تحرير الأخبار:

تم تثبيت المنتدى بنجاح!

Main Menu

يا جارة الوادي / شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أغسطس 17, 2013, 08:24:56 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

يا جارة الوادي






قادتنا الحافلة نحو وادٍ سحيق يحتضن بحيرةً جذابة ، موضعاً يؤمّه الناس لجمال بيئته. كان ذلك في صبيحة احد ايام الصيف التي تعهت الأرصاد بابقاء الجوّ نقيا بسماء صافية . كنت مع جمع من الاصدقاء والمعارف . كان الوادي يوفر في ذلك النهار كل ما تمناه الشاعر في حينه من ماء وخضراء ووجوه حسنة .. . رأيت صخرة بارزة  غير بعيدة ، فاتجهت نحوها وجلست . وكالعادة التي تدعوني للهرب نحو الاعالي ،  لم احتج هذه المرّة لارفع رأسي لان السماء الزرقاء كانت قد انعكست وحطّت في البحيرة الصافية بكامل بهائها .  بعد ان فرغت من  تمشيط منطقة الوادي ، قلت في نفسي : هل يمكنني ان اجاور الوادي دون ان اتذكر جارة الوادي التي ناداها العملاقان عبدالوهاب وفيروز في اروع لحن واجمل كلمات وباصوات لم تبارح القمّة يوما.
لم تغِب هذه الاغنية يوما عن بالي ولم ابتعد عنها ، أغنية احببتُها منذ صباي ، واطربتي في شبابي وذهبت بي حدّ الهوس بحيث غنيتها في اماكن محظورة عليّ ، وفي عقودي المتقدمة الحالية ، لا زالت تخلق داخل نفسي ذات الاحساس بالسعادة . رنّت الاغية من جديد في آذاني ، فتمتمت بعض كلماتها ودندنت بيتها الاول ، ولكني لم اتمالك نفسي فالصوت انطلق عاليا وبصورة تلقائية . وبما ان هذه الرائعة لا يمكنها  ان تدع سامعيها صامتين ، بدأ الجميع بمرافقتي في بعض ابياتها تاركين لي معالجة  منعطفاتها الصعبة . كان الكلّ يغني بحماس وباندماج ، وعند آخر كلمتها ، انطلق الجميع في تصفيق حار . 
بعد برهة صمت ناداني احد الاخوة قائلا : لماذا هبطتَ بنا يا اخي بعدما كنّا نرفرف معك عاليا بعيدا عن الدنيا ؟ لماذا نزلت سريعا وعُدتَ بنا الى الارض وسط مشاغلنا وهمومنا وهواجسنا ؟ هذا الكلام عن هموم الحياة اثار فضولي في تنفيذ فكرة كانت تراودني منذ فترة ، وهي  اجراء مقابلات سريعة مع بعض الناس لاجعلهم يصارحوني بما يخطر ببالهم وبما حمّلهم الدهر من معاناة وغبن ومضايقات ومتناقضات أو صدمات .
فاتحتُ بالفكرة أقربَ شخص إليّ ، فرأيته يوافق بحماس وكأنه كان يترقب فرصة لأطلاق مكبوتاته . تكلم عن موضوع قديم يدعو لحيرةٍ وأسفٍ شديدين ،  فبدأ قائلا : يا سيدي لقد احتلت الانانية والمصلحة الخاصة المكانَ الاول لدى الكثير من الناس بما فيهم الاهل والمقرّبين . ارجوك اصغ إليّ : تسهيلا لاجراءاتٍ تتعلق بتوزيع التركة ، اضطررت لتنظيم كفالة عامة باسم احد اخوتي . كنت اقطن بعيدا ، فقمت بالتوقيع بثقة واطمئنان على كافة الاوراق اللازمة . لم تمرّ سوى ايام معدودة عندما سمعت بان الاخ الوكيل ، وبتحريض من بعض افراد العائلة ، أقدم على تسجيل دار والدي باسمه الشخصي . انها صدمة اعيشها منذ سنوات . الدارُ مستثمرة منذ ذلك التاريخ وقد اكتسبت الان قيمة خيالية  ، اليس هذا غبنا او بالاحرى ظلماً ؟
شجّعَ هذا الحديث شخصا غير بعيد ،  وقال : كنت قد اقرضت مبلغ مال مهم لاحد الاصدقاء ، والعلاقة الوثيقة التي كانت تربطنا منعتني من مطالبته بوصل امانة.  مضت الشهور والسنوات. فاحتجت فعلا الى المال . فاتحتُ صديقي بالموضوع بكل لطف ، غير انه انكر عليّ الدَّين باكمله وقال : انك لا تملك ايّ دليل على ما تقول ، انا لست مدينا لك ، وافعل ما يحلو لك .
وفي نفس السياق ، قال لي شخص آخر : انا لم اعد أومن بالصداقة بعد النهاية التي عشتها . هل تتخيّل بان صداقة وثيقة طويلة تبدأ بالفتور ، ثمّ تتعرض للبرد ، فتنجمد وتتحول الى عداوة ؟ لقد اكتشفتُ بعد فوات الاوان بانها كانت علاقة مبنية على المصلحة ، وفي حالات كهذه ، للطرف الاناني استعداد للتخلي عن كافة التزاماته  لانه قد رأى مصلحته في مكان آخر .
