إصلاح اقتصادي في ظل سيادة القانون / لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 21, 2016, 04:13:17 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

إصلاح اقتصادي في ظل سيادة القانون     
   

برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس
بغداد، في 4 تموز 2016



كان العراق وما زال مصنعًا للكفاءات الوطنية وأصحاب العقول المستنيرة في كلّ الميادين، برفده والعالم أجمع، بخبرات يقلّ نظيرُها في بلدان المنطقة ولدى شعوبٍ أخرى فيها. ربّما في جزء من الأسباب، يعود هذا أحيانًا إلى طبيعة العراقيين الجادّة في التفاعل مع الأحداث والتناغم مع مختلف العلوم والفعاليات والظروف ومع كلّ مستجدٍّ في الحياة. فالذكاء والخبرة والغيرة والعقل والعمل وطلب العلم والجدّ في اٌلإبداع، كلّها من ضمن خصائصه، إلى جانب سلبيات لا يخلو منها بطبيعة الحال، ومنها الازدواجية في تركيبة شخصيته.من هنا كان التكالبُ على كفاءاتِ أبنائِه، سحابةَ السنين الغوابر من تاريخه الحديث، من أجل إفراغِه منها وجعلِه قريةً بائسة أو ضيعة موحشة بلا طعمٍ ولا رائحة، وفي حاجة دائمة لغيرِه. من هنا، وضمن فورة الشعب والقوى المدنية والنخبة المستنيرة المنادية بالإصلاح، وتنادي رأس الحكومة انسياقًا عفويًا وتجاوبًا مهزوزًا وراء هذه المطالبة الحثيثة، يقتضي كلّ هذا وجود أرضية صلبة لسيادة القانون الذي بدونه لامجالَ لتطبيق أية إصلاحات ومحاسبة الفاسدين ومَن أساء استخدام السلطة وهدرَ المالَ العام. وهذا بدوره لن يكون من السهل تطبيقُه في حالة بقاء القضاء العراقي خاضعًا لأطوار الساسة وموجَهًا وفقًا لمصالحهم الحزبية والفئوية والطائفية، كما هو عليه اليوم من دون رتوش.
وزارة الصناعة العراقية، تسعى اليوم جاهدة لتفعيل مؤسساتها بما ينسجم وخدمة الأهداف الاقتصادية للبلاد في ظلّ الظروف الصعبة القائمة حاليًا. ولا بأس ما حققته لغاية الساعة من إعادة تفعيل عمل شركاتها عبر دمج بعضها وإحالة البعض الآخر إلى التقاعد مجبرة. كما يُسجل لها تفعيل عمل شركات صناعة الأسلحة الخفيفة والمتوسطة انطلاقًا ممّا تبقى من مخزون وخبرات شركات التصنيع العسكري سابقًا. وهذا جهدٌ وطنيٌ مضاف إلى نشاطها في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة القائمة حاليًا.
من جانبها، تسعى منظمات واتحادات وجمعيات تعنى بالشأن الاقتصادي، تجمعُهم أهداف مشتركة، في الأقلّ هذا ما خبرتُه وسمعتُه، تسعى لإعادة تدوير دولاب الحياة الاقتصادية المنهك للبلد من خلال مقترحات لا تخلو من المنطق والواقع والرؤية والجدوى. بل وأكثر من ذلك، اتضح أن جهودها لا تخلو من نبض وطنيّ وعمق تجاريّ ندّي ومنافس وفاعل للسوق العراقية، باعتبارها شريكًا ضروريًا في بناء الاقتصاد، ويسير جنبًا إلى جنب مع جهد الدولة الموجَّه في معظمه في الآونة الأخيرة نحو مكافحة آفة الإرهاب المتمكّن منذ سنوات والمتنامي من دون حسيب ولا رقيب ولا حدود، لغاية الساعة.
جهود هذه الفعاليات المتواترة بين فترة وأخرى، وما تطرحه في لقاءاتها الاقتصادية من نقاشات وطروحات، كلها تعبّر عن رغبة صادقة في دعم جهود الحكومة الفاشلة والعاجزة عن تحقيق الإصلاحات المرتقبة والتي طال انتظارُها وبقيت طيّ التمنيات والتصريحات الفارغة التي لا تغني ولا تسمّن. فالأفكار المطروحة في هذه اللقاءات والمقترحات والأبحاث "لا تمثل ترفًا فكريًا بل تنشد حرصًا ورغبة في الاستفادة من تجارب دول أخرى"، كما أعرب عنه أحد خبراء الاقتصاد في إحداها. فالعراق الذي حضي بالديمقراطية، بحسب الخبير الباحث، قد خسر سيادة القانون ووسائل دعمه. من هنا يكون قد فقدَ أهمَّ مرتكز في حياة المواطن الذي استفزّته تصرفات الساسة وإيغالُهم في الفساد وفشلُهم في إدارة مؤسسات الدولة التي أُفرغت من قوامها. فوقعت البلاد والعباد في متاهات السلطة وجبروت الأحزاب والكتل السياسية التي هيمنت على المشهد السياسيّ في ظلّ غياب سيادة القانون الذي من دونه لا يمكن تحقيق أية إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نهضوية وأية وثبات مرتقبة للتطور والتقدم.
في اللقاء الحواري الأخير للمجلس الاقتصادي العراقي المنعقد قبل أيام في بغداد، واستضاف فيه مسؤولين في الدولة وفي الجهاز التشريعي والمصرفي، وحضرته نخبة متميزة من سيدات ورجال الأعمال، جرى التصارح حول ضرورة تفعيل جهود القطاع الخاص الذي ما يزال يتبع بيروقراطيًا مؤسسات الدولة وتوجهاتها، بالرغم من الأخطاء الفادحة لهذه الأخيرة في طريقة إدارتها للملف الاقتصادي، ما شابها من عورات وفساد وعجز وتراجع وفشل.فيما العقل الاقتصادي الصائب يشير بضرورة إدخال صيغٍ فعّالة في العملية الاقتصادية من أجل تنشيط اقتصاد السوق وانتشال البلد من هوّة الاقتصاد الريعي الذي يعتمد عليه في معظم تفاعلاته ومدخولاته وموارده.
جميلٌ أن يرى المجتمعون بضرورة قبول الدولة شراكة القطاع الخاص لإيجاد سبل دعم متزنة وفاعلة للاقتصاد المنهك وكيفية النهوض به عبر تعدد الموارد وإعادة الحياة لمصانع الدولة المتاحة وخصخصة غيرها من الخاسرة أو تلك التي يصعب إحياؤها بسبب التركة الثقيلة واستنزافها لموارد غير مجدية. وهذا من الأمور التي تبشّر بالتفاؤل وصولاً إلى الشراكة المنصفة المبتغاة بين القطاعين على السواء. ثم إن تشخيص الخبراء الاقتصاديين لمكامن الخلل في العملية الاقتصادية وعدم وجود استراتيجية واضحة للحكومات المتعاقبة لإدارة هذا الملف المهم، يشير إلى وعي بالأزمة التي تستحكم بالأوضاع الاقتصادية منذ السقوط في 2003 وضياع مليارات الدولارات في مشاريع وهمية وإجراءات اقتصادية تفتقر إلى أبسط سبل الخطط الرصينة للحفاظ على المال العام وعلى موارد الدولة التي اختفت بطرق شيطانية، ولا إمكانية لمعرفة طريقة الصرف والتبذير والاختفاء فيها.
بطبيعة الحال، مثل هذه الندوات المهمة، تجتذب أرباب العمل وروّاد الاقتصاد الطموحين. وهذا حق للجميع. فالبلاد وقعت بأيدي ذئاب جياع وساسة صدفة ينهشون موارد الدولة من دون أن يصاحب ذلك خطوات لرفع قدرات البلاد الخدمية وبناء البنى التحتية المهلهلة أصلاً وإصلاح المؤسسات التي انهارت بفعل الجهل في إدارة موارد الدولة واقتصادها وتخلّف القادمين الجدد في استيعاب مفهوم الدولة والأركان التي تقف عليها، والاقتصاد أحد أعصابها. ومن الأسباب الكامنة وراء هذا التخلّف عديدة، لعلَّ من أهمها الروح البيروقراطية والروتين وغياب الرؤية في تحديد الاستراتيجيات الاقتصادية والإبقاء على الفساد سيّدَ الكلمة من دون معالجة أدواته بحزم، إضافة إلى التخبط في اتخاذ القرارات والإجراءات التي تصون ثروة البلاد وتحافظ على الاحتياطي النقدي ثابتًا كإشارة لقوة اقتصاد الدولة، علاوةً على عدم أهلية بعض القائمين على إدارة المؤسسات الاقتصادية والمالية لحقب متعاقبة. فالخطوات ما تزال متعثرة، وهي بحاجة إلى تفعيل وجرأة في اتخاذ قرارات صائبة وفورية لتنشيط اقتصاد البلد وتفعيل دور هذا القطاع الخاص المهمّ لما له من تأثير وفاعلية في دفع عجلة الاقتصاد نحو الأمام، لكونه من الدعائم الأساسية في بناء قاعدة اقتصادية قوية ومتينة مبنية على الشراكة الحقيقية وليس الكاذبة مع قطاع الدولة.
إنّ الأزمة الاقتصادية الراهنة، نتيجة لاعتماد البلد في أكثر من 92% من اقتصاده الريعيّ على عائدات النفط، فيما القطاعات الأخرى ولاسيّما الزراعية منها والتصنيعية ما تزال تراوح في مكانها إنْ لم تتراجع إلى حدودها الدنيا، قد جعلت اقتصادَه ضعيفًا لا يستطيع مجاراة نفقاته الكثيرة التي اعتادَ عليها. علاوةً على ما يعانيه من فساد ٍ مستشرٍ في معظم مؤسساته الحكومية التي بقيت أسيرة تأثيرات ساسة وزعماء كتل لتنفيذ منافع ضيقة الأفق لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقهم لتمثيل الشعب. فهذا الأخير، يشعر اليوم أكثر من ايّ وقت آخر، بأنّ مَن ائتمنهم على ثروات البلاد الغزيرة ورعاية مصالحها عوضًا عنه، قد خاب فيهم ظنُّه وخذلوه في غفلة من الزمن، ولم يعد يطيق احتمال القادم الأسود المجهول!
في مثل هذه الندوات الحوارية عادة، يتفاعلَ الحضور مع الحيثيات والانتقادات والمقترحات بكلّ أريحية وسلاسة. ولكن تبقى الردود كما الأسئلة والاستفسارات في حدود التمنيات والرغبات أكثر من إعطاء أملٍ بإصلاحات فاعلة، بالرغم من حديث الشارع والسوق عن إصلاحات متعثرة، على الصعد السياسية والاقتصاديّة والماليّة على السواء. فالحديث يطول ويتكرّر عن شراكة اقتصادية مأمولة ومرهونة بتفاعل الدولة بكلّ قطاعاتها مع القطاع الخاصّ الذي لم تُتح له الفرصة لأخذ مكانته في السياسة الاقتصادية ووضع الاستراتيجيات التي تحتاجُها البلاد للنهوض بأداء السوق على أفضل وجه. فالدولة تعاني من تحديات كبيرة في إدارة مواردها وفي صيانة سيولتها النقدية التي تتربص بها أعين الطامعين ويسيل لها لعابُ الانتهازيين الأغراب، حتى في هذه المرحلة الحرجة من الأزمة المالية الخانقة التي تعاني منها مؤسساتُ البلاد المصرفية والنقدية.
ومن المنطق مثلاً، أنّ خروج العملة الصعبة من البلاد في مثل هذه المعركة المصيريةفي محاربةداعشالإرهابيوالمترافقة مع كساد أسعار النفط، المورد الأساس في اقتصاد البلد، تعني أيضًا تعريض مستقبل هذا الأخير لأزمات إضافية، حيث ضربت قطاعات أخرى وتوقفت تتمة ومتابعة مشاريع متلكئة عديدة بحجة نقص السيولة أو بغيرها. بل حصل أنتخوّف البعض في بدء الأزمة حينها، من احتمالية إشهار الدولة إفلاسَها. وهذا أسوأ الحظوظ! فبحسب البعض، هناك خللٌ واضح في سياسة التعامل مع مسألة الحفاظ على العملة الصعبة. فإنّ ما يُباع من عملة صعبة مثلاً من قبل البنك المركزي أحيانًا، يفوق واردات العراق من النفط خلال نفس الفترة. وهذه مفارقة غريبة، إن لم تكن خللًا واضحًا في ميزان الاقتصاد لأيّ بلد.
لقد أثار انتباهي مقترح لأحد الحاضرين في ندوات مماثلة سابقة، حين لام الجهات المختصة المعنية بالسماح باستمرار استيراد مواد وأجهزة ومكائن ومعدّات وسيارات، تعجّ بها أسواق العراق وتتخم بها المخازن والمعارض والساحات. والعقلاء يتساءلون: لِماذا لم تأخذ الدولة بمثل هذا المقترح وتحدّ من مثل هذه الاستيرادات فترة حتى انفراج الأزمة؟ إنّ السائل يعتقد، وفي سؤاله منطق ورؤية اقتصادية معقولة، أنه بمثل هذا الإجراء الاستثنائي، وكذلك بتحديد خروج العملة الصعبة عبر مزادات البنك المركزي العراقي اليومية من خلال مراقبة دقيقة لعمليات التحويل المالي والنقدي التي لم تخلو من تحايل وعمليات غسل الأموال، سوف يحافظ البلد على بقاء العملة الصعبة وعدم خروجها، لا سيّما وأنّ مثل هذه السلع موجودة وبكميات تكفي البلد، ليسَ لسنة واحدة فحسب، بل لسنوات قادمات، بحسب خبراء وعاملين في السوق. كما أنّ المناشئ التي أغرقت بها السوق العراقية، ليست رصينة ولا تقوى على الصمود أمام نظيراتها ذات المناشيء العالمية المعروفة لفترة طويلة.
عمومًا، يمكننا استشفاف بروز إجماع على دور القطاع الخاص في العملية الاقتصادية للبلاد، وكذلك في معالجة الأزمة الخانقة في هذه المرحلة الصعبة. فهذا القطاع الواسع والمهمّ مازال خارج أروقة صياغة شراكة حقيقية مرتقبة بينه وبين العام، في مجال المال والاقتصاد والمشاريع، إلاّ ما ندر وفي حدود ضيقة لغاية الساعة. كما يتطلع روّادُه إلى إصدار قوانين واتخاذ قرارات جريئة وواقعية تنظم العلاقة بين الدولة وبينه لكونه أموالًا معطلة خارج بناء العملية الاقتصادية. وهناك مَن يقدّر أن الكمّ النقديّ المتوفر والمعطّل في خزائن البيوت، قد يتجاوز 70% من الإصدار النقدي للبنك المركزي، رغم ما في هذه الممارسة الشخصية من مساوئ ومخاطر، تعرّض الأفراد ومساكنهم لاحتمالات السرقة والسطو والتهديد وما إلى ذلك. فالمواطن بعد أن فقد ثقته بمصداقية المؤسسات النقدية والإدارية والاقتصادية، ومثلُها بالسياسيين الفاشلين الذين يمسكون بمقدّرات الدولة من دون استراتيجيات وطنية وفي ظلّ غياب الخوف والحرص على الوطن وعلى حلال المواطن، قد اضطرَّ مُكرَهًا لحجب التعامل مع المؤسسات الاقتصادية الحكومية منها والخاصّة. فاللوبيات والمافيات عند بعض العاملين في الخاص والعام، هي ذاتُها التي تسيّر عجلة الاقتصاد، وهي ذاتُها التي تتحيّن الفرص لسرقة الوطن والمواطن بشتى الوسائل والحيل وعمليات التزوير.
لذا ربما يكون أحد أبرز اللوائح أو الاستراتيجيات التنموية المنتظرة، تقديم التسهيلات اللازمة لرجال الأعمال الوطنيين والحريصين على بناء قاعدة اقتصادية وطنية، إنتاجية وصناعية وتسويقية معًا، عبر تعديلات جوهرية في قانون الاستثمار الوطني الذي لم يرقى إلى التفعيل المطلوب، بالرغم من تعديلاته المتتالية. كما لابدّ من تفعيل عمل المصارف الحكومية والأهلية التي تمتلك قدرات وافية من السيل النقدي تجيزها في دفع عملية التنمية وتنشيط الاقتصاد عبر مشاريع مشتركة أو منفردة تزيد من قدرات العمليات الخدمية والإنتاجية. فالقطاع الخاص، بيده مفاتيح التنمية التي تمكنه عبر شراكته مع العام من تحقيق الجدوى الاقتصادية بفضل المقوّمات القائمة للنهوض باقتصاد البلاد بأفضل الطرق لو تسنّت لهم مثل هذه الفرصة. وبذلك، في حالة تنشيط قطاع المصارف وتعديل قانونه وكذلك قانون الاستثمار وتعديلاته وإدخال أدوات متطورة للنظام الضريبيّ، من شأنه خلق بيئة حقيقية لتوظيف التسهيلات الحقيقية المتزنة والرصينة من أجل بناء قاعدة اقتصادية قوية للبلد وتنشيط مساهمات رجال الأعمال في تنفيذ المشاريع حينما تعجز الدولة عن تحقيق ذلك. وهذا هو الوقت المناسب لمثل هذا التوظيف. فالموارد البشرية متوفرة، وكذا الثروات والموارد الاقتصادية كفيلة بتحقيق مثل هذا الطموح.
وفي ظلّ هذه المعادلة المترنّحة، برزت أفكار قوية لتأييد تنشيط عملية الإنتاج الوطنيّ التي تبقى عمادَ أي اقتصاد قويّ. فالناتج الوطني هو الذي يحمي الاقتصاد ويحرّك عجلتَه ويحافظ على بقاء العملة الصعبة داخل البلد ويعزّزها بزيادة الإنتاج وتطويره لغاية بلوغ الاكتفاء الذاتيّ. وهذا ما ينادي به أرباب العمل عمومًا، بضرورة تشجيعه ودعمه لحين العودة إلى طبيعتِه واتخاذ موقعه في عملية البناء والتقدم، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتيّ وتصدير الفائض منه في مرحلة لاحقة. وحين يتحقق هذا الحلم، بالرغم من عدم كونه طوباويًا بعيد َ المنال، حينذاك تنتعش قطاعات صناعية وزراعية وتحويلية وإنتاجية كثيرة تسدّ حاجة البلد، لتنتقل الدولة من كيانٍ مستورد ومستهلك إلى مرحلة تعدّد الموارد والتنوع في العملية الإنتاجية وفي توريد العملة وتعزيز الاحتياطيّ النقديّ منها. ولن يتمّ ذلك إلاّ عبر مشاركات متكاملة تضمن توظيف الموارد البشرية في تطوير العملية الإنتاجية وإضفاء طابع التصنيع الوطني فيها بامتياز.
ومن الركائز الأخرى المهمّة في تنشيط هذه العملية، ما تقدمه المصارف الوطنية والخاصة في عملية التنمية المستدامة وفي تنشيط السوق الاقتصادية، سواء من خلال القروض الميسرة لأرباب العمل، أو من خلال ضمان مصالحهم وأموالهم من عبث العابثين وطمع الطامعين من خارج الأسرة الاقتصادية والإنتاجية الحقيقية. فمصارف الدولة ونظيراتُها من القطاع الخاص، يمكن أن تؤدّي دورًا رياديًا في فتح شراكات مع أرباب العمل من خلال تسهيل عمليات الصيرفة وتحويل الأموال وضمان سهولة استغلالها في المكان والظرف المناسبين.
