عزاؤنا هو في شمس لا تهرم/شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, نوفمبر 26, 2017, 10:10:17 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

عزاؤنا هو في شمس لا تهرم     
   

برطلي . نت / بريد الموقع

شمعون كوسا


نحن المتقدمين بالسنّ، لامفرّ لنا من التفكير في مرحلة العدّ التنازلي منعمرنا . وحتى إذا نسينا ذلك أو تناسيناه،خوفا من فكرة الموت، فأمراض الشيخوخة وانتقاص طاقاتنا ترغماننا على ذلك. تشتدّ بنا حالات القنوط هذه وتتعاظمبصورة خاصة في الليل ، حيث تبتهج الكوابيس بعثورها على الفريسة المُثلى  لممارسة بعض نشاطاتها الرياضية ، فبعد أن تبني في داخلنا حالة قنوط ، تنقلنا من الحيرة الى اليأس ومن الخوف الى الذعر والهلع ، فننهض صباحا ، منهكين وكأننا عائدون من نهارأمضيناه بأكمله في الاشغالالشاقة .نتأوّه بصمت قائلين  ، هِيـه  هِيـه ، هذه حالة من تقدم في السنّ ودنا من حتفه. وحتى اذا لم تكن قد اختارتنا الامراض بعدُ دارَ استراحةٍ لها، نجد نفسنا في دنيا يكتنفها الظلام من كافة جوانبها .
بعد ان نقوم بفتح نافذتنابحركة تلقائية ، تقع ابصارُنا على الشمس وجمالها ونورها المشرق ، وهنا كل شيء يتغير ، لأننا نحسّ حالا بان كوابيسنا قد تبدّدت ، فانقشع الضباب وحلّ محله النور الذي يملا النفس بهجة وسلاما.
وانا هنا اقوم بدوري في الوصفلأقول : أرى الشمس ، بكرمها الازلي المعهود ، تدخل دار الشيخ المتشائم  المستيقظ  حديثا .تأخذ بيده كالطفل ، وتُخرجه من غرفته المظلمة وتجول به في الطرقات القريبة  وتختار له مراتع خضراء .تدعوه الى توسيع حدقات عينيه ليرى أزهارا ملونة قد غطّت  مساحات شاسعة ، وبعد ان يكون قد ملأ عينيه من هذه الالوان الزاهية ، تطلب منهالتوقف قليلا للتمتع بتحليق الطيور المتنقلة من شجرة الى شجرة ، كما تطلب منه الاصغاء لما طاب من تغريدها وزقزقتها وإنشادها ، وبعد ان تقطع معه بعضُ خطىً اخرى في اتجاه آخر ،  تقول له : هل ترى الاشعة اللؤلؤية التي  تنعكس على هذه المياه الجارية وكأنها تحمل عقدا أزليّ اللمعان ؟ ودون ان تنتظر جوابه  تكون قد افضت به الى بقعة اخرى، فتعانقه برفق وتقول له : ارفع عينيك قليلا وانظر بعيدا ، فيقول لها الشيخ: أنا لا ارى الكثير، فتقوده الى زاوية اخرى، وتقول له: سوف ارسل اشعة إضافية طويلة المدى  لكي تبصر الافق الجميل .وبعدها تقول له : لا استطيع الطلب منك رفع انظارك كثيرا لتتمتع بلون السماء الازرق ، لأني اعرف بانك تشكو من ارتفاع في ضغط الدم !! وهكذا من مكان جميل الى مكان أجمل ، ومن زاوية خلابة لأخرى، ينسى شيخنا  نفسه ، لان الشمس حملته الى كافة البقاع التي قامت بإضاءتها ، فكحّل صاحبنا عينيه ، وشنّف آذانه ، وتأمّل بما يهدّئ روعه ويزيل قلقه . كانت الشمس كالأمّ التي ارادت وضع حدّ لبكاء طفلها ، فأخرجته من البيت فدفّأته بحرارتها، وألهته بعيدا عن اسباب بكائه ، فنسي نفسه وبدأ نهاره بتفاؤل .
وتخيلتُ نفس الشمس التي تدعو المريض والمقعد وحتى الضرير الى التفاؤل ، بضوئها وحرارتها وما توفره من جمال غير متناه يصفه الانسان كل يوم ويتمتع به .
