاظي بواسطة جناحه.قلت له : كان فعلا حلما سعيدا جدا وانا شاكرك عليه ، ولكني سأتذكر دوما بانك قد الهيتني وانت كنت سبب غيابي عن الكتابة لهذه المرّة.عند هذه الجملة الاخيرة  اختفى طائري بسرعة البرق .
لم اعلمفعلا اذا كان هذا الطائرعصفورة حقيقية ، أم مرشدا روحيا ، أم جِنيّا ، أم مجرد منوّم مغناطيسي!!!
.