وطنٌ.. ماذا تركتم في رماده؟!/رشيد الخيون

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 06, 2017, 07:45:32 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

وطنٌ.. ماذا تركتم في رماده؟!     
      

   
برطلي . نت / متابعة

رشيد الخيون 
جريدة الاتحاد الاماراتية
تاريخ النشر: الأربعاء 05 يوليو 2017



لا تنسى منطقة الفهود، الواقعة بمدار هور الحمار، الحاج حنون آل جبُيَلِّي صاحب الطُّرفة والفكرة، يقف باحثاً بعصاه عن بقية باقية في رماد منزله القصبي، الذي شبت فيه النيران، مع أن المياه كانت تحيط به، فعثر على قط المنزل متفحماً، وأخذ يزيل عنه الرماد، ويناشده أمام جموع المتفرجين، قائلاً: «ماذا أصابك؟ هل عُدت لتنقذ أولادك؟! أم فقدت أباك وأمك؟! أم عدت تبحث عن أموالك وأملاكك وسط لهيب النار؟! كان عليك ضرب ذيلك بالأرض والقفز في الماء!».

كان الناس أمام عرض مسرحي، بين باكٍ وضاحكٍ، مشهدٌ لا يفطن لإخراجه إلا جهابذة فن التمثيل، ذلك لصدقه وعفويته. ترك لنا الرجل المنكوب بمنزله، وكل ما يملك، مثلاً يُضرب ويُقاس عليه اليوم منزلنا الذي عنوانه العراق، وقد شبت به النيران. قال في أفضل حواضره وقراهُ، شمالاً وجنوباً، الشّعراء المخضرمون بين الإسلام وما قبله، كصاحب المعلقة زهير بن أبي سُلمى (ت نحو 609م): «فتُغللْ لكَ مالا تُغِلَّ لأهْلها/ قرىً بالعراقِ من قفيزٍ ودرهمِ» (الزَّوزني، شرح المعلقات)، والقفيز مكيال قدره (45) كيلوغراماً. كذلك قال أعشى قيس (ت نحو 629م): «طعامُ العراق المستفيضُ الذي ترى/ وفي كل عام حُلةٌ ودراهمُ» (شيخو، شعراء النصرانية).

من يُتابع صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتغريدات السياسيين والبرلمانيين، على الهواء مباشرة، يجد أن القوم قد ضاقت بهم العقول والضمائر، ورخصت أحلامهم إلى حرق هذه البلاد، وكأن البلاءَ الذي حل على شعِبها، من دكتاتورية وحروب وحصار وغزو، كان سببه العراق نفسه، وكل طائفة تريد البراءة منه عاجلاً لا آجلاً، فبعده قد تهبط النعم عليها من السماء!

كلٌّ ينطلق مِن هواجسه وحدود تفكيره، والكلام مشاع للجميع، وهم يعلمون أن كل تعصب مذمومٍ، لا يعترف به صاحبه، كالمجنون لا يعترف بجنونه، إلا التعصب للأوطان أو البلدان فهو ممدوح بل مطلوب، فالأمر يتعلق بنوازع المتعصب المرتبطة بحدود وطنه، أما أنواع التعصب الآخر عابرة الحدود بلا قيود، فإيذاؤها ينال المتعصب نفسه. لا يخجل المتعصب للوطن من تعصبه، ولا يخشى لومة لائم من إشهاره على الملأ؛ لأن فيه تعالياً على الفرعيات كافة، وحرصاً على حقوق الجميع، الدينية والمذهبية والقومية.

ما ذنب العراق، الذي أطعم مختلف الأقوام من جوعٍ، وآمنهم من خوف، كي يُقال فيه: «لا تتركيني بالعراق فإنه/ بلاد بها أُس الخيانة والغدرِ» (البغدادي، تاريخ بغداد). هذا ما كتبه أحدهم لزوجته بعد أن رُمي في سجن سلطان زمانه بسبب ثورته عليه. لكن ماذا لو نجح صاحب الشكوى المذكورة، وتسلط على العراق، أسيكون لديه الشعور نفسه، أم ستكون نظرته أخرى، مدفوعاً بالسلطة والنعمة؟!

ليس بهذا الشعور يُنظر للأوطان، وتُقيم الأُمور. أقرأ الكثير لأقلام مفْرطة في التعميم، بأن العراق أرض انقلابات وعنف، وأن العراقيين لا يصلحون لوطن ولا لحرية، وما حصل ويحصل كان بسببهم، كشعب لا ساسة أو رؤساء. مثل هذه الأفكار لا تميز بين الصالح والطالح، بل تُشتت مسؤولية الجريمة، وتبرر لمَن فرط بالأرض، وأفسح المجال لعصابة مثل «داعش» أن تتحكم بأكثر من ثلث العراق. سيطمئن لهذه الأفكار. فمازال الإنسان العراقي متهماً، والعراق «أُس الخيانة والغدر»، فعلامَ تنتقد وتُذم فترة الحَجّاج بن يوسف الثَّقفي (ت 95هـ) وخلفائه، ولماذا يطلع علينا، بين حين وآخر، «مختار عصرٍ»، متشبهاً بالمختار بن عبيد الله الثَّقفي (قُتل 67هـ)، مطالباً بالثأر؟!

لقد خلت القلوب مِن عاطفة والعقول من حكمة، ساسة ومسؤولون يُعاملون العِراق كمنزل سفرٍ لا مقرٍ، كم يستطيعون الأخذ منه، من مال وجاهٍ، ولم يتركوا في رماده شيئاً، فلا يريدون لهذه البلاد بقاءً إلا في الحكايات وكتب التاريخ. أراهم يتنافسون على تفسيخها، بعذر حقوق الطوائف، والسؤال: أليست حقوق البيت من حقوق ساكنيه؟! فكيف يفرط به وبهذه السهولة، حتى جُعل القتال ضد «داعش» منَّةً وجميلاً لطائفة على أُخرى، والإنقاص من جيشه علانيةً، مع المطالبة بالثمن، وهو رأس العراق، ذبحه من الوريد إلى الوريد، هذا هو المطلوب ما بعد «داعش». فحسب ما يُتداول: أن العراق ظلم الشيعة، وأقصى الكُرد، وطالب بالثأر من السُّنَّة، على خمسة عشر قرناً من المظلومية، مثلما يفهمون ويروجون! لهذه الأسباب غدت السياسات أصداء للعواصم، والساسة مجرد وكلاء للأولياء والمرشدين الأجانب.

سمعتُ حكاية منزل آل جبُيَلِّي، ذات الدلالة، من ابن أخيه الشاعر كريم الأسدي، قبل نحو عشرين عاماً، وظلت راسخة في ذهني، وأنا أرى منزلنا يحترق، والثقافة السائرة تزيد ناره ناراً، وقد يلام الساعون لإخمادها بالقول: دعوه يحترق، ماذا تركتم في رماده؟!