يوميات من الربع الاخير في القرن الماضي / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, مايو 09, 2012, 10:40:11 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

يوميات من الربع الاخير في القرن الماضي





شمعون كوسا

لقد أمضيتُ حياتي المهنية في الترجمة . بدأت ذلك في شركة فرنسية بكركوك وانتقلت بعد ذلك الى بغداد للعمل في الملحقية التجارية لدى السفارة الفرنسية وانتهيت في الاردن لأعمل أيضا كمترجم في السفارة السويسرية في عمان .
لا اعرف ما الذي ذكّرني ببعض فقرات بسيطة من حياتي المهنية ، وما الذي أعاد الى اذهاني جملا بسيطة فيها ؟ انