قصة مواطن يتقدم بشكوى ضد الدولة/ شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, نوفمبر 20, 2015, 08:44:58 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

قصة مواطن يتقدم بشكوى ضد الدولة   



برطلي . نت / بريد الموقع

شمعون كوسا


كان الشرطيان جالسَين لاستقبال المراجعين في المديرية، أحدهما منشغل بحلّ الكلمات المتقاطعة،  والثاني يلهو بهاتفه النقّال. وبينما كانا غاطسين بلهوهما ، دخل عليهما شخص  في الستين من عمره ، رجل قصير القامة  تبدو على محيّاه علامات توتر شديد ، وعيناه محاطتان  بهالة سوداء تجعله يبدو كالناجي من ليلة ليلاء لم ينجلِ صبحها تلقائياً . تقدّم صاحبنا نحو الشرطي الاول ، واخرج من جعبته ملفا منتفخا وقعت بعض اوراقه بحثا عن هواء يعيد اليها   انفاسها. رفع الشرطي عينيه قليلا ، ودون ان يسأله عن طلبه ، أشّر عليه الاتجاه نحو الممرّ المؤدّي الى صالة الانتظار  رقم 15 . لم يتحرك  صاحب الملفّ من مكانه وقال بصوت عالٍ : لقد قصدتكم هنا لموضوع هام وعاجل ، ألا تريد سماعي قبل دعوتي للانتظار؟ اجابه الشرطي منزعجا : الا تستطيع العودة بعد قليل ، لأني لم أنهِ بعدُ ما بدأته من كلمات متقاطعة !! 
عند سماع هذا الكلام، دفعت الفضولية الشرطيَ الثاني ، صاحب الهاتف النقال ، فنظر الى المراجع داعيا إياه للكلام . فابتدأ صاحبنا دون مقدمات قائلا  : (أنا قادم هنا لتقديم شكوى ضد الدولة) .  لدى سماع هذا التصريح ، نظر الشرطيان الى بعضهما بدهشة  وانفجرا ضحكا . قال لهما المراجع غاضباً : أود ان اعلمكما باني مواطن ولست ممثلا هزليا ، وأبرز بطاقته الشخصية واضاف : انا مهندس في مجال البتروكيماويات واعمل استاذا في الجامعة .
قال له الشرطي : يا ايها الاستاذ العالِم ، لماذا تبحث عن متاعب ؟ كيف تتجرّأ بالتفكير أصلا بهذا الكلام ، الا تعلم بانه من غير الممكن مقاضاة الدولة ؟
كان الحوار المقتضب هذا مسموعا من غرفة قريبة، فخرج صوت من الداخل ينادي قائلا: ماذا يجري ؟ لدى سماع صوت الضابط المفتش ، همّ الشرطيان بإخفاء ادوات لهوهما وأجابا : سيدي المفتش ، هذا المراجع يرغب في تقديم شكوىً ضد الدولة .  خرج المفتش من غرفته وصافح الزائر وقال له : هناك مركز شرطة في مدينتكم ، لماذا قدِمتَ الى العاصمة ؟ أجابه الاستاذ الجامعي : لقد مللتُ المراجعاتِ ، والانتقالَ من دائرة الى اخرى ، ومن قسم الى آخر وسماع مسؤول يحوّلني الى آخر . لقد تعبت من الصعود والنزول دون جدوى ، وسئمت الانتظار لساعات طوال في غرف اعتاد عليها الناس بالرغم من روائحها الغريبة . لقد انتظرت ساعات وانصاف ايام ، وفي اكثر الاحيان ، كان يأتيني الساعي كي يقول : ان المدير مشغول ، او قد خرج في مهمة . كنت أعلم علم اليقين بأنه يكذب ولكني كنت اعرف أيضا بان الاحتجاج لن يجدي نفعاً .
قصتي يرويها لكم بصورة مفصّلة هذا الملف الذي ، هو بدوره ، ملّ من ازدياد حجمه .  كلّ هذا جعلني ان أختار الاتجاه مباشرة الى الله عوضا عن اللجوء الى قديسيه !! تركت كافة المراكز والمديريات واتيت الى مركز العاصمة . 
بيد مرتعشة اخرج صاحبنا بعض الاوراق المهمة وتابع قوله : لقد وقعتُ ضحية  ضحية نظام فاسد .  ففي سنة 1977 ، حصلتُ على قطعة ارض من البلدية ،  مساحتها 150 مترا مربعا  ، وهذا المستند يثبت كلامي ، فهو يحمل كافة التواقيع اللازمة  . قمت بتسديد قيمة القطعة كاملا مع الرسوم المترتبة على تسجيلها ، وهذه هي الايصالات.
بعد مرور سنة ، ذهبتُ لتفقّد احوال القطعة ، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت بأنها مبنية من قبل شخص آخر . قلتُ للساكن الغريب إن هذه القطعة لي وابرزت له الامر الذي بموجبه تم تمليكي إياها ، هو بدوره اخرج لي سند ملكية الارض مع اجازة البناء وكل التراخيص الاخرى ، وكانت فعلا كلها اصولية وقانونية . منذ تلك الحظة ابتدأتْ معاناتي . راجعتُ البلدية التي كانت قد خصصت لي تلك الارض ، قال لي احد المسؤولين  بان ما حدث مجرّد سهو ، غير انه ليس بوسع البلدية طرد المالك الجديد ، ولأجله سيتمّ تخصيص قطعة جديدة لي ، قالها لي بابتسامة عريضة بلغت حدّ اذنيه ، وكأنّه يهنّئني بموضوع بسيط  شبه محلول .
كان ذلك قبل ثلاث سنوات ،  كنت انتقل يوميا من البلدية الى الوزارة ، ومن الوزارة الى البلدية ، لقد وعدوني بالقطعة وتناسوا الوعد . التجأت الى المحاكم ، غير ان القضاة كانت عيونهم مركزة على جيوبي أكثر منها على  حقي الموعود السليب. لا الرسائل التي ارسلتها بالبريد المسجل ، ولا صلواتي في بيوت الله ، لم تصل الى الجهات الموجّهة اليها . اصبح المحافظ لا يطيق رؤيتي ويصرّح بالحرف الواحد أن رؤيتي تزعجه ، وعندما كنت اراجع مراكز الشرطة ، كان مسؤولو الاستقبال يتطيرون مني شرّا ، ويستعيذون بالله وكأنهم في حضرة شيطان رجيم .
كتبت الى الوزير اكثر من عشرين مرة ، كان قد قرأ  الرسالة الاولي التي لم ترق له،  وبعدها كان قد أعطي تعليماته كي تُحال رسائلي المتتالية مباشرة الى الجهة المعنية التي لم تكن غير سلة المهملات .  وانا في حالتي النفسية هذه ، وقعتُ فريسة امراض مزمنة . وبالفعل وجدت بعض الامراض الفرصةَ مناسِبةً لفتح مكاتب او فروع لها   في شراييني لترفع ضغطي ، واخرى استقرت بالجوار من قلبي كي تشوّش على  نبضاته ،  واخرى استقرت في معدتي لتزيد من عسر هضم كنت اشكو منه . شرعتُ بتناول المهدئات وأدمنت عليها ،  هجرتني زوجتي منذ اكثر من سنة . وها اني اعلن اليوم بان  زيارتي هذه ستكون الاخيرة  ، فاذا لم ينصفني المسؤولون والحكّام  ومعهم الدهر ، لا اعرف ماذا سأفعل.
عند سماع الحديث هذا ، أوعز المفتش الى أحد الشرطيين تدوين  الافادة كما اتت بكل تفاصيلها  ، وحسب  الاصول ، ووعد المهندس البتروكيماوي خيرا ، وانصرف .
يقال بان صاحبنا انتظر طويلا. كانت آخر مراسلاته لمركز شرطة المدينة ثلاث سنوات قبل موته . حصلت الموافقة لمنحه قطعته بعد اربع سنوات .     
بهدف إتمام القصة ، التجأتُ الى بعض الخيال وتوصلت الى ما يلي  :  تمّ تكليف احد عناصر الشرطة  بتبليغ الخبر الى المتوفى وهو في القبر . بعد ان انتهى  الشرطي من تلاوة النبأ السار على نزيل القبر ، قفز الى الوراء هلعاً  لانه  لم يكن يتوقع ان يتكلم   القبر ويقول : ارجوكم دعوني وشأني ،  لقد عثرت على قطعة الارض التي تأويني ،  هي تسعني  وانا مرتاح منها  . أنا أخشى ، اذا قمت لاستلام القطعة ، ألاّ أُفاجَأ بشخص جديد قد سبقني وأن بناها وسكنها  !!! 
لقد استلهمتُ فكرة هذه القصة من رواية اسمها : ماذا تنتظر القرود ، لكاتب فرنسي جزائري. استلهمت الفكرة وفصّلت الزيّ والالوان على مزاجي وطريقتي الخاصة . وجدت المشهد نموذجا حيّا للفساد المتنوع الذي استشرى في بلداننا واصبح ممارسة عادية . بلادنا التي ، في بعض الاحيان ، إرضاءً للأعلام وتمويهاً للحقيقة ،  تقوم بحملات صُورية لمكافحة الفساد ، حملات يختفي ذكرها حال بلوغها مراتبَ وأشخاصاً  لا سبيل لإزعاجهم أوالمساس بهم !!!