تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

الفراشة البيضاء / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, يوليو 02, 2012, 11:23:20 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

الفراشة البيضاء






   

شمعون كوسا





نقرأ في عالم الفكاهات عن شخص كان يسأم كلّ  شئ ، فاذا جلس ساكنا تبرّم ، واذا تناول عملا اصابه الضجر ، واذا ابتدأ بقراءة كتاب انزعج ، واذا حاول الكتابة تضايق وحتى اذا بدأ لعبة انقبضت نفسه ، فقرر ان يضع حدّا لحالته هذه فقال لماذا لا أقصّ على نفسي طرفة اتسلى بها ، فبدأ يقول : في احد الايام كان هناك رجل .. وتوقف عن الكلام متأففاً وقال : لقد سمعتُها !!!!

خشية أن أبلغ هذه الدرجة المتقدمة من حالة عدم الاستقرار التي تحوم حواليّ كلما دنوت من فترة الاعداد لمقال جديد ، خرجت لأعود شخصا عزيزا كانت قد ربطتني به علاقة متينة يمكن تسميتها بالصداقة ، علاقة جمعتنا في المشاعر والمبادئ ، لان صديقي كان شخصا فاضلا ورقيق الشعور . في طريقي الى منزله ، أقفلت أبواب عالمي الداخلي لكي أتفرغ بأنظاري الى تصوير العالم الخارجي ، فكنت اتطلع الى كل ما تقع عليه عيناي  ، إلى أن قادني التصوير الى فراشة ناصعة البياض كانت ترفرف امامي ببطئ وغنج ، بدت لي وكأنها مكلفة بتنفيذ عرض بسيط من رقص هادئ . كانت الفراشة تتقدمني لمسافة صغيرة وتتوقف . ثم تعود لتحريك اجنحتها امامي وتحطّ من جديد ، وعندما تقينت في احدى المرات بانها انهت مهمتها ، ظهرتْ من جديد في عرض لم ينقطع ، واستمرت معي على هذا المنوال الى ان بلغتُ نهاية مشواري وطرقت باب صديقي .

أثناء متابعتي لحركاتها بشغف كبير تذكرت بعض أقاويل الاوّلين الذين كانوا يتوسمون خيرا او يتشاءمون لرؤية الحيوان الفلاني أو للظاهرة الفلانية ، ومن ضمن ما كانوا يقولونه إنهم كانوا يتفاءلون خيرا برؤية الفراشة البيضاء .  وفراشتي أنا كانت تبدو وكأنها تحمل على اجنحتها ثلجا حديث الولادة . بعد ان دخلت منزل صديقي سردت له قصة الفراشة وتناوبَها على مرافقتي أوحراستي  لمدة نصف ساعة كاملة ، وطلبت منه اذا كان هذا يعني له شيئا او يجد له تفسيرا خاصا . أطرق صديقي برأسه ولم يجب لانه يكن يؤمن بالاقاويل والخرافات ، وأنه في وضعه الحالي ومنذ ان بلّغه الطبيب قبل شهر بانه مصاب بداء غدّار ، لم يعد يؤمن بشئ . كان المرض قد نخر جسمه واحرق مراحل متقدمة منه ، وكأنه في سباق يقضي بألاّ يُبقيَ من عمر فريسته اكثر من شهرين .

لم يعد صديقي يبتسم كالسابق . كنت احاول شحذ همتّه وأدعوه الى عدم اليأس بذكر حالات كان للهمّة والشجاعة الدور الرئيسي في التغلب على المرض ، واحاول أيضا إلهاءَه بقصص تدعو للتفاؤل ، وأقوم بتحويل انتباهه عن حالته عبر روايات مختلفة بعيدة عن عالم الامراض والالام ، فكان يبذل جهدا في مجاملتي برسم خطوط سريعة على وجهه ، يمحوها قبل أن أقرأ ابتسامتها ،  وكنت أخاله يردد في قرارة نفسه المثل القائل : يصعب على يدٍ داخل الماء أن تحس بما تعانيه يدُ في النار .

بعد عودتي للبيت علمت بان ابني اجتاز امتحانا صعبا في الجامعة ، فقلت هل للفراشة دور في هذا النبأ ، فلم يتلقّ التساؤل تجاوبا ، وفي المساء بلغني بان اخي قد حصل على وظيفة كان يسعى وراءها منذ زمن بعيد ، فتوجهت الى الفراشة لأرى هل هذه كانت رسالتها ، فرأيتها تطير بعيدا غير آبهة بالموضوع .