إننا نعتقد، أنّ المؤسسات الاقتصادية والتجارية الناشطة اليوم بامتياز، من خلال الكفاءات المتوفرة منها في الداخل والخارج من الأصيلة وغير الطارئة، يمكن أن يكون لهم باعٌ طويلٌ في إعادة انتعاش اقتصاد البلاد وتدوير عجلة العملية الصناعية والإنتاجية، إذا ما تلقت أجهزتُهم وأعضاؤُهم دعمًا وتشجيعًا وتسهيلاتٍ من الحكومة ومؤسساتها. فالقطاع الخاص يبقى أداة فعالة في خلق تنمية اقتصادية شاملة، جنبًا إلى جنب مع مؤسسات الدولة المتعثرة في المرحلة الراهنة، من خلال زج طاقات أعضائه في عملية البناء والتنمية وتنفيذ المشاريع وفتح آفاق العملية الاستثمارية على مصاريعها. فحيثُ يسود الشك بالشريك ويفقد الأمان في السوق وتغيب الثقة بالدولة، حكومةً ومؤسساتٍ ضعيفة، تختلّ العلاقة أيضًا بين أصحاب رؤوس الأموال وأرباب العمل، ما يدفعهم لغضّ الطرف عن عملية التقدم والتنمية التي يحتاجُها البلد بسبب غياب هذه العناصر والعوامل التي على أساسها يصير العمل.
وأخيرًا، على الدولة العراقية أن تعي أنَّ هناك رغبة كبيرة واستعدادًا دائمًا من هذا القطاع، للمساهمة بقوة في إعادة الاعمار ودعم مشاريعها، وصولاً لبلوغ مرحلة متطورة من الأداء والشراكة الحقيقية بين الطرفين. ومن شأن هذه الشراكة فقط، أن تنقل البلاد من وضعها الاقتصادي المثقل إلى برّ الأمان، بإخراج الطارئين على العملية الاقتصادية والمالية والصناعية. كما أنَّ السماح للكفاءات وأصحاب الاستراتيجيات والخبرات بقيادة العملية الاقتصادية وسوق المال، سيعني الكثير ويغيّر الصورة النمطية الفاشلة التي مازالت تقود العملية الاقتصادية والمالية والنقدية طيلة السنوات المنصرمة ما بعد الغزو الأمريكي. وقد آن الأوان، أن تقبل الدولة بمشروع العمل الذي تقدمت به نخب الكفاءات الاقتصادية مؤخرًا، والهادف لتعشيق النشاط الاقتصاديّ الاستشاري لهذه النخب مع نظيراتها ممّا تبقّى منها في الحكومة. فأحد المقترحات يسعى الى مشاركة نقابات ومؤسسات مهنية ومنظمات مجتمع مدني وجهات مهتمّة في مجال المال والأعمال والاقتصاد من أجل إعطاء فريق الكفاءات هذا زخما إضافيا تنعكس صورتُه إيجابيًا على رؤية المواطن في الداخل وتعطي جهاتٍ دولية مؤشرات إيجابية للبلد. وليكن هذا جزءًا من الاصلاحات الحكومية، وبشيْ من الجدّية هذه المرّة.
فعلى عاتق أصحاب الخبرات والكفاءات، تقع اليوم مسؤولية نقل خبرة اقتصادات العالم على الواقع العراقي. فهو يمتلك من المقوّمات ومن المرونة والواقعية في العمل في الاقتصاد والتجارة والمال، ما يمكنه من مواجهة التحديات والتعقيدات والصعوبات وتقديم الحلول الناجعة بفضل هذه الخبرات. فالقطاع الخاص باختصار، يمتلك اليوم واحدًا من مفاتيح الحل للأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها العراق حاليا.