اثنين المسامحة ـ بقلم قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص

بدء بواسطة برطلي دوت نت, فبراير 25, 2012, 08:05:54 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

اثنين المسامحة ـ بقلم قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص


«فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك» (متى 5: 23 ـ 24)

صعد الرب على الجبل وجلس، وإذا كان المعلم يجلس فذلك يعني أنه سيعظ، وابتدأ موعظته الشهيرة على الجبل، أعطى الطوبى للمساكين بالروح، للودعاء، لصانعي السلام، ونادى بالمحبة، ليس فقط محبة الأصدقاء والأقرباء والأحباء، بل حتى محبة الأعداء. ولم يكتفِ بهذا، بل أمر الإنسان أن يصلي من أجل أعدائه.

فما أعظم هذه الشريعة الإلهية!
ويريدنا ونحن نتخيل الإنسان الذي كان بموجب شريعة موسى يقدم قرابين لله، يريدنا أن نتخيل ذلك لنرى هذا الإنسان وقد أتى بحمل وديع، وضع عليه يده، وابتدأ يعترف بخطاياه، لتنتقل خطاياه إلى هذا الحمل الوديع، فيُذبَح هذا الحمل ويُحرق أيضاً لأنه قد حمل خطايا الإنسان الذي قدمه لله قرباناً.

كان الإنسان الخاطئ التائب، يعترف بخطاياه أمام الكاهن، واضعاً يده على رأس الحمل، والرب يريد أن يعترف هؤلاء الناس بالخطايا من كل قلبهم، نادمين على ما اقترفوه من الذنوب لكي تقبل ذبيحتهم وقربانهم، ليس كأمر روتيني وكفرض يرفعه الإنسان عن قلبه ورأسه، بل ليكون حقاً طاهراً نقياً مستحقاً أن يُقدم هذا الحمل عن نفسه، نادماً عن خطاياه.

هذا الإنسان وهو يعترف بخطاياه يقيسها بمقياس سامٍ جداً هو مقياس الشريعة، فيذكر بقلبه كل وصية من وصايا الله، ويعترف أمام الله أنه قد تعدى هذه الوصية. فالرب يريدنا أن نكون صريحين مع أنفسنا، ليس فقط أن نفعل ما فرضته علينا الشريعة كأمر عادي، بل من كل قلبنا وفكرنا أن نندم على ما اقترفته أيدينا، نفوسنا، ضمائرنا وأفئدتنا، حينذاك يقبل الرب قرابيننا.

إن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك عليك شيئاً، فدع قربانك أمام المذبح واذهب وصالح أخاك حتى تتمكن بينكما الألفة، ثم تعال وقدم قربانك، إذ لا يمكن أن يقبل الله تقدمة أي إنسان ما لم يكن قد تصالح مع أخيه. وأخوه، هو كل إنسان له معه علاقة في هذه الحياة.

هذا ما أخذته الكنيسة المقدسة وبنت عليه فروضها، لذلك عندما نقدّم القربان الإلهي، نبدأ برتبة السلام لننقي قلوبنا، لنسامح بعضنا بعضاً، حينذاك نستحق أن نشارك الكاهن عندما يقدم الذبيحة الإلهية. وعندما نبدأ بالسنة الطقسية نبدأ بالمسامحة والصوم الذي فرضه الله علينا لكي ننقي بوساطته نفوسنا، ونؤدب ذاتنا، لا أن نقتلها. بل نعتني بالجسد كما نعتني بالروح، الصوم الذي علمنا يسوع المسيح فعلياً أن نتمسّك به، فقد صام أربعين يوماً وأربعين ليلةً. هذا الصوم الذي تمسك به الرسل أيضاً والتلاميذ جماعةً وأفراداً، وخاصة في مناسبات روحية سامية، عندما يقومون برسامة أحدهم بالرتب الكهنوتية فكانوا يصومون ويصلون ويضعون الأيدي على ذلك الإنسان، لأنهم يريدون أن يقدموه لله كما كان في العهد القديم يقدم القربان أو الحمل الوديع عن هؤلاء الناس لكي يقدم عن نفسه وعنهم القرابين لمغفرة الخطايا.