خلدت للنوم ومشهد الفراشة المرفرفة البيضاء لا يفارق خيالي . في الصباح عند الظهيرة ، بينما كنت أهمّ بترك المكتب باتجاه مائدة الطعام ، رنّ الجرس طويلا وعقبته رنّة ثانية وثالثة . اندهشت فعلا لأن الجرس لم يخضع ابدا لمثل هذا الالحاح ، فناديت من مكاني وبأعلى صوتي ، كما يفعل الممثلون في الافلام المصرية : ماذا جرى لكم ؟ كفاكم إلحاحا ، ها انا قادم . فتحتُ الباب والغضب لم يكن قد محا كافة خطوطه من وجهي ، وإذا بيّ أرى صديقي يُداهِمُ البيت ويلقي بنفسه عليّ ، ويحضنني بقوة ، ويقبّلني  بوجه تتفجر اساريره فرحا . لم اجد الوقت لأسأله عن الموضوع ، ولكن دهشتي الشديدة صوّرت لي افتراضات عديدة وأقلّها أن تكون قد تطوّرت حالة صديقي النفسية وأدّت به الى الهستيريا والهذيان ، او أن يكون المرض  قد تلقّى ارشادات بالاسراع ، مِمّا افقد المريض بعض طبقات عقله ؟
لم ينتظر صديقي ان أسأله عمّا يجري وقال لي : إفرح معي يا صديقي العزيز وتهلّل لان فراشتك البيضاء التي رافقك البارحة لحدّ الباب قد جاءت باعظم بشارة . قلت له ماذا جرى ، هل اجترحت الفراشة اعجوبة برّأتك من مرضك ؟ جلس صديقي وبدأ يقصّ لي ما جرى له صبيحة هذا اليوم .

كان قد استدعاه الطبيب بصورة عاجلة لامر هامّ ، فتوجّه بسرعة البرق الى عيادته ، وعند وصوله هناك دعاه الطبيب للجلوس وبدأ يطيل النظر اليه . كان الطبيب غارقا في تقليب ملفّ يتصفحه ويغلقه ، ويعيد فتحه ويقلبه . بعد خمس دقائق من جلوسه سأله الطبيب عن اسمه الكامل مع ذكر اسم جده ، وطلب منه أيضا كتابة تاريخ ميلاده بوضوح وبالضبط . عند الحصول على هذه المعلومات ، لم يتفوه الطبيب بكلمة واحدة وأمضى فترة صمت أخرى . كسر الطبيب طوق الصمت عندما قام متجها نحو صديقي وقبّله عدة مرات معتذرا منه كثيرا ومعلنا اسفه الشديد للخطا الذي طرأ في تشخيص حالته . فالمقصود بالتشخيص كان شخصا آخر يحمل نفس تاريخ الميلاد ونفس الاسم باستثناء اسم الجدّ . قال له  : من حقك ان تلومنا  وتلاحق المسؤولين واهمالهم في تدقيق الفحوصات . غير ان صديقي كانت فرحته قد غمرته غير تاركة له المجال لاي رغبة في الانتقام او المحاسبة .

كان يروي لي صديقي حديث الطبيب ، ويصف لي اللقاء بادق تفاصيله بما فيه صمته الذي يحمل الكثير من الندم ، كان يقوم بهذا الوصف وهو يبكي من كثرة سعادته ،  وبعدها قال لي :  إفرح معي ياصديقي لقد تكلمت فراشتك البيضاء ، لقد عدتُ الى الحياة بعد أن كان المرض قدهيّأ اوراقي كاملة وكاد يقودني كي أحني هامتي امام المقصلة واتركَ حياةً لم أكن الا في عقدها الثالث . لقد وُلِدت من جديد ، وتم الافراج عني بقرار سلبيّ لولاه كنت امضي حياتي وراء القضبان .

هل كان للفراشة دور في هذه الخاتمة السعيدة ؟ هل عرفتِ الفراشة باني كنت قاصداً صديقا عزيزاً جدا ، أو أدّت دورا كان يجب ان افسّره كما فعله الاجداد ؟

يا لعظمة الانسان ويا لضعفه ، كذبة تقتله وتكذيب يُحييه . بالرغم من سعة عقله وقوة إبداعه يقع ضحية اكاذيب واوهام ، وفي سعيه وراء حقيقة يعجز عن بلوغها ،  وإزاء الحواجز التي تحول دون تحقيق الآمال ، يُقنع نفسه باللجوء الى ظواهر الطبيعة ، أو رموز ، أو علامات خاصة ، فيصادف فراشة يجد فيها بشارة قد تتحقق ،  أو يصغي بانتباه شديد الى كلام جميل تنقله له قارئة الفنجان حتى اذا كان جُلّه كذبا .






ورد الينا عبر بريد الموقع

Matty AL Mache

ماهر سعيد متي

مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة