ظروف هنا وظروف هناك وزمن في الذكريات / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, سبتمبر 09, 2013, 07:46:07 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

ظروف هنا وظروف هناك وأزمنة في الذاكرة








برطلي . نت / بريد الموقع


كان عليّ لقاء شخص عزيز لم احضَ برؤياه منذ سنوات ، فاتّفقتُ معه على  زمان ومكان  هذا الموعد ، فالزمان كان صباحا ،  اما المكان ، فانه كان موقعا بديعا اخشى الدخول في وصفة لئلا اتعرض لاحتجاج يتقمص جسد توبيخ فيقول  : لقد بدأ السيد كعادته يهدهدنا في قارب لا يتوقف عن الذهاب والاياب كالمكوك ، الى ان يغلبَنا النعاس ، أليس من الافضل له ان يبدأ حديثه من الاخير ؟ 
هذا هو اذن موضوعي :
بعد السلام والسؤال واعتدال الاوقات ( ديباجة كنا نبدأ فيها رسائلنا في زمن كنّا لا زلنا نتواصل بالرسائل) ، وجّهت لصديقي السؤال التالي :
لقد بلغني بانك امضيت سنوات عديدة في اوربا وبالتحديد في فرنسا ، فضولي يدعوني للاستفسار عن احوال ذاك البلد في هذه الايام ، هل لك ان تحدثني قليلا عن ظروف الناس ومعيشتهم .
رفع صديقي رأسه وابتسم قليلا وقال : ان اوربا بقعة جميلة حباها الله بمناخ يضاهي بعض مناخ الجنة ، ووَضعَ فيها  من الخيرات ما كان يُفترض ان تجعل الناس يعيشون في هناء ورغد ، غير ان البلد يمرّ الان بظروف اقتصادية لا يُحسد عليها . ظروف قادت ساسَتهُ الى فرض سياسة التقشف المتمثلة بزيادة الضرائب بكافة انواعها ، ومضاعفة الرسوم ، وتعزيز الاستقطاعات ، واستنباط طرق جديدة لامتصاص ما يجنيه الناس . حصة الدولة تمثّل تقريبا نصف ما يكسبه اغلب العاملين وذوي الدخل . ان الدولة ترقب بصورة خاصة اصحاب الشركات ومستخدميها ولا تترك لهم فرصة لاقتناء بعض المال دون محاسبتهم .  وانا اتخيل بعض هؤلاء ، ممّن تلاحقهم الدولة حاليا ، يقولون لها : لماذا تقومون بسلبنا ، لقد كسبنا هذا المال بعرق جبينا ، لم نعثر عليه في الشارع ولم نسرقه ؟ واذا بالردّ يأتيهم بالعبارات التالية :
إذا لم نعتمد عليكم ، من اين سنأتي بآلاف اليوروهات التي علينا صرفها للوزراء ومستشاريهم ومعاونيهم الذين يزداد عددهم عاماً بعد عام ؟ وكيف ندفع لملائين الموظفين ، ولا سيما الكوادر منهم الذين ، لولا تواقيعهم ، تتوقف كافة المعاملات !! . وكيف نقوم بتلبية حاجات المواطنين المعتمدين على المساعدات الاجتماعية ؟ وكيف نوفّر مخصصات العاطلين الذين يرفضون العودة الى العمل ، لان العودة الى عملهم يحرمهم من الكثير من الامتيازات ؟ يجدر بالقول هنا بأن الحكومة تتحاشى التحرش بهؤلاء ، وحرمانهم من امتيازاتهم او اخضاعهم للضريبة، خشية فقد اصواتهم لدى الانتخابات !!
لقد اثقلتِ الحكومة فعلاً كاهل ارباب العمل وارهقت العاملين فيها بضرائبها القديمة والجديدة ، وجعلت اصحاب رؤوس الاموال يتبرّمون منها . بسياستها هذه ، تسعى الحكومة الى تخفيض نسبة دَينها الباهض ، وخفض عجزها المتزايد ، في وقتٍ لا يرضى نموّها الاقتصادي مُبارحةَ نقطة اختارها عند خط الصفر ،  واذا حاول التحرك قليلا فانه يميل الى الهبوط . هذا هو باختصار وضع هذا البلد .
لقد عمد الكثير من اصحاب الشركات الى تسريح موظفيهم  والتخلص من اعباء مستحقاتهم ، والبعض منهم اعلنوا الافلاس ، والبعض الاخر ترك البلد وهاجر أو نقل مصالحه الى بلاد لا تطالبه بمثل هذه الضرائب . الغالبية العظمى من الناس تعيش حالات صعبة من التوتر والقلق والخشية من غدٍ غير مضمون .
كانت دهشتي كبيرة لما سمعته ، فاحتفظت باسفي الشديد داخل نفسي ،  وانتقلت الى السؤال الثاني  :
سمعتُ بانك كنت قبل شهر ونصف في زيارة الى شمال العراق ، هل لك ان تحدثني هنا أيضاً عن ظروف الناس واخلاقياتهم  ، لاننا نسمع كثيرا عمّا قد يكون صحيحا او مُبالغاً به احياناً .
هنا ، تزوّد صديقي بنفس عميق ،  وقال لي دون أية ابتسامة : لا اعرف من اين ابدأ كلاما قد يطول كثيرا ، في يوم يجب عليّ الاختصار . ساكتفي بسرد حالتين بسيطتين من دون تعليق ، لانهما ستعطيانك فكرة كاملة عن الناس وحالتهم وتصرفاتهم .
  فكرتُ في مفاجأة صديق عزيز لم تجمعني به الظروف منذ زمن طويل . اتجهت اليه دون موعد ،  وعندما رأيت الباب مفتوحا دخلت على رؤوس اصابعي كلصّ محترف  . عندما بلغتُ الصالة التي كان جالسا فيها ، توقفتُ في مكاني  لاعالج خفقان قلبي الذي كانت تشتد دقاته  من شدة الشوق ، وكانت عيوني قد بدأت بترطيب مآقيها تسهيلاً لسريان دموع فرح كان قد بدأ الرتل الاول منها بالحركة . وقفتُ انتظر صديقا يهبّ نحوي ويهجم عليّ شوقا ويحتضنني بحرارة وصوت عالٍ ، ولكنه كم كانت دهشتي كبيرة وخيبة املي أكبر عندما لم اسمع من صديقي العزيز غير كلمتين خرجتا من فم ممتعض يعلوه جبين مقطب : (هل هذا وقتك الآن ، ومن دعاك لتأتي عندي )؟ حفنة الدموع المكلفة بالانهمار فرحا ، انقلبت حزنا وسرت ساخنة وبغزارة .
انسحبت بصمت وانحنيت كما كان ينحني الخدم عند تركهم دواوين السلاطين ، وتركت بيت صديقي بقلب مكلوم لان الشخص كان قد تغيّر . فهمت بعد ذلك بان صديقي كان منهمكا ، مع احد التجار ، في صياغة بنود صفقة مهمة .
ومرة اخرى خلال اقامتي هناك ، وفي غمرة حديثي  مع احد المعارف ، سألتُه عن اخيه وقلت : وما هي آخر اخبار اخيك وكيف صحته ؟ قال لي بشئ من الحرج ، هل تصدق باني لم اسمع عنه منذ شهرين . قلت له أيعقل هذا الكلام ، وانك تعيش في هذا المحيط الضيق على بعد مائتي متر من بيت اخيك ؟ قال لي : (انا دائم الانشغال ولم يَعُد لي متّسع من الوقت كالسابق)  .  هل بوسعك التصوّر باني أنا الذي  قمت باعلامه بان اخاه كان قد تعرض لنوبة قلبية قبل شهر ؟! . لم اشأ التعليق كثيرا وقلت له كان الله في عونكم جميعا.
لقد استخلصت من هاتين الحالتين ومن مجمل ما كنت ألاحظه يوميا ، بان الناس منغمسون لحدّ أنوفهم في ادارة اموالهم ومقتنياتهم .  هل تحتاج هاتين الحالتين الى تعليق ؟!!

بعد هذا إلتفتُّ الى صديقي وقلت : رحِمَ الله تلك الايام التي كنّا نعيش فيها ليومنا . هل تتذكر عندما كنا نتفق ، نحن شلّةَ الاصدقاء ، على شراء قنينة عرق محلي لا مركزي (ابو كلبجة) ، لنُغرِق فيه همومنا ، وننصرف للحديث عن الحياة ، ونتغنى بجمالها ،ونسترسل في سرد الفكاهات ، وننطلق في زجل في الشعر والغناء ،  وكل واحد يستمد لحنه من نسمة ، أو شجرة ، او طير يحلّق في الجو ، أو جبل بعيد أو اي شئ آخر في الطبيعة الخلابة. كنّا نكتفي بتوفير قيمة ذاك الشراب ولم نكن نأبه لما يخفيه لنا الغد ، لاننا كنا نعتمد على بعضنا البعض ونؤمن واثقين بان للغد مدبّراً . كنا نشرب ونأكل ونغني ونتبادل الاحاديث الجميلة ، ونستعرض مشاكل اصدقائنا وجيراننا ، ونهبّ لزيارتهم والاسهام في مساعدتهم . وبعد هذا نعود الى البيت ، فنضع رؤوسنا على الوسائد ، ونخلد للنوم دون الخوف من كوابيس او احلام مزعجة ، لانه لم يكن لنا سفن تغرق ولا عمارات تنهار او عقارات نتاجر بها .
كان الانسان سعيدا في تلك الايام  ، لانه كان يرضى بما هو مقسوم له في الحياة ، ولم يبنِ يوما  سعادته على تكديس فاحش للاموال . كان الانسان آنذاك يكتفي بالقليل لانه لم يكن يحتاج الى اكثر من حبّ يملأ قلبه ، لان سعادته كانت روحية . اما انسان هذا الزمان فلأن سعادته مادية محضة ، فهو لن يشبع ابدا ولن يحصل على راحة البال ويبقى راكضا وراء هباء . ولا شئ يملأ فراغه ، لانه سيبحث دوما عن المزيد .
أرى ان حديثي سيطول ، وخشيتي في الخاتمة ايضا تتأتّى من ألاّ يكون وقع مثل هذا الحديث كوقع إبرة تُزرق في ساق من خشب !! ، ولاجله ساتوقف هنا مع حنيني الى ظروف جميلة ستبقى في الذاكرة .




Matty AL Mache