وقام شخص آخر  وقال : تألمت كثيرا لرؤية بعضاً من اصحابي لا يشاركوني الفرحة بتفوق اولادي في الدراسة . تألمت عندما تيقنت بانهم يمتلأون حزنا  لدى سماعهم بنجاحهم السريع . تحوّل ألمي الى صدمة عندما علمت بعد ذلك بانهم ينسّقون اوقاتهم في ابتهالات حارة يوجهونها الى قوّة الشرّ التي يعبدونها كي تكتب لهم الفشل . لا افهم   كيف يبلغ اناس ناضجون هذا الحدّ من الحقد والغيرة الدنيئة .
وانتقلت الى شخص آخر،  قال : لقد قمتُ بمساعدة أناس مقرّبين لي ، حيث كنت اغدق عليهم المال دون حساب  وكان ذلك فعلا من دواعي سروري لاني كنت متمكنا من ذلك . دارت الايام وتغيرت الظروف فاصبح من كنت اساعدهم ميسوري الحال يحتكمون على اموال طائلة . كم كان بودّي أن يسألوا عن احوالي أويعرضوا علي فقط مساعدة كنت حتما سارفضها بإباء ، حتى لو كنت بحاجة اليها .
وقال شخص آخر : اصبت مؤخرا بعجز كلوي كاد يودي بحياتي ، لاني كنت اخضع لعملية غسيل  ، ثلاث مرات في الاسبوع  . قادتني حالتي الى اوقات كانت تعصف داخلي رياح سوداء تقود يأسي الى خطوط حمراء . . طيلة هذه الفترة لم يتصل بي احد من الاقارب ، ولم يقل لي احدهم ، ولو مجاملة أو كذباً بانه مستعد لانقاذ حياتي باحدى كليتيه . هؤلاء ، حالما سماعهم بحصولي على كلية وبعدما تركت المستشفى ، هبّوا لزيارتي وامضوا عندي اياما طويلة ضيوفا ثقلاء . 
وانتقلت الى شخص بجانبه ، فقال : أنا أتألم لمعاشرة اناس قصيري الذاكرة ، اناس قمت لهم بخدمة مهمة لم اكن اتوقع ان ينسوها طيلة حياتهم ، غير انهم نسوها وانكروا الجميل ، بحيث انهم عندما يلتقوني يُلقون عليّ التحية كما يفعلون مع رجل غريب .
والشخص الذي يليه ، تناول امرا كان قد اثار استياءه  فقال : إن كاهن رعيتنا يُولي اهمية بالغة لزياراته . ففي اليوم الذي قرر زيارتنا ، بلّغنا مباشرة بالمشويات التي يفضلها في وجبة غدائه ، وعَلِمنا من بعض الاصدقاء بانه يتوقع دوما ان يُكرّم في نهاية زيارته بمبلغ مناسب من المال  . لكي أحفظ ماء وجهي امام الناس ، اضطررت لاستدانة مبلغ من المال كي اكون اهلا لاستقبال رجل الدين . امتزج اسفي مع ندمي عندما رأيت هذا الرجل الفاضل يغادر البيت دون كلمة شكر . قيل لي بعد ذلك بان هذا الزائر يعتبر قدومه الى البيت فضلا كبيرا !!
شخص آخر اراد التواصل بنفس موضوع رجال الدين ، فمنعته لان هذا الباب اذا انفتح من الصعب اغلاقه ، اوقفته لانه كان يريد الاسترسال فى موضوع رجل دين آخر يقوم ايضا بفرض نفسه على الناس ويمول سفراته وتنقلاته من جيوبهم بحجج اقامة القداديس او القاء المحاظرات .
عندما توقفتُ ، قام احد الحاضرين وقال : ولماذا تزعج نفسك ، الا يكفيك كل ما كتبت من مواضيع، وماذا جنيت انت ، وماذا جنى غيرك من ذلك ؟ كلّ ما أدلى به زملاؤنا هنا لا يمثل اكثر من رأس ابرة بين اطنان من الجشع والانانية. الجشع وحده كاف ليبيح ما لايباح ، أما اذا اقترن بالانانية فانه سيقضي على الأخُوّة والصداقة والثقة والمحبة ، وبكلمة واحدة يحوّل جميع الرذائل الى فضائل . الا تخشى ان يرى فيك الناس الاب الذي،  من كثرة تأنيب اولاده وضربهم ، يصبح هدفاً لسخريتم ، فيبتسمون له  ، وبعد هذا يقولون : كفّ عن الكلام الان ، سوف نسمعك فيما بعد !!
رجعت الى نفسي وقلت : ايمكنني ان ان اترك الخط الذي انتهجته ؟ انا لا اجيد تسويق بضاعة اخرى ، لاني اؤمن بأنّ كلمة الحق يجب ان تقال دوما وان الخط الاعوج يجب ان يشار اليه حتى اذا كان راسمُه ممّن يعتبرون انفسهم ذوي عصمة أوحصانة.
بعد ان اقنعتُ نفسي بهذه الخلاصة ، عدت من جديد الى جارةٍ كنت لقيتها عند الوادي ، وعدتُ الى احلامي بذكراها ، ومررت معها على الرياض  بفم مطبق قد تعطل كلامه ، ولم اتركها الا بعد ان رجوت الزمان أن يجمع شمله من جميع الجهات ، للاحتفال بيوم رضاها ، وكان هذا يوم رضاها.