الشمس مصباح جبّار يضئ أبعد زاوية في العالم ، الشمس تخيّم على كل شيء لإزالة غموضه ، الشمس تطرد الظلام ، والشمس كانت منذ البدء مصدر الحياة للإنسان ، فبدون الشمس تنعدم الحياة . ولحسن الحظ ، شمسنا هذه مستمرة في عطائها بنفس الزخم ، غير متأثرة بتقلب ظرف معين ، او الاصابة بمرض ، أو الدخول في  سورة غضب أو الخضوع لنزوة ، او التقهقر أمام قوة جبارة ، فهي تستمر بالشروق على الصالحين والاشرار من البشر وعلى سائر الكائنات المخلوقة الاخرى .
أبصرَتِالشمسُالنورَ قبل اربع مليارات سنة ونصف المليار ، ويقال بانه لم يعد لها من الحياة غير ست مليارات ونصف!!  فلنتفاءل إذن ونطمئن ، وفي نفس الوقت لا نستغربنّ اذا رحلنا قبلها !! لعلّ البشرية كلها ستزول ، او تتغير ، او يحل محلها عالم آخر أوكائنات اخرى قبل أن تقضي نحبها ، بعد انقضاء ما تبقّى لها من مليارات السنوات .
في كثير من الاحيان ، عندما اطيلُ التفكير في غابر الازمان، أتفهم الاقوام التي  كانتتتخذ الشمس إلهاً لتعبده .ألسنا نحنُ ، لحدّ الان نبقى مشدوهين امام هذه العظمة.إتّخذ القدماءُ الشمسَ إلهاًإلى ان اهتدى العقل الىالإله غير المنظور ، فجاءت الديانات السماوية كل واحدة بإلهها .فبدأت بوحي موجّه لأسباطمعينة ، كان إلهها قائد جنود يذهب من حرب الى حرب . إله لا يعِد الناس بالحياة الابدية ، ولكن بأراضي خصبة ، وبمضاعفة  ذريتهم على الارض.
الديانة الثانية ، اختصرت وحيها او رسالتها بكلمة الحب ، فالله تنازل الى وضع الانسان ، ليعطي المثل ، في المحبة والسلام والتسامح والتضحية والعفو ثمّ العفو. وعد البشرية جمعاء بسعادة أبدية روحية ،يفوز بها كل من عامل الاخرين مثل نفسه .
والديانة الثالثة ، اخذت الكثير من وصايا الديانة الاولى في الحلال والحرام .الله سيد عظيم لا يقبل التهاون،وعد البشر بسعادة أبدية توفّر للمؤمن المتعة المادية مضاعفة.    وديانات صغيرة مماثلة اخرى .
هل هو نفس الإله الواحد  ؟!! هذا موضوع آخر ، سيبعدني كثيراً عن الشمس ، لا سيّما وانها  اوشكت على الغروب !!.
تقول بعض الاساطير بان الشمس كإلهٍ ، وُلدت في الخامس والعشرين من كانون الاول ، وكان هذا عيدها لدى أغلبية  الاقوام القديمة. ونظرا لأهمية هذا المناسبة ، حتى المسيحية لم تشأ بتغيير هذه التاريخ  ، فاحتفظت به للاحتفال بميلاد المسيح التي تعتبره نوراً  لجميع الامم .
عودة الى فكرتي الاولى التي ابتعدت عنها من جديد ،  اقول : نحنُ نولد ونتقدم في  مراحل النموّ ، من الطفولة الى الشباب والكهولة فالشيخوخة والى ارذل العمر الى ان ننتهي، غير أنّ الشمس دائمة ، على الاقل لعدة مليارات من السنوات . والحقيقة الاخرى ، وهذا من حسن حظنا ، بان الشمس ستبقى مشرقة وبانها ستمدنا بالدفيء والنور ، وتخلق لنا المواسم ، وترافق الحياة بكافة مكوناتها ، وحتى حرارتها المحرقة احيانا تساهم في انضاج فواكه نلتذّ بها .
الشمس تزيل كآبتنا، الشمس تساعدنا كل يومفي بدء نهار جديد، الشمس تعيد لنا شبابنا،  ولو لحين.الشمس تدخل بيوتنا لتقينا من الامراض . انها كنز لا ينضب ، وكلما غابت  تعدنا بانها ستعود بعد ساعات ، وحتى اذا حجبتها الغيوم التي تأتمر بأوامرها ، فأننا مطمئنون من ظهورها ، لأنه ليس هناك قوة تمنعها من ذلك . نحن نهرم وننتهي،والشمس تبقى ولا تهرم، وهذا عزاء للبشرية جمعاء .
ما اصدق قول الشاعر بهذا الخصوص في قصيدة (كم تشتكي ) حيث يصف فيها عناصر الطبيعة من شمس وسماء وماء وحقول ، وهي كلها لسعادة الانسان ، وينتهي بالقول :
إن كنت قد جاوزت الشباب، فلا تقل شاخ الزمان، فانه لا يهرم.