الموقف المسيحي من الثورة السورية... الخطابين الأرثوذوكسي والكاثوليكي

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أكتوبر 05, 2012, 08:45:41 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

الموقف المسيحي من الثورة السورية... الخطابين الأرثوذوكسي والكاثوليكي




برطلي . نت / متابعة

عشتارتيفي كوم- وطن/

تعتبر سوريا بالنسبة للمسيحيين الأرض التي انطلق منها التبشير المسيحي إلى كافة أنحاء العالم، فهذه الأرض هي التي احتضنت الكنيسة الأولى منذ عهد تلاميذ السيد المسيح، ومنها انطلق بولس الرسول "أعظم كارز بالإنجيل"، وتحتضن سوريا مجموعة من الكنائس هي الأقدم في العالم، ويحتفظ عدد من سكانها باللغة الآرامية التي تحدث بها السيد المسيح، وشكل المسيحيون في سوريا على مر التاريخ نموذجاً للقدرة على الاندماج في المجتمع والتعايش مع كافة الثقافات والأديان.

واليوم يقف المسيحيون في سوريا إلى جانب مكونات المجتمع السوري الأخرى أمام تحديات جديدة فرضتها ثورة الشعب السوري على نظام الاستبداد، ولكن تحديات من نوع خاص ألقت بإرهاصاتها ليس على المسيحيين في سوريا فحسب، بل على الوجود المسيحي ككل في الشرق الأوسط.

المحور الأول

لمحة عن الوجود المسيحي في الشرق

لطالما تميزت الكنائس المشرقية عن الكنائس الغربية في عدة محاور منها: حفاظها على الهوية الثقافية القديمة، وإصرارها على القيام بدور الداعم للهوية القومية لمجتمعاتها، وهذا ما كانت ترفضه الكنائس الغربية بسبب إصرارها على وجوب قيام دول مسيحية تواجه محاولات إقصاء الثقافة المسيحية من المشرق –طبعاً وفق نظرة الغرب للمشرق– مما دفع بظهور جدل واسع بين مسيحيي الشرق ودول الغرب حول كيفية الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق.

بالتالي هذا ما دفع بالدول الغربية إلى زرع فكرة وجوب قيام كيان مسيحي في الشرق يكون بمثابة "الملجأ" للمسيحيين، وهذا ما نجحوا فيه بإعلان قيام دولة لبنان الكبير عام 1920، إلا أن ذلك تغير نحو سياسة إفراغ الشرق من المسيحيين مع بداية ظهور المد القومي العربي حتى تبدو المنطقة تعيش حالة حرب بين الغرب المسيحي والشرق غير المسيحي، وبالتالي هذا يسوغ وجوب السيطرة عليه لنشر "الحضارة" و"التمدن" فيه.

هذه السياسات الغربية التي كانت تغذي النزعات الطائفية في الشرق أدت إلى اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية 1975، وفيها حملت الأحزاب المسيحية السلاح محاولة إبقاء لبنان تحت سلطة المسيحيين فقط دون مشاركة الطوائف الأخرى في الحكم، وبالتالي كانت نتائج تلك الحرب كارثية على لبنان بشكل عام، كما كانت كارثية على المسيحيين بسبب هجرة عدد كبير منهم إلى خارج لبنان.

أما في سوريا فلم تشهد الطوائف المسيحية في العصر الحديث أي حالة صراع شكل المسيحيون فيها طرفاً مقاتلاً، كذلك العراق ومصر، وذلك طبعاً تطبيقاً للفكر المسيحي الشرقي الذي يرفض وبشدة أن يكون المسيحيون طرفاً في أي نزاع مسلح بين أبناء البلد الواحد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المسيحيين كان لهم دور فاعل على مستوى حركات التحرر الوطني التي هدفت إلى التحرر من الاستعمار الغربي، وخاصة في المجال السياسي والدبلوماسي، إذ تشكل حادثة رئيس الحكومة السورية "فارس الخوري" وجدله مع المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة عام 1945 علامة فارقة في ذاكرة السوريين.([1])

ومع بداية عقد الثمانينيات تنبه الفاتيكان إلى خطورة إفراغ الشرق من المسيحيين، لأن ذلك سيفقد الكنيسة جذورها الأولى في العالم، وسيفقدها أيضاً الدور الذي يجب أن تلعبه في محاولة إحلال السلام العالمي، فبدأ الفاتيكان بالحديث عن ضرورة تحسين أوضاع شعوب العالم الثالث والحفاظ على الأمن والاستقرار فيها، لأن هذا هو الضامن الوحيد لتجذر المسيحيين في الأرض التي ولد فيها السيد المسيح، والتي نمت فيها الكنيسة الأولى، إلا أن هذا المشروع قد تلقى ضربة قاسية بعد الغزو الأميركي للعراق 2003، حيث ازدادت وبشكل ملحوظ وتيرة العنف الطائفي داخل العراق خصوصاً في العام الثالث بعد الغزو، مما دفع بالطائفتين السنية والشيعية "المسلمتين" إلى تبادل الهجمات المسلحة والاغتيالات، في حين بقي العنصر المسيحي رافضاً لحمل السلاح مع أن كثيراً من أعمال العنف الطائفية قد ألقت بجحيمها عليه، فقد تعرض المسيحيون هناك لهجمات مختلفة أودت بحياة عدد كبير منهم، مما دفعهم إلى التهافت على تقديم طلبات الهجرة واللجوء إلى البلدان الغربية خاصة بعد أن قامت الأخيرة بتأمين تسهيلات لهجرة العائلات المسيحية العراقية إلى أراضيها، مما أدى إلى هجرة أكثر من 85% من مسيحيي العراق خارج بلدهم بحثاً عن الأمن والاستقرار.

كل ذلك كان يتصاحب مع تواتر النداءات المتتالية من الفاتيكان للبلدان الغربية بعدم استخدام سياسة استقدام المسيحيين والسعي، بدلاً عن ذلك إلى إيجاد حلول لمشاكلهم الأمنية والاقتصادية داخل العراق في محاولة من الفاتيكان للحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق.

أما في سوريا فلقد كان للمسيحيين دور سياسي فعال في بناء سوريا، ونذكر من أعلامهم: فرانسيس مراش وهو من أعلام النهضة العربية، اسبر زغيبي وهو مجاهد ضد الاحتلال الفرنسي، فارس الخوري رئيس الحكومة في عهد الاستقلال، وغيرهم من الذين ساهموا في بناء سوريا في القرن العشرين، إلا أن وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1971 دفع بالشارع المسيحي إلى البعد عن الحياة السياسية بسبب محاولة الأسد إظهار نظام حكمه على أنه "حامي للأقليات في سوريا" من خطر "التطرف الإسلامي"، واكتفى المسيحيون على المستوى السياسي بمناصب تعطى لبعض الشخصيات المسيحية دون أن يكون لها أي دور واضح وفعال في عملية صياغة السياسة الداخلية والخارجية لسوريا، وذلك طبعاً يعود إلى طبيعة نظام الحكم الذي أنشأه حافظ الأسد، والذي يقوم على محورية شخصية الأسد وعائلته المقربة منه، هذا ما دفع بالمسيحيين بشكل عام إلى الاكتفاء بالنشاط الأدبي أو العلمي بعيداً عن السياسة، إلا من قرر منهم الاستمرار بالمطالبة بدولة ديمقراطية تكفل الحقوق والحريات لجميع المواطنين، وبالتالي تمت توجيه تهم عديدة إليهم وملاحقتهم، نذكر منهم المعارض ميشيل كيلو وجورج صبرا وغيرهم الكثير.

المحور الثاني

المسيحيون في عهد بشار الأسد

يشكل المسيحيون في سوريا حوالي 12% من مجموع السكان، وهذه النسبة تشمل الطوائف الكاثوليكية والأرثوذكسية، وتتوزع على مجموعة من القوميات والثقافات كالسريان واللاتينيين والآشوريين والكلدان، بحيث يتركز وجود قوميتي الآشوريين والكلدان في شمال شرق البلاد، في حين تنتشر طوائف السريان والروم الكاثوليك والأرثوذكس في باقي المناطق، وعلى الرغم من هذا التنوع إلا أن المسيحيين عادةً ما يتبنون مواقف متماثلة تجاه القضايا السياسية في مجتمعاتهم، ويسعون إلى التشبث بأرضهم وتعزيز وجودهم فيها والحفاظ على ثقافاتهم الأصلية.

شكل وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم في سوريا بالنسبة لكثير من المسيحيين أملاً في إطلاق عملية تحول ديمقراطي مدني لنظام الحكم في سوريا، خاصة بعدما أكد في أكثر من مناسبة في خطاباته على ضرورة مكافحة الفساد وانفتاح السوق وضرورة تفعيل الحياة الحزبية في سوريا، إلا أن هذا الأمل كان قد تلقى صفعة قاسية بعد إغلاق "الصالونات السياسية" التي انطلقت في فترة ما عرف "بربيع دمشق"، وخاصة بعد ملاحقة أعضاء "إعلان دمشق" واعتبارهم "متآمرين على الوطن"، إضافة إلى تفشي الفساد وضرب أي محاولة لإنهاء حالة الحزب الحاكم في سوريا، هذا ما دفع بالسوريين ككل وبالمسيحيين باعتبارهم جزءاً من الشعب السوري إلى حالة من الاحتقان الشديد من إحكام القبضة الأمنية على البلاد، إلا أن موقف المسيحيين كان يمكن النظر إليه عبر نافذتين: الأولى رجال الدين المسيحي، والثانية الشباب المسيحي.

دأب رجال الدين المسيحي على دعم حكم بشار الأسد منذ توليه السلطة عام 2000، سعياً منهم إلى الحفاظ على حرية ممارسة شعائرهم الدينية بشكل علني، وطمعاً في الحصول على مكاسب سياسية أخرى من السلطة الحاكمة، في حين كان الشباب المسيحي غير راضٍ تماماً عن الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد، لكنه كما أغلب السوريين كان صامتاً على مضض لمعرفته بعدم قدرته على إحداث التغيير الحقيقي.

ومع انطلاق الثورة السورية في 15 آذار 2011 وبداية خروج المظاهرات السلمية، عاد المشهد المسيحي للانقسام لكن هذه المرة لثلاثة أقسام: قسم مؤيد للنظام، وآخر معارض له، وآخر يلتزم الحياد.

شارك المسيحيون بفعالية بالخروج في المظاهرات السلمية وظهرت وجوه معارضة مسيحية -لعل أشهرها ميشيل كيلو- طالبت بإقامة دولة ديمقراطية مدنية، يكون فيها تداول السلطة أمراً أساسياً يحدده صندوق الانتخابات، في حين أيد أغلب رجال الدين المسيحي النظام لعدم رغبتهم في انخراط المسيحيين بشكل كامل، وبالتالي تكبد خسائر لا يستطيع مسيحيو سوريا تحملها، إلا أن الرد العنيف من قبل النظام على المظاهرات السلمية دفع بقسم من المسيحيين بالانسحاب من العمل المباشر في المظاهرات والاكتفاء بمحاولة الدعم والتأييد عبر وسائل "أكثر أماناً" كالإنترنت مثلاً.

ومع بداية تشكيل الجيش الحر وتحول الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة وقف قسم كبير جداً من المسيحيين على الحياد رافضين حمل السلاح، وبالتالي انحصر نشاط من تبقى من المسيحيين في جانب المعارضة على العمل الدبلوماسي والنشاط غير المسلح لدعم الثورة.

استطاع النظام إظهار نفسه على أنه الخيار الأكثر ضمانة لحماية حقوق الأقليات في مواجهة ما سماه "التطرف الإسلامي"، وبالتالي كان موقف الاكليروس داعماً بشكل أساسي لبقاء النظام، إلا أن ذلك لم يغير من رأي كثير من الشباب المسيحيين الذين سئموا تسلط رجال الدين على مواقفهم السياسية، مما دفعهم إلى الاستمرار في دعم الثورة لكن بشكل غير مباشر وفي كثير من الأحيان بشكل غير معلن.

هناك حالة من السخط المسيحي على الآلة القمعية لنظام بشار الأسد، كما أن الشارع المسيحي غير راضٍ عن "الحل الأمني" الذي تنتهجه السلطة، والشباب المسيحي غير راضٍ عن مواقف رجال الدين المسيحي الداعمة لبشار الأسد.([2])

إلا أن ذلك لا يمكن أن يدفع بالمسيحيين بأي حال من الأحوال إلى حمل السلاح لقناعتهم بأنهم لن يستطيعوا تحمل الخسائر في الأرواح التي ستنجم عن هذا الفعل، خاصة وأن حالة هجرة كبيرة بدأت تتفشى بين العائلات المسيحية المقتدرة على ذلك، وبين الشباب الذين أصبحوا يرون في الهجرة هروباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في مثل هذه الظروف، وأملاً في رسم مستقبل آمن لهم خارج وطنهم سوريا.

يمكن ملاحظة الانخفاض الشديد في نسبة الملتحقين بالخدمة العسكرية من المسيحيين، وعدم التحاق من استدعي إلى الاحتياط لشعورهم بأن المعركة بين الجيش النظامي والجيش السوري الحر اتخذت منحى حرب "جهادية" هادفة إلى إسقاط نظام الأسد بقوة السلاح، وهذا ما يتخوف منه المسيحيون لأنه كما أسلفنا لن يستطيع الشارع المسيحي في سوريا تحمل الخسائر، وبالتالي لن تكون هناك قدرة على الحفاظ على الوجود المسيحي في ظل أي حرب سورية داخلية.

ويبقى الرهان قائماً على مدى قدرة الشباب على الخروج عن إملاءات النظام ورجال الدين المسيحي مع الأخذ بعين الاعتبار أنه كلما ازداد عمر هذه المعارك كلما دُفع المسيحيون إلى الهجرة خارج سوريا بحثاً عن الأمن والاستقرار.

المحور الثالث

خطاب الاكليروس وآراء الشباب المسيحي

"أزمة أم ثورة؟"

الفرق بين الخطابين الدينيين (الأرثوذوكسي والكاثوليكي) بخصوص الملف السوري

إن الخطاب الكاثوليكي يؤكد على قضية أنه لا خوف من التغيير "تغيير النظام" طالما وُجدت ضمانات حقيقية ومطمئنة بخصوص الحفاظ على الوجود المسيحي في سوريا، وممارسة المعتقدات الدينية بحرية كاملة.

أما الخطاب الأرثوذوكسي فإنه يرفض التغيير لأنه لا يعتقد بحقيقة وجود هكذا ضمانات، حيث يفضل الإبقاء على الوضع السياسي الراهن على ما هو عليه، كي لا يخسر المسيحيون المكاسب التي حصلوا عليها خلال وجودهم في سوريا.

أ- الكاثوليكي:

البابا:

وصف بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر إرسال السلاح إلى سوريا بـ "الخطيئة الكبرى"، وهذا الوصف يحمل مدلولاً دينياً خاصاً لدى المسيحيين، إذ إنه يشير إلى تحريم قطعي لا يجوز ممارسته أبداً، فالإقدام على ممارسة "خطيئة كبرى" يوازي كسر إحدى الوصايا العشر.([3])

عبر البابا -في خطابه الأخير الذي ألقاه في زيارته إلى الشرق الأوسط ببيروت- عن رغبته بسعي جميع الدول إلى إحلال السلام في سوريا، مؤكداً على وجوب عدم هجرة المسيحيين من الشرق، وخاصة من سوريا بعدما شهد العراق هجرة أكثر من 85% منهم بعد الاحتلال الأميركي للعراق.

أما عن دور المسيحيين في سوريا، فيقول البابا: (إن دور المسيحيين في سوريا يجب أن يكون لحماية النسيج الاجتماعي السوري، وعدم الانجرار إلى الفتنة).

تجدر الإشارة هنا إلى أن البابا قد أكد على أهمية اللغة العربية في ممارسة الطقوس الدينية المسيحية داخل كنائس المشرق.

ينبع موقف حاضرة الفاتيكان من مجموعة من الثوابت التي ترتكز على نبذ العنف بكل أشكاله مهما كانت الأسباب والغايات، بالتالي فمن المتوقع ألا يخرج خطاب البابا عن هذه الرؤية، إضافة إلى أن حرصه على المحافظة على الوجود المسيحي في الشرق يدفعه إلى دعم كل أشكال الاستقرار في المنطقة لمعرفته بأن المسيحيين لن يتحملوا تبعات الاضطرابات الأمنية، خاصة إن طال أمدها، إلا أن هذا الموقف لا يعني بالضرورة دعماً لحكم بشار الأسد، خاصة إن استطاع المجلس الوطني السوري تقديم ضمانات حقيقية وواضحة لحماية المسيحيين في سوريا.

البطريرك الماروني "مار بشارة بطرس الراعي":

عبر البطريرك الراعي عن اهتمامات المسيحيين السوريين السياسية بقوله: "إن المسيحيين لا يهتمون بالسلطة الحاكمة، فهم لا يقفون مع النظام أو ضد النظام، إنما همهم الأول هو حماية الدولة".

وهذا يدل مرة أخرى على موقف الكنيسة الكاثوليكية القابل لدعم الثورة السورية عندما ترى بوضوح أن البديل عن الأسد سيقوم بـ "حماية الدولة"، وبالتالي عدم تعريض الوجود المسيحي لخطر "التطرف الإسلامي" الذي طال مسيحيي العراق سابقاً.

وأكد الراعي على محورية الدور الحضاري المسيحي في الشرق عندما قال: "نرفض وصف مسيحيي الشرق الأوسط بالأقليات، لأن ذلك يعطي دلالات تنزع عن المسيحيين صفة المواطنين الأصليين"، ومن الواضح أن مقصد البطريرك الماروني بقوله هذا يدل على الدور الأساسي للمثقفين المسيحيين في نهضة مجتمعات الشرق الأوسط، إلا أن هذا الكلام غير صحيح بالمقياس السياسي أو الديمغرافي، لأن المسيحيين في الشرق الأوسط يشكلون أقلية دينية في مجتمعاتهم.

أما حول إمكانية تسليح المسيحيين في سوريا لغرض الدفاع عن مناطق سكنهم وقراهم فقد رفض الراعي ذلك عندما رد على ما صرح به كل من سمير جعجع وأمين الجميل "القوات والكتائب" بخصوص قدرتهم على تسليح القرى المسيحية إن اضطر الأمر بقوله: "المسيحيون في سوريا لم ولن يقبلوا حمل السلاح في وجه أي كان"، إلا أنه لم يبرّئ النظام السوري من واجباته في التخفيف من العنف الدائر في سوريا عندما وجه كلامه للحكومة السورية: "يجب المحافظة على شروط الأمان والاستقرار لتدعيم الوجود المسيحي في الشرق الأوسط".

تجدر الإشارة إلى أن بشارة الراعي هو من أكبر المعارضين لمشروع الشرق الأوسط الكبير والرؤية الأميركية "للفوضى الخلاقة" وبالتالي هو يؤمن بضرورة التغيير السلمي نحو الأفضل، ويلعب البطريرك الماروني دور الموجه السياسي لمسيحيي الشرق، ويلعب في ذات الوقت دور الراعي لحقوق المسيحيين وحماية أرواحهم، وهذا ما يبدو جلياً في تصريحاته الموجهة إلى الحكومة السورية بشكل مباشر، وإلى المعارضة السورية بشكل ضمني.

إن التصريحات الإعلامية لكل من البابا والبطريرك الراعي لا تعبر بالضرورة عن تطلعات الشارع المسيحي، خصوصاً إذا ما ذكرنا قصة الأب فرانس مع الثورة السورية في مدينة حمص.

الأب فرانس (دير الآباء اليسوعيين):

الأب فرانس هو كاهن فرنسي عاش في سوريا لأكثر من ثلاثين سنة في خدمته الكهنوتية، قضى معظمها في مدينة حمص، لديه قاعدة شعبية كبيرة، تشمل شباباً من كل الطوائف والديانات، والتي استطاع كسبها من خلال اهتمامه الخاص بالشباب السوري، كان ضد العنف الممارس من قبل النظام في إطار الأفكار، ولكن ذلك ما لبث أن تحول إلى ممارسة على أرض الواقع، خصوصاً عندما قام بإيواء عائلات لمقاتلين في الجيش الحر في دير الآباء اليسوعيين في منطقة الحميدية بحمص القديمة، وعلى إثر هذه الحادثة قام النظام السوري بإجباره على مغادرة البلاد.

بعد خروجه من البلاد قال بعدة أفكار:

1- إن من يملك القوة القادرة على القتل والتدمير هو النظام السوري.

2- وبالتالي فتقع على عاتق النظام مسؤولية ازدياد عدد الضحايا.

ازداد الغضب لديه عندما بدأ القصف على أحياء حمص، يحمل صفة التدمير العشوائي والانتقامي، وقال في تلك الأثناء إن الصراع في سوريا بين مقاتلين على الأرض، وإن عمليات القصف لا مغزى منها سوى قتل المدنيين، لذلك طالب النظام السوري بإيقاف عمليات القصف العشوائي.

ب- الأرثوذوكسي:

ما من زعامة عالمية للكنيسة الأرثوذوكسية ولكن تبقى الرياسة فيها مناطقية أو إقليمية، فلكل إقليم بطركية يرأسها بطريرك يهتم بشؤون أبرشياته في ذلك الإقليم، في حين أن البطركيات الكاثوليكية في أنحاء العالم تكون مرجعيتها حاضرة الفاتيكان، لذلك نجد أن الخطاب البابوي الكاثوليكي هو صاحب الصدى في المحيط المسيحي داخل سوريا مع العلم أن تعداد المسيحيين الكاثوليك فيها أقل من أقرانهم الأرثوذوكس.

عبر بطاركة الطائفة الأرثوذكسية المسيحية عن موقف متماثل في الجوهر يعبر عن رفضهم لعملية التغيير عن طريق حمل السلاح، وعبروا عن عدم رغبتهم بانخراط المسيحيين في حالة "اقتتال طائفي" داخل سوريا على حد تعبيرهم.

ينبع موقف البطاركة الأرثوذكس الرافض لحمل السلاح بهدف إحداث التغيير الديمقراطي من سببين أساسيين:

1) تخوفهم في مرحلة ما بعد الأسد من استخدام السلاح ضد الأقلية المسيحية في سوريا.

2) قناعاتهم بأن استخدام السلاح سيجر البلاد لا محالة إلى حرب طائفية يستحيل فيها أن يبقى المسيحيون بعيدين عن ويلاتها.

يمكن أن نضيف إلى السببين السابقين عدم رغبتهم بتضرر أبرشياتهم على المستوى الديمغرافي أو الاقتصادي، لأن ذلك سيدفع المسيحيين للهجرة خارج بلادهم أو تقوقعهم داخل "كانتونات" لن تمكنهم من أخذ مكانهم الصحيح في المجتمع السوري.

ج- موقف الشباب المسيحي من الثورة السورية

إن موقف الشباب السوري بشكل عام كان متحمساً لفكرة التغيير قبل الثورة، نظراً لأوضاع الشباب الاجتماعية والاقتصادية المتردية، وكون الشباب المسيحي جزءاً لا يتجزأ بل رئيسياً من النسيج الاجتماعي السوري، فقد كان متحفزاً للفكرة، ولكن تختلف دوافع التغيير لدى هؤلاء عن غيرهم في بعض الجوانب التي تتطلبها خصوصية الوجود المسيحي في الشرق، إذ يمكن تقسيم الشباب المسيحي إلى قسمين رئيسيين في مسألة الرغبة بالتغيير:

الأول: قسم يرغب بتمثيل أكبر وأكثر فعالية للمسيحيين في السلطة السياسية بسوريا، ويجسد هذا القسم فئة الشباب المسيحي المتدين الذي يبحث عن دعم أكبر للوجود المسيحي، واستطاع النظام استمالته عندما قام بتعيين العماد داوود راجحة وزيراً للدفاع، حيث تلقى الشارع المسيحي خبر تعيينه على أنه بداية لسلسلة من المناصب التي ستؤول إلى مسيحيين، وبالتالي استفادة الشباب المسيحي من خدمات الدولة بشكل أكبر!.

الثاني: قسم كان يبحث عن تغيير جذري في السلطة السياسية، يقوم بشكل أساسي على إنهاء حقبة الأسد والبدء بعملية التداول السلمي للسلطة، ويجسد هذا القسم فئة العلمانيين الذين لطالما حلموا بدولة ديمقراطية حقيقية تتسع لجميع أبنائها على قدر واحد من المساواة والعدل واحترام الحريات، وهذا القسم هو الذي كان يشكل غالبية المعارضين المسيحيين الذين انخرطوا في المظاهرات السلمية والعمل الدبلوماسي من أجل التغيير.

بعد اندلاع الثورة الشعبية انخرط الشباب المسيحي فيها انخراط الباحث عن التغيير لأجل الأفضل، ولكن ردة فعل النظام القاسية على المظاهرات السلمية أبعدت جزءاً من هؤلاء ليقفوا على الحياد، واكتفى أغلبهم بالأنشطة السياسية الثورية السرية، ولكن التحول نحو العسكرة في مراحل متقدمة من عمر الثورة دفع بالمتبقين للعدول عن العمل المظاهراتي أو حتى عن الأنشطة السياسية اللذين لم يجديا نفعاً ولم يحققا الآمال المنشودة، وقد ترافق ذلك مع خوف هؤلاء من حمل السلاح في مواجهة النظام السوري بعد إعلان حالة العسكرة، ويمكن أن نعزو عدم قبول المسيحيين إلى حمل السلاح ضد النظام إلى الأسباب التالية:

1) أسباب دينية عقائدية تقضي بعدم استخدام العنف ضد أي كان، ويمكن أن نرى خير مثال على هذه العقيدة في إنجيل متى الإصحاح الخامس.

2) أسباب تتعلق بالضربات الوحشية التي وجهها النظام للمناطق الثائرة ضده، مما شكل حالة من الخوف لدى المسيحيين من ردات فعل مماثلة من قبل النظام قد تصيبهم.

3) أسباب تتعلق بالأسرة المسيحية، التي تتميز بقلة عدد أفرادها، بالتالي فهي لن تتحمل خسارة أحد أبنائها، لأنه في كثير من الحالات سيشكل ذلك تهديداً لوجود هذه الأسر.

وفي المقابل فإن الأسباب السابقة ذاتها قد تكون خلف ظاهرة تجنب الشباب المسيحي للالتحاق بالخدمة العسكرية.

إن عملية الفرز الواضحة التي أطلقها بشار الأسد والتي تمحورت حول فكرة "لا مجال للوقوف في الوسط" أدت إلى زيادة عامل الخوف بل والنفور الزائد من الاقتراب سلباً أم إيجاباً لأي من الطرفين، مما فتح الباب واسعاً أمام احتكار الاكليروس التعبير عن الرأي العام المسيحي تجاه الثورة السورية، والذي لا يمثل بالضرورة رأي الشارع المسيحي، وتبدو حالة الانقسام الواضحة بين الشباب المسيحي وقياداتهم الدينية بسبب عدم تقبل أغلب الشباب المسيحي لفكرة تدخل الكنيسة في شؤون السياسة، ويمكن الإشارة إلى هذه الحالة عند البروتستانتيين على وجه الخصوص، وذلك أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الشباب معارضة للنظام السوري جهاراً، وترفض أي نوع من المساومة على حساب الثورة من قبل أي كان، وهذا ما يخالف تصريحات "زعاماتهم" الدينية والتي تؤيد النظام بشدة، فقد صرح رئيس الكنيسة المشيخية في حلب محاولاً الرد على تصريحات أوباما الداعمة للثورة قائلاً: "النظام في سوريا هو أكثر ديمقراطية وأكثر حماية لحقوق الأقليات من النظام السياسي في أميركا".

ولا يمكن رؤية احتمالية حمل المسيحيين للسلاح في المدى القريب إلا في حالة قبول مسيحيي سوريا لوصاية زعماء الأحزاب السياسية اللبنانية المسيحية، وقدرة ورغبة هذه الأحزاب على تسليح مسيحيي سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الاحتمال سيكون في مرحلة ما بعد الأسد أو في المراحل الأخيرة لسقوط نظام الأسد.

المحور الرابع

سيناريوهات المستقبل

إن ثلاثة سيناريوهات مستقبلية قابلة للتحقق في هذا الصدد:

1- بقاء المسيحيين على حالة الحياد:

يرجع هذا السيناريو في المدى المنظور لعدة أسباب: أولاً: عدم رغبة المسيحيين بالانخراط في وعاء الصراع "الطائفي" القائم في سوريا. ثانياً: قدرة رجال الاكليروس على التعاطي مع كل من النظام والمعارضة بخطاب يرضي الطرفين ويصب في صالح المواطن المسيحي. ثالثاً: عدم حصول اعتداءات مباشرة ضد المسيحيين من قبل الأطراف المتصارعة، مما يعني عدم رغبة هذه الأطراف بإدخال العنصر المسيحي في أجواء الصراع.

2- انخراطهم مجدداً في الحراك السياسي السلمي:

وهذا بالضرورة ما يعتمد على مدى إحراز تقدم بخصوص قضية الحوار السياسي في الداخل السوري، لأن في انخراطهم إحراز تقدم في الحياة السياسية، مما يكفل حصولهم على مكاسب أكبر، وهذا السيناريو ضعيف لأن احتمال نجاح هكذا مؤتمر ضئيلة جداً، ولأن المسيحيين أصلاً لا يعتبرون المعارضة الداخلية ممثلة لمصالحهم وأهدافهم وتطلعاتهم، أضف إلى ذلك خشية الشارع المسيحي من القيام بأي تحرك قد يفضي إلى اعتبارهم طرفاً يصطف إلى جانب السلطة الحاكمة.

3- حمل السلاح "دفاعاً عن النفس":

إن حمل المسيحيين السلاح سيناريو ضعيف جداً، ولا يكون إلا دفاعاً عن النفس وخروجاً عن القاعدة المتعارف عليها، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أي فكرة لحملهم السلاح تحتاج تدخلاً من قبل الأحزاب المسيحية اللبنانية لدعمهم ومدهم بالعتاد والرجال، هذا السيناريو بعيد المدى وغير منظور واحتماليته ضعيفة جداً، خصوصاً أن النظام السوري والمعارضة لا تريد انخراط العنصر المسيحي في الصراع، كي لا يبدو الصراع في سوريا أمام الغرب ذا صبغة طائفية، فتتغير بذلك الحسابات الخارجية التي لن تفيد أياً من الطرفين.

إن هذا السيناريو غالباً ما سيحدث في المراحل التي تعقب انتصار الثورة وسيادة حالة الفوضى التي يخشى المسيحيون أن تهدد وجودهم في سوريا، خصوصاً مع وجود اعتقاد عام لديهم بأن مقاتلي المعارضة السورية (الجيش الحر) جماعات إسلامية متطرفة.

خاتمة:

لا شك في أن قسماً كبيراً من المسيحيين السوريين يؤيدون إسقاط النظام الحالي بهدف بناء دولة ديمقراطية مدنية، ويجب الانتباه إلى أن النظام يدرك هذه الحقيقة، وبالتالي فإنه سعى بشتى السبل إلى دفعهم إلى تأييده عن طريق إظهار نفسه على أنه حامي الأقليات وحقوقهم، وزرع الرعب في قلوب هذه الأقليات من الثورة السورية عن طريق اتهامها بــ "التطرف" وعدم استعدادها لتقبل الآخر، وهنا يقع على عاتق المثقفين السوريين مهمة توضيح الحقيقة التي يعمد النظام على إخفائها، بأنه ليس حامياً للأقليات بل يحتمي بها، إضافة إلى وضع تصور مستقبلي من قبل المجلس الوطني السوري يشرح فيه الكيفية التي ستضمن حقوق الأقليات وحرياتهم الدينية بغض النظر عن شكل نظام الحكم الذي سينتج بعد سقوط الأسد.

ولا بد من أن حالة الخوف التي عُمّمَت على الأقليات قد شملت المواطنين المسيحيين وأفرزت نوعاً من الفتور تجاه الحراك الثوري بكافة أشكاله، ولكن ذلك لا يبرر أن يصطف هذا المواطن إلى جانب السلطة الحاكمة، وهذا ما انتهجه فعلاً، حيث وقف موقف المحايد والمراقب الحذر من الأحداث الدائرة في سوريا.

وإن متغيرات الأحداث السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية في سوريا هي من ستحدد طبيعة وماهية الاصطفاف المسيحي في المستقبل القريب والبعيد.