انتفاضة تشرين صراع طبقي من أجل العدالة الاجتماعية/ د. يوسف شيت

بدء بواسطة matoka, ديسمبر 08, 2019, 09:46:26 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

انتفاضة تشرين صراع طبقي من أجل العدالة الاجتماعية






برطلي . نت/بريد الموقع
د. يوسف شيت


منذ بروز المجتمعات البشرية الأولى ولحدّ الآن يفكر الإنسان قبل كلّ شيء بحاجاته المادية , كالأكل والشرب والملبس والمسكن . إلى جانب ذلك للإنسان حاجاته الروحية ومعتقداته الدينية والمذهبية السماوية وغير السماوية . وهذه الحاجات لا يمكن توفيرها بدون نشاط الإنسان نفسه.
جاء في مقدمة البيان الشيوعي 1848 "إنّ تأريخ أي مجتمع حتى الآن , ليس سوى تأريخ صراعات طبقية ...وفي العهود التاريخية الأولى نجد,في كلّ مكان تقريبا,تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة,وتدرجا متفاوتا للمنزلة الاجتماعية... والمجتمع البرجوازي العصري الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي لم يلغ الصراع الطبقي , بل أحلّ محل الطبقات القديمة طبقات جديدة وأساليب اضطهاد جديدة , وأشكالا جديدة للنضال" . حتى يومنا هذا, نرى بشكل واضح تغيير أساليب الاضطهاد وتعددها ومنها الإجهاد العضلي والفكري والنفسي للشغيلة وتشويه حقوقها ومطالبها عن طريق الإعلام والقمع بكلّ أشكاله , وهذا الاضطهاد لم ولن يميّز بين دين أو مذهب أو طائفة أو قومية المضطهد (بفتح الطاء). والاضطهاد لا يمكن أن يزول ما دامت وسائل الإنتاج بيد حفنة من الأفراد يفرضون قوانين توزيع الثروة وطريقة العمل بحيث يستحوذون على الجزء الأكبر من قوة عمل الشغيلة. المجتمع العراقي لم يشذّ عن بقية المجتمعات في تشكيلاته الطبقية والصراع بينها، وكبقية المجتمعات له خصوصياته , ومنها , التي تخفي هذا الصراع ليطفو إلى السطح الصراع الديني والطائفي والقومي والعشائري، والأبرز هو الصراع الطائفي الذي جاء بالأساس بعد مقتل الإمام علي وقيام الدولة الأموية، ثمّ مقتل الإمام حسين وبروز المذهب الشيعي كعقيدة إلى جانب المذهب السنّي، وأخذ الصراع بين المذهبين يشتد تارة ويهدأ تارة أخرى. ولكن نرى بأنّ الطبقات الاجتماعية أصبحت أكثر وضوحا في الدولة الأموية: فئة الحكّام التي تتكوّن من الخليفة وحاشيته وبيدهم السلطة والمال وطبقة العامية الذين لا يملكون سوى ما يحصلون عليه من عملهم ويشكلون الأغلبية الساحقة من المجتمع، وبين هاتين الطبقتين طبقات ميسّرة من التجّار والعلماء والكتّاب لدى الدولة. وبعد انهيار الدولة العبّاسية على يدّ هولاكو تعددت الغزوات الأجنبية للعراق تعمّق الأزمة الطائفية، خاصة بسبب غزوات الفرس والعثمانيين.

بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 وقيام نظام شبه إقطاعي وتطور الصناعة الوطنية إلى جانب الصناعة الأجنبية حدثت تغيّرات كبيرة داخل المجتمع العراقي , خاصّة بتركيبته الطبقية ، حيث بروز الطبقة العاملة كقوة فاعلة في المجتمع إلى جانب طبقة الفلاحين, والبرجوازية الوطنية وطبقة الإقطاعيين والفئات الطفيلية (الكومبرادور). وبفضل نضال مختلف طبقات وفئات المجتمع العراقي تشكّلت نقابات عمالية ومهنية وجمعيات فلاّحية ومنظمات شبابية ونسائية وطلاّبية وأحزاب لتدافع عن حقوق هذه الطبقات والفئات ومعظمها كانت تعمل في السرّ بسبب طبيعة النظام القمعية، وتبوأت فئات المثقفين مكانا مرموقا في المجتمع. كل هذا جاء ليرفع الوعي الاجتماعي لدى الناس وتلمسّ الكثيرين منهم موقعهم الطبقي ودورهم في الإنتاج بغض النظر عن هويتهم الدينية أو الطائفية أو القومية . واكتسبت الهوية الوطنية أهمية كبيرة لدى الفرد العراقي وأصبح الدفاع عنها ضرورة . ولكن هذا لم يلغ التناحرات الدينية والطائفية والقومية والتقاليد العشائرية , لكون جذورها أصبحت عميقة داخل المجتمع , إلاّ أنّها تراجعت خلال الزمن، خاصة بعد قيام ثورة تمّوز الوطنية 1958 التي فرضتها الظروف الموضوعية , أي ضرورة إحلال علاقات إنتاج جديدة محل القديمة التي أصبحت عائقا أما تطور المجتمع، فكان لأهداف الثورة أثرا كبيرا في تخفيف حدّة هذه التوترات.
أفرزت الثورة اصطفافا طبقيا وفئويا جديدا بعد القضاء على النظام الشبه الإقطاعي وتغيّرت مواقف بعض الأحزاب والشخصيات التي وقفت بجانب الثورة في بدايتها , حيث انتقلت القوى القومية العربية المتطرفة (حزب البعث وفئات من القوميين العرب) إلى المعسكر المعادي للثورة، هذا بالإضافة إلى التركمان التورانيين وإخوان المسلمين وقوى خارجية داعمة لها وأبرزها نظام عبد الناصر وشركات النفط العاملة في العراق والمخابرات الغربية, وأصبحت القاعدة الاجتماعية لهذه القوى تتكوّن من بعض فئات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة والملاّكين الكبار في المدينة والريف وكلّ الفئات  التي تضررت مصالحها بعد قيام ثورة تمّوز. رغم الخلافات الأيديولوجية والسياسية على شكل النظام بين هذه القوى، إلاّ أنّها توحّدت لإسقاط الثورة والإجهاز على مكاسبها وانضوت تحت شعار "يا أعداء الشيوعية اتحدوا". أمّا قاعدة القوى المدافعة عن الثورة تكوّنت من العمال والفلاّحين الفقراء، بشكل أساسي، وفئات المثقفين والبرجوازية الوطنية، وهي أيضا تختلف فيما بينها أيديولوجيا وسياسيا على شكل النظام. بهذا أخذ الصراع الطبقي شكلا جديدا، إلاّ أنّ الصراع الرئيسي بقي بين قوى الثورة والقوى المعادية لها التي سعت لإعادة إنتاج نظام ديكتاتوري يؤدّي إلى إجهاض أهداف الثورة وما حققته الجماهير من مكتسبات والتي تتمحور بالأساس في مجال العدالة الاجتماعية، وأهمّها، قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية وإطلاق الحريات النقابية والمهنية وسراح السجناء السياسيين، هذا بالإضافة إلى  قانون النفط والخروج من حلف بغداد الاستعماري ومن طوق الكتلة الاسترلينية. أدّت السياسات الخاطئة لعبد الكريم قاسم في مهادنته للقوى المعادية للثورة وفرض الحصار على نشاط القوى الوطنية ومحاربتها، وفي مقدّمتها الحزب الشيوعي العراقي، إلى قيام انقلاب شباط 1963 وفرض سلطة للقوى القومية العربية المتطرفة، خاصة حزب البعث، ذهب ضحيتها آلاف الوطنيين العراقيين وخاصة أعضاء وقادة الحزب الشيوعي وأصدقاءه ومؤازريه. وبهذا فقدت ثورة تمّوز كل ما حققته من إنجازات لصالح العمّال والفلاّحين وكل كادحي اليدّ والفكر. ورغم فقدان الحزب الكثير من أعضاءه ومؤازريه ألاّ أنّه بقي شامخا وزال المتآمرون , لأنّ جذوره راسخة في أعماق الجماهير العراقية من مختلف قومياتها وأديانها ومذاهبها وطوائفها ,ولسبب بسيط هو الدفاع المستميت للحزب عن حقوقها.
بقيت سلطة الدولة بيد القوى القومية العربية منذ انقلاب شباط الفاشي عام 1963, ولم تتخلى عن كونها سلطة ديكتاتورية . وظلّت هذه السلطة تراوغ وتخادع الجماهير بشتى الوعود السياسية والاقتصادية , وخاصة في فترة البعث الثانية (1968 – 2003) ,حيث مارست سياسة التفريق بين الأديان والطوائف والقوميات إلى جانب ممارسة أشدّ أنواع الاضطهاد بحق الأحزاب المعارضة لسياساتها, والدخول في حروب عدوانية خارجية وحرب ظالمة ضدّ الشعب الكردي والفصائل المسلّحة في كردستان من أنصار الحزب الشيوعي والبيشمركة , ولم يكن للشعب العراقي مصلحة في هذه الحروب سوى إشباع رغبة الدكتاتور الفاشي المريضة الذي لم يكتف بسلطة الدولة القومية الفاشية , بل حوّلها إلى سلطة العشيرة , ثمّ إلى سلطة العائلة، وأعاد ما يشبه الدولة الأموية قبل 1340 سنة إلى الوراء: فئة حاكمة بيدها السلطة والمال وطبقة من حاشيتها تتكون من قادة الجيش والحراس والأمن والمخبرين وكتّاب التقارير، وطبقة العامية التي لا تملك شيئا للعيش عليه سوى قوة عملها. بهذا حاولت سلطة البعث إخفاء الصراع الطبقي عن طريق شنّ الحروب إلى جانب الاضطهاد والتجويع ثمّ إصدار قانون تحويل عمّال الدولة إلى موظفين للتخلّص من نقابات العمّال ومطالبها.
بعد احتلال العراق في نيسان 2003 وتعيّين  بريمر حاكما على العراق , قام هذا بتشكيل مجلس الحكم والإشراف عليه لإدارة شؤون البلد تحت حكم الاحتلال . وجاءت تشكيلة المجلس على أساس طائفي- أثني , ثمّ أصبحت مؤسسات الدولة تدار على هذا الأساس وتوزيعها بين أحزاب السنة والشيعة والأكراد والتي أصبحت تطلق على نفسها "المكونات الأساسية للشعب العراقي" ومروجين شعار ما سمّي ب"مظلومية الشيعة والأكراد", مهمشين بذلك الأديان والطوائف والقوميات الأخرى والأحزاب الوطنية، حتى وصل التهميش إلى الأكثرية الساحقة من الشيعة والسنة والأكراد، عن طريق تضليل الجماهير بالمفاهيم الطائفية والقومية والعشائرية، وهم بذلك سفّهوا مصطلح " الصراع الطبقي" لإبعاد الجماهير عن النضال من أجل حقوقها.

  تتعمّد الرأسمالية ومفكريها، كما قبلها من الأنظمة، الإقطاعية ونظام العبيد، بعدم الاعتراف بالصراع الطبقي وهي تشوّه هذا المفهوم بإعطائه طابع حرب وقتل داخل المجتمع، وفي ذات الوقت تشوّه مفهومها، أي الرأسمالية، بارتدائها لباس الحمل والادّعاء بحصول الرأسماليين على ثرواتهم كونهم أذكى الناس، وهي تخفي بذلك، دورها في استغلال القوة العضلية والعقلية للناس وتزهق دماء معارضيها إذا اقتضت مصالحها ذلك وتشنّ الحروب بشتى الذرائع وفي أي بقعة من بقاع العالم، فهي لا تستطيع العيش خارج الحروب والأزمات لأنّها من صنعها وتدرّ عليها أرباحا طائلة. وتروّج الرأسمالية أيديولوجيتها بشتى وسائل الإعلام والإغراءات والتهديد لتظليل الرأي العام العالمي، وفوق هذا كلّه تدّعي بنشرها الديمقراطية وحقوق الإنسان! الصراع الطبقي موجود سواء اعترفت به الرأسمالية أم لم تعترف، ولكنها تسفّه مفهومه كما يحدث في العراق وبلدان إخرى. يشارك هذا المفهوم الأحزاب والحركات الدينية والقومية وبعض الأنظمة التي تلتقي مصالحها الاقتصادية مع الرأسمالية والتي كانت تسمّى "التابعة"، مثلا مصالح حكّام الخليج تحميها أمريكا وأوروبا، الفاسدون العراقيون يودّعون ويستثمرون أموالهم في أوروبا وأمريكا ودول الخليج والجوار للحفاظ عليها وهم أكثر الناشطين في تقسيم المجتمع العراقي إلى مكونات طائفية واثنية وأصلب المدافعين عن نظام المحاصصة، لذا نرى بأنّ الحكومات المتعاقبة منذ 2004 رفضت إلغاء قرار ما سمي بمجلس قيادة الثورة رقم 150 لسنة 1987 باعتبار العمّال في قطّاع الدولة موظفين لديها لحرمانهم من حقوقهم النقابية والاقتصادية لأنّ هذا القرار الجائر ينسجم ورغبة الحكام الحاليين لمواصلة إذلال الطبقة العاملة، إلاّ أنّ نضالها متواصل من أجل حقوقها النقابية والاقتصادية رغم كلّ عقبات نظام الفساد. إنّ تشكيلة المجتمع العراقي أصبحت مشوّهة، وهذا التشوّه موروث من النظام السابق بسبب حروبه والحصار الجائر على الشعب العراقي 1991- 2003. إنّ انتشار الفساد من قمة السلطة حتى القاعدة وتشكيل أعداد كبيرة من الميليشيات المسلحة الطائفية منها والقومية والجريمة المنظمة والحرب ضدّ الإرهاب وتعدد تمويل هذه الميليشات الغير المنظور وغير المفهوم سواء من داخل أو خارج العراق وتقاضي بعض الناس أكثر من راتب شهري عن طريق التزوير بدون أي عمل ليوسع دائرة الفساد المالي، والغرض من ذلك تحجيم أعداد الناس المشاركة في الاحتجاجات الشعبية. وهناك أعداد كبيرة من المستشارين أحيلوا على التقاعد يتقاضى بعضهم أكثر من 20 ألف دولار شهريا. كل هذا زاد من تشويه تركيبة المجتمع الطبقية، ولكن تبقى البطالة والفقر تلفّ أعدادا واسعة من الجماهير التي تطالب بحقوقها عن طريق الاعتصام السلمي. الغرض الأساسي لسياسة المحاصصة التي أرادها الأمريكان ودول الجوار هو محاولة تقسيم العراق عن طريق زرع الخوف والشكوك بين القوميات والأديان والطوائف لتكون دائما في خلافات تنسيها الهوية الوطنية العراقية وماهية قيمة الفرد في المجتمع الذي ظلّ مهمشا ومظلوما طيلة خمسين عاما ,ثمّ فرض فكرة عدم إمكانية التعايش بين هذه القوميات والطوائف ليكون الحل هو تقسيم العراق على أساس مشروع نائب الرئيس الأميركي السابق بايدن. لقد حذّر الحزب الشيوعي والأحزاب والشخصيات الوطنية من خطر نظام المحاصصة وما يفرزه من تداعيات ضحيتها الطبقة العاملة والفلاحون وفئة الموظفين والمتقاعدين والكسبة، وأضحى العراق ساحة لصراع دول الجوار ودول العالم، ومنها تصفية الحسابات بين أمريكا وإيران، وأصبحت مراكز اتخاذ القرارات الأساسية بيدها، أي فقد العراق استقلاله التام.

في شباط 2011 قاد الحزب الشيوعي العراقي أول حراك جماهيري مدني بعد الاحتلال والمطالبة بالإصلاحات، وهو أولّ حراك كبير يعكس الصراع بين الجماهير الفقيرة وفئات الرأسمالية الطفيلية. ورغم تراجع الحراك إلاّ أنّه بدأ في المحافظات الجنوبية باعتصامات للمطالبة بالخدمات. وفي بغداد عاد بقوة في تموز 2015 للمطالبة بالتغيير ومحاربة الفساد وإنهاء نظام المحاصصة وتوسّع ليشمل فئات واتجاهات سياسية وعقائدية كثيرة من المجتمع، بما في ذلك الإسلامية منها. لقد غير الحراك الجماهيري من وعي الناس الطبقي، خاصة من الشباب ذي الاتجاهات الدينية والقومية والطائفية المختلفة  باتجاه نبذ المحاصصة والنفور من أحزاب الإسلام السياسي الفاشلة في إدارة الدولة والتي هي عبارة عن طغمة فاسدة من الرأسماليين المرتبطين بالرأسمالية العالمية وقناعة الناس بالدولة المدنية. وقد تشكّل تيّار "سائرون" بهذا الاتجاه، اتجاه تطور الوعي الطبقي الذي فرضه الحراك الجماهيري، وهذا التيّار ليس نهاية المطاف، لأنّ الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية تتغيّر وتتغيّر معها قناعات الأحزاب والشخصيات المنخرطة في هذا التيّار. والأهم لدينا، كشيوعيين، نشر الوعي الطبقي بين الناس، خاصة الشباب، وموقع الفرد في المجتمع باعتباره صانع الثروات المادية والمعنوية والروحية في المجتمع وتحليل  قوى المجتمع الطبقية وتغيراتها بين فترة وأخرى ومواقفها من مفهوم العدالة الاجتماعية وجديّة نضالها من أجل تطبيقها للحصول على الدليل الصائب في التقرّب من هذه الجهة أو تلك أو الابتعاد عنها ونشر ذلك في إعلام الحزب.

رغم تقلّص أعداد المشاركين فيه، استمرّ  الحراك السلمي المطالب بالتغيير وتأييده لكافة القطعات العسكرية التي كانت تقاتل ضدّ داعش حتى عشية الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ثمّ تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل حكومة جديدة التي لم تكتمل حتى تشييعها، وصوّت البرلمان على برنامجها. وبعد مرور سنة طرحت هذه الحكومة ورقتها البائسة مدّعية بتنفيذ 89% من برنامجها، ولكن لجنة متابعة البرنامج الحكومي الذي ترأسها سكرتير الحزب الشيوعي السيد رائد فهمي أكّدت غير ذلك بالوثائق والوقائع حيث لم ينفّذ سوى 36% من البرنامج، وبعد هذه الفضيحة خرج مكتب رئيس الوزراء، وبكل صلافة ووقاحة، يكذّب الوثائق. كانت الجماهير، خاصة الشباب منها، تتابع ماذا يجري في أروقة البرلمان عن طريق الإعلام المسموع والمرئي وشبكة الإنترنت وخاصة على صفحات جريدة "طريق الشعب" وموقع الطريق. رأت الجماهير ببصيرتها بأنّ ما يحدث لا يمتّ بصلة في الإصلاح، بل مواصلة تقاسم الغنائم بين الأحزاب السلطوية الفاسدة- الفاشلة واستمرار العبث بثروات البلد وتزايد البطالة والفقر والجوع والجهل وفقدان الخدمات واستمرار التدخل من قبل دول الجوار وغيرها لحماية النظام المهترئ، لذا بادر شبابنا الواعي البدء بالاحتجاجات السلمية يوم الثلاثاء 1/10/2019 والمطالبة بتغيير النظام، إلاّ أنّ الاحتجاجات جوبهت بالقمع الوحشي بدلا من السماع إلى صوت الجماهير السلمي. وخلال يومين فقط استشهد ما يقارب 200 شخص وجرح أكثر من 2000 بالإضافة إلى مئات المعتقلين، وهذا لم يثن عزيمة الشباب رغم الهدوء النسبي احتراما لمراسيم أربعينية الإمام حسين (ع) حتى هبّت الجماهير في بغداد ومعظم المحافظات يوم الجمعة 25/10/2019 لتقول كلمتها الفاصلة بإسقاط النظام وإبعاد الأحزاب الفاسدة ومحاسبة رؤوسها وكلّ من يقف وراء استشهاد هذه الأعداد الهائلة من المحتجّين السلميين. والكثير من المنسقين للإحتجاجات السابقة يشاركون اليوم في حملات التنظيم والتوعية، وهذا ظاهر من خلال أحاديثهم عبر الفضائيات الغير الحكومية أو الغير المرتبطة بالأحزاب الفاسدة ومن خلال الصحف وشبكة الإنترنت.

الانتفاضة، بشكل عام، هي أحد أساليب النضال التي من خلالها تطرح الناس مطالبها للحصول على حقوقها، وهذه الأساليب تختلف باختلاف الاستجابة لحقوق المنتفضين من قبل الطرف الآخر- السلطة الحاكمة المغتصب لهذه الحقوق. انتفاضة تشرين الحالية جاءت كمرحلة متقدّمة قياسا إلى الحراك الجماهيري السابق وذلك ب : 1- الأعداد الهائلة من المشاركين، ومنها آلاف العائلات بكاملها سواء في بغداد أو المحافظات الجنوبية، وحصول الانتفاضة على تأييد ودعم من محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى 2- قيادة الانتفاضة من قبل شابات وشباب العراق، فهي بحقّ انتفاضة شبابية  بما يملكوه من وعي، بما في ذلك من هم دون سنّ الرشد، 3- مشاركة المرأة بأعداد جدا كبيرة فاقت التوقعات، وهذا ناجم عن كسرها للخوف من التقاليد البالية ودعمها وتعاطفها مع الشباب الذين أفدوا بأرواحهم من أجل وطن حرّ يستحق الحياة. ونرى المرأة اليوم مساهمتها  في أعمال التنظيم والتنسيق والحديث حول أهمية الانتفاضة ودعمها حتى تحقيق أهدافها رغم التضحيات الجسام، كم هو مؤلم استشهاد شابة أو شاب وفي نفس الوقت مفرح عندما ترى أم مشاركة في الانتفاضة رافعة على صدرها، بكلّ شموخ شعارا، "ولدي آني نازلة امكانك"، وتساهم في تحضير وجبات الطعام للمنتفضين وغسل ملابسهم وعلاج المصابين بالرصاص وقنابل الغاز 4- كسر حاجز الخوف الذي زرعه النظام السابق والذي يستفيد منه النظام الحالي الذي أخذ يحتضر تحت جرأة وبسالة المنتفضين، لذلك نرى الملايين من المشاركين، رافعين شعار "نازل آخذ حقّي"، وهذا ما دعا الأغلبية الساحقة من النقابات المهنية والطلبة من مختلف مراحل الدراسة وموظفي الدولة وأصحاب الحاجات الخاصة للمشاركة في الانتفاضة. 5- تأسيس موقع لقيادة الانتفاضة، وإصدار جرائد من ساحات النضال مباشرة وتأسيس إذاعة وسينما لعرض الأفلام وإقامة ندوات تثقيفية. 6- ظهور عجلة "التك تك" في قلب الانتفاضة والتي أصبحت أحد رموز الانتفاضة وتسمية جريدة المنتفضين باسمها، إلى جانب بناية تسمّى "المطعم التركي" تتألّف من 14 طابقا كانت القوّات الأمريكية قد أغارت عليها أكثر من مرّة وأحرقتها، واستخدمتها الميليشيات والعصابات الفاشية كموقع استراتيجي لقنص الثوّار في يوم الأوّل للانتفاضة – الأوّل من تشرين الأوّل، واستطاع الثوّار السيطرة عليها وطرد العناصر الإرهابية منها لتصبح مركزا لإدارة الانتفاضة الجماهيرية كما عجزت القوّات الأمنية استرجاعها من أيدي المنتفضين، وقام الشباب بإصلاحها وسحب الطاقة الكهربائية إليها. ورجوعا إلى "التك تك" عبارة عن عجلة بثلاث إطارات يستخدمها أصحابها لنقل البضاعة، ومعظم العاملين عليها من العاطلين عن العمل ومن بينهم خريجي الإعداديات والجامعات وحتى أصحاب الشهادات العالية ممن ضاقت بهم سبل العيش في بلد تكفي ثرواته لإعاشة أضعاف نفوس العراق برفاه وسلام، فانظموا إلى الانتفاضة واستخدموا عرباتهم البسيطة وسيلة ناجعة لمساعدة الثوّار مضحّين بما يكسبونه منها لإعالة عائلاتهم. ونقول بكلّ فخر: عجلة واحدة من التك تك تضاهي كل عربات الدفع الرباعي التي يستقلّها المتنفّذون في السلطة سارقي أموال الشعب، وسائق التك تك أشرف وأشرف وأشرف من كل هؤلاء المتنفذين اللصوص، 7- استطاع الثوّار جلب انتباه الكثير من دول العالم والتعاطف معهم بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة التي أرسلت ممثليها للتفاوض مع الثوّار محاولة منها تهدئة الأوضاع لصالح السلطات، إلاّ أنّها فشلت، أي ممثلة الأمم المتحدة، وأجبرت لتقول الحقيقة عمّا يجري في العراق وتوضيح الأسباب الحقيقية للانتفاضة أمام العالم والجرائم التي ترتكبها السلطات وعصابات تابعة لأحزاب وبعض دول الجوار  بحق المنتفضين.

علّمتنا الانتفاضة، خاصة من الأجيال السابقة من المناضلين الشجعان الذين ضحوا بالغالي والنفيس وقدّموا آلاف الضحايا من شهداء وسجناء ومشرّدين من أجل عراق حرّ وشعب سعيد، علّمتنا بأنّ العراق يسكن في قلب وعقل شباب العراق وليست هناك قوّة قادرة على نزعه رغم دمائهم الزكية التي سالت على أرضه التي تجمع كلّ قومياته وأديانه وطوائفه المتآخية ومنذ حضارات وادي الرافدين الأولى. إنّ ما يقوم به الشباب اليوم من أعمال بناء وتنظيم وتنظيف، رغم قلّة وبساطة المعدّات التي بحوزتهم يعكس الطاقة البشرية الهائلة التي يملكها العراق والتي تحجب، وبتعمّد، من قبل الأحزاب الحاكمة التي تحجّم صناعة وزراعة واقتصاد وثقافة العراق وتجهيل الجماهير لما يتناسب وامتيازاتها والحفاظ على أجنداد خارجية.

تبقى انتفاضة تشرين مرآة تعكس أسلوب الصراع الطبقي الحالي الدائر بين طبقات الشعب الكادحة من عمّال وفلاّحين وكسبة ( أصحاب المشاريع الصغيرة والأغلبية من موظفي الدولة) وفئات المثقفين والطلبة ومتقاعدين وأصحاب الحاجات الخاصة من جهة، وطبقة الكومبرادور ( فئات التجّار الكبار في المدينة والريف وكبار موظفي الدولة من الرئاسات الثلاث والمؤسسات التابعة لها والسلطة القضائية) وقيادات الأحزاب الحاكمة وقيادة الميليشيات التابعة لها وكبار العسكريين من جهة أخرى. وتحاول الأخيرة إخماد الشرارة باتباع كافة الأساليب إلى جانب العنف المفرط وباستثناء الأساليب الديمقراطية، إلا أنّ الأحداث تشير إلى استبعادالعودة إلى ما قبل الأوّل من تشرين الأوّل 2019 لأنّ الانتفاضة تتعاظم وتلقى تأييدا شعبيا لا حدود له.




Matty AL Mache