فالصوم فرض واجب علينا جميعاً سنّته القوانين المجمعية وعلينا أن نتمسك به، ونِعمَ ما فعل آباؤنا بإلهام الروح القدس، أن جعلوا بدء الصوم رتبة المسامحة النابعة من الأعماق لأن فيها روح المسؤولية التي تدعو إلى حفظ كرامة الإنسان، لكي يسامح بعضنا بعضاً، ننقي أفكارنا وقلوبنا ونستعد لتقديم هذه التضحية أمام الله لكي يقبل فريضة الصوم الذي نقدمه له تعالى.
وليست المسامحة أمراً بسيطاً. الإنسان لا يريد أبداً أن يُذَلّ من الآخرين، هذا يفتري عليه، وذاك يحاول أن يأكل حقه، وهذا يعاديه، والإنسان يحفظ في قلبه الضغينة والحقد على هذا وذاك، إن كان على حق أو باطل. ليس من السهل على الإنسان أن يسامح أخاه الإنسان، ولكننا عندما نتطلَّع إلى رئيس إيماننا، إلى فادينا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي اضطُهِد وهو طفل، الذي افتُرِي عليه كثيراً، الذي شتم، الذي اضطهد أمام الناس، وذُل وكان صامتاً، حتى عندما سمع شهود الزور يشهدون عليه، الذي لأجلنا حمل الصليب إلى الجلجلة، وعلى الصليب أعلن مغفرته للصالبين الذين لم يعلموا ما الذي فعلوه، فنالوا المغفرة عندما آمنوا به أنه ماشيحا المنتظر ورجعوا عن خطيئتهم واعترفوا به أنه الإله المتجسد، وقبلوه فادياً لهم وللبشرية كافة. لأنَّ الرب طلب من الآب أن يغفر لهم لأنهم لم يدروا ما فعلوه.

هكذا علّمنا أن نغفر للآخرين ذنوبهم، وإن تطلب الأمر عتاب رقيق خير من شحن الصدور بالكراهية، وفي قوله وتعاليمه السامية في محبة الأعداء، وفي الصلاة التي علمنا إيّاها لتكون نموذجاً لكل صلواتنا، ومثالاً لنا في سلوكنا في هذه الحياة، لنعترف أمامه ونقول له: اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر حقاً للمذنبين إلينا، ووضع الشرط: ما لم نغفر للمذنبين إلينا، لا يغفر الآب السماوي لنا ذنوبنا. فلا يمكن إذاً أن نحقد على الآخرين، لا يمكن إلا أن نحب أعداءنا وأن نصلي لأجلهم، ليس هذا فقط بل أن نباركهم ولئن لعنونا. هذه هي المسيحية، فإذا كنا نشاء أن نُقبَل لديه تعالى، وأن يقبل الله صومنا وصلواتنا وصدقاتنا خاصة في هذه الأيام المقدسة، علينا أن نقف أمامه بل أن نجثو بتواضع ووداعة ونطلب منه المغفرة لأعدائنا.
نذكر في العهد القديم النبي الغيور إيليا، كيف كان حاقداً على أعداء الله، وكيف أنه كان يطلب من الله أن تنزل نار من السماء فتلتهم وتحرق جند الملك الذي كان ضد الله، ولكنّ الرب لا يريد هذا في العهد الجديد، إننا أولاد المحبة، «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). وأهم ثمرة للمحبة هي التسامح. أن نسامح بعضنا بعضاً كما يقول الرسول بولس: كما سامحكم الله بالمسيح (إفس4: 32). خطيتنا العظيمة الجَديّة وخطايانا الشخصية غفرها لنا الله الآب بالمسيح يسوع الذي تجسد لأجلنا وصُلب ومات ودُفن وقام من الأموات وأقامنا معه، فلذلك علينا أن نسامح بعضنا بعضاً وأن نكون لطفاء بعضنا لبعض كما يوصينا الرسول بطرس حتى نعيش في سلام واطمئنان (1بطرس 3: 8).

رسل الرب كانوا كسائر أترابهم من اليهود، لا يمكن أن يسامحوا أحداً. يغضبون ونتيجة الغضب يأتي القتل، بالرصاص تقتل الإنسان بيديك ولكنك إن تمنيت قتله يعني أنه لو كان بإمكانك لقتلته وهذه خطيئة عظيمة. يعقوب ويوحنا غضبا مرة على السامريين الذين لم يشاءوا أن يجتاز المسيح ويدخل قراهم، فطلبا من الرب أن يسمح لهما فيقولا أن تنزل نار من السماء وتحرق مدينتهم، وذكروا: كما فعل إيليا قبلهم. كان ذلك بعد حادثة التجلي، بعد أن رأيا إيليا مع الرب يسوع وكذلك موسى، فتذكرا ذلك النبي الناري الغيور وأرادا أن يفعلا كما فعل ذاك، فقال لهما الرب: «لستما تعلمان من أي روح أنتما، لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص» (لو9: 55 و56). هذه هي الروح المسيحية، ليست كروح إيليا ولا كروح حتى موسى، وشريعة المسيح ليست هي العين بالعين والسن بالسن، بل هي شريعة التسامح، شريعة المحبة، شريعة تساعد الإنسان أن يدرك حقيقته، شريعة الإنسان الذي يطلب الخير حتى لأعدائه مقتدياً بالآب السماوي الذي يشرق شمسه على الناس كافةً.
أحبائي: هذه الشريعة التي فرضت علينا كمسيحيين عندما ولدنا ثانية من جرن المعمودية، لا من بشر ولا من مشيئة رجل بل من الله (يو 1: 13)، لنصير أولاد الله بالنعمة، ليكون سلوكنا في هذه الحياة كمن يشهدون لله بالذات، وكمن يكونون أبناء السماء يعيشون شريعة السماء على هذه الأرض. ولكي يقبل الله صومنا ويؤهلنا أن نصوم الأربعين إن أمكن، ويقبل هذا الصوم عنا وعمّن يمتُّ إلينا بصلة وعن كنيستنا وشعبنا وعن وطننا، ولكي يقبل الله هذا الصوم علينا أن ننقي قلوبنا من كل حقد، من كل بغضة، أن نحب الجميع حتى الأعداء لكي يقبل الله هذا الصوم إذا قدمناه بمحبة.
وإنني كأب للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في كل مكان، أسأل الله أن ينجينا من كل خطيئة وبلية وإثم، وأن ينقي أيدينا من الدماء. هذا كلام سامٍ جداً أيها الأحباء. إننا كرعاة للكنيسة نصلي مع داود قائلين: نجنا من الدماء (مز 51: 14)، أي دماء؟ لم نقتل أحداً. ولكن عندما نقرأ في النبوات أن الله يرسل، ويرسل كل كاهن إلى الشعب، إلى المذنبين، إلى الخطاة يحذرهم وينذرهم ليعودوا إلى الله، إن لم يفعلوا ذلك ويموت الخاطئ بخطيته، يقول الرب: دمه أطلبه منك (حز 3: 18). فنحن عندما نطلب من الرب أن ينجينا من الدماء، ليساعدنا على أن ننذر الخطاة ليعودوا إليه تعالى بالتوبة، حينذاك نكون أنقياء، نكون قد أكملنا واجبنا، وقبل كل شيء نكون قدوة صالحة لأولئك المذنبين الخطأة ونحن مثلهم. ألم يقل بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيين عن رئيس الكهنة الذي يؤخذ من الشعب يتقدم الشعب ويقدم قرابين عن ذنبه وذنوب الشعب. فالكاهن عندما يقدم هذه القرابين، قبل كل شيء يجب أن يكون مسامحاً، وديعاً، متواضعاً، حينذاك يستحق أن يكون مقدماً قرابين مقبولة لدى الله تعالى.

أسأله تعالى أن يغفر لي ذنوبي ويغفر لكم، وأطلب من كل من يظن أنني أسأتُ إليه أن يغفر أي إساءة يشعر بها. وأؤكد أنني أسعى لأكون حقاً راعياً صالحاً لشعبنا في كل مكان، أتحمل في سبيله الضيقات والآلام بصبر ومحبة، وبصلاة مستمرة ليقبل الرب هذه الخدمة، فاغفروا لي أحبائي كل تقصير لي كراعٍ للسريان الأرثوذكس، الشعب المبارك في كل مكان، وصلوا لأجلي لكي يقبل الرب خدمتي على الرغم من ضعفي، وإنني بسلطاني الرسولي، أسأل الله أن يغفر لكم جميعاً ذنوبكم ويؤهلكم لتكونوا مؤمنين صالحين في كنيسة الرب على الأرض، وأن تستحقوا بعد العمر الطويل أن تكونوا مع أرواح القديسين في كنيسة الأبكار التي هي في السماء. ونعمته تشملكم دائماً أبداً. آمين.