الرجل الخيّر الذي تعرفت عليه / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, يوليو 15, 2012, 05:55:57 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

الرجل الخيّر الذي تعرفت عليه






   

شمعون كوسا





برطلي . نت / بريد الموقع 

قبل ما يزيد عن عشرين عاما ، كان هناك رجل يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية في بقعة من بقاع الشمال . كانت السنة الدراسية في اشهرها الاولى عندما اضطر معلم التربية الاسلامية لترك تلك المدرسة لظروف خاصة . أمام قلق الطلاب الذين كانوا مقبلين على خوض الامتحان الوزاري في تلك السنة ، وإزاء حيرة ذويهم وزياراتهم المتكررة   ونظراتهم التي كانت تدعو الى الشفقة ، انتفضت طيبة المدير وفاضت في كافة جوانحه ولم تدع له مجال التردد والتفكير ،  فقرر حالا تولي الامر، وشرع ، المدير المسيحي ، بإلقاء دروس التربية الاسلامية على طلاب البكلوريا . يُقال بان الطلاب في تلك السنة خرجوا بنتيجة لم يسبق لاحد من معلمي التربية الاسلامية وان احرزها قبل ذلك .

حديثي سيتناول هذا الشخص بلحمه ودمه وعويناته ، ومن اجل قصتي ، ساطلق عليه اسم (صاحبنا).
تعرفتُ على صاحبنا قبل اكثر من عشر سنوات ، والحقّ يقال إنه لم يُثِر اهتمامي كثيرا في البداية ولكني بعد ان عاشرته وسمعت الكثير عن استعداده الدائم لتقديم خدماته لِمَن حوله من الاصدقاء والمعارف وحتى الأغراب ، تيقنت باني امام شخص يمكن نعته ابتداءً بالرجل الخيّر .

لقد لجأ اليه البعض لتصليح سياراتهم ، والبعض الاخر لـتاسيساتهم الكهربائية ، والبعض لاعمال معمارية داخل منازلهم  ، والبعض الاخر لاعطاب في شبكة انابيبهم وغيرها من الخدمات ، وكان ردّ صاحبنا يأتي دوما كالتالي : انتظرني سارافقك حالا ، او ساوافيك حال انتهائي من حاجة فلان . والكل يقصده بحاجته دون انتظام ، حتى اذا كان ذلك في ساعات متأخرة من النهار .
استعداده الدائمي بابتسامة لا تفارق شفاهه ، قادني الى التقرب اليه اكثر ، غير اني لم احتج كثيرا لسبر غوره كي اكتشف داخل نفسه مجموعة خصائل ، صفات قلّما نجدها لدى مستأجري هذه الحياة من الجيل الحالي ، حيث قد انصرف كل واحد وراء مصلحته الشخصية ، وتكالب الكثيرون على المادة  معتقدين ان كل وسيلة صالحة لبلوغ الهدف ، فالكذب والنفاق اكتسبا اللون الاخضر ، والغدر والاعتداء غدا عملة رائجة ، والانانية والحقد والحسد والانتفام وغيرها من الرذائل اللطيفة أدرجت نفسَها ضمن عُدَدِ العمل المنصوح بها .

دأبَ صاحبنا على معايشة كل من البساطة والتواضع ، وجَمَعَ بين المحبة والحلم  ونكران الكثير من ذاته في خدمة الغير . فبالاضافة الى الخدمات التي ذكرتُها والتي  كان يقدمها مجانا للقريب والبعيد ، فانه كان مولعا باسعاف المرضى . لقد رأيته شخصيا يهرع لتسجيل اسمه على قائمة المتطوعين لدفع عربات المرضى في مزار يتقاطر عليه المرضى من كافة انحاء العالم ، كان قد اختار خدمة شاقة في دفع عجلات تتسلق جبلا لمتابعة خمسَ عشرةَ مرحلةً من طريق الآلام .

إن صاحبنا أهلُ للقيام بمهمات صعبة ولكنه لا يأنف من القيام بالاعمال الصغيرة والمتواضعة ، فتراه سبّاقا في حمل الحقائب أو ترتيب المقاعد أو تنظيف قاعة بعد انتهاء الحفلة ، وأينما وجد حاجة عرض نفسه وخدماته ، حتى الحائرين من بين اللاجئين الجدد يستنجدون به لكتابة قصتهم ويستشيرونه في كثير من الامور .
في المجتمع الذي يتواجد فيه ، يحرص على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجميع ، ويصغي للجميع دون استثناء مهما كانت اقوالهم ، غير انه لا يتأثر بها ، وفي بعض الاحيان ، عند خلوّ الجو ، يغربل قسما كبيرا ممّا سمعه . ومن صفاته الاخرى الذكاء وطيبة العشرة مع بعض الميل لهزل خفيف .

لا يجب ان انسى ذكر ما حباه الله من موهبة في كتابة الخط العربي ، فانه ينافس الطابعة في الكتابة . اريد ان اشير هنا الى قصة كان قد رواها لي مرة في زمن كان يعمل في قلم احدى الوحدات العسكرية ، صادف وان احتاج احد الضباط الى استمارة خاصة كانت قد نفذت من الوحدة ويصعب الحصول عليها . وعد صاحبُنا الضابطَ ببذل اقصى جهوده للحصول على استمارة . ذهب الى البيت واخرج استمارة قديمة مستعملة كان يحتفظ بها ، نقل فقرات الاستمارة بخط يده ، وفي اليوم التالي سلمها الى الضابط الذي شكره كثيرا  ولم يشك للحظة واحدة بانها نِتاج يد صاحبنا !!

وفي فصل آخر ، ذكر لي احد اصدقائه بانه كان قد باع دارا في الشمال قبل خروجه من العراق لقاء مبلغ زهيد  ولم يتمكن من نقل ملكيتها . بعد بضع سنوات ، وفي زيارة له للمنطقة توجه الى بيته فرآه مشغولا من قبل شخص آخر . بعد أخذ وردّ  افتهم بان الساكن الحالي قد اشترى الدار من شخص آخر كان قد احتلها عنوة في زمن كانت المنطقة تؤمن بتطبيق شريعة الغاب .  بعد إلقاء التحية وتقديم صاحبنا نفسَه كمالك الدار الاصلي ، ترجّاه المشتري وتوسل اليه من اجل ان يسجل الدار باسمه لقاء عشرات الالوف من الدولارات ،  رفض صاحبنا عرضه رفضا قاطعا لانه كان قد باعها لشخص يعرفه غير انه مجهول الاقامة . لقد كان قد باعها له في حينه بالف وخمسمائه دولار فقط ، ولم يكن يوما من شيمه نكث العهد والاخلال بالوعود ، مهما كان الاغراء.
ولكي لا اطيل المقال ، انتهي بحادثة طريفة رواها لي بنفسه في احدى لقاءاتنا. قال لي بانه كان يستخدم دراجة بخارية للذهاب الى مدرسته . في نطاق حرصه الشديد على الدوام ، أفاق يوما ووجد بان ساعته تشير الى السادسة والنصف صباحا. فقام كالمجنون ونادى جاراً له كان يذهب معه على الدراجة للعمل في نفس المنطقة . نهض الصديق من نومه وقال : ماذا جرى ، لماذا ناديتني وانا لا زلت في الساعات الاولى من نومي ، اجابه صاحبنا : إرتدِ ثيابك بسرعة لاننا قد تأخرنا ، فالساعة تشير الى السادسة والنصف . إنقاد رفيقه للنداء وكذّب نفسة دون قناعة . عند وصولهما بعد ساعة من الزمن ، لم يلمحا اي خط من خطوط الفجر بالرغم من صفاء الجو . أمعن صاحبنا النظر في ساعته فوجد بانه كان قد لبس ساعته معكوسة ، فالساعة كانت فعلا الثانية والنصف ليلا وليس السادسة والنصف  كما رآها صاحبنا .

انتهيتُ من قصتي . إنه حديث مختلف عن سياق كتاباتي ، خصصته لشخص طيّب تجنبت ذكر اسمه لكي لا اخدش تواضعه ، أردتُ ان اكرمه بهذا المقال لاني اعتبره نموذجا بسيطا لنفسي أولا ، وأملي أن يجني ، من شاء من بين القراء ، فائدةً من بعض جوانب سيرته . فكلماتي الاخيرة لهذا الرجل تتمثل بدعاء رغبت ان يكون بالكلمات التالية : أدامه الله سعيدا  كي يعيش بهناء .







Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

شمعة واحدة تزيح الظلام كله ..
ولو خليت قلبت ..
شكرا لك على المقال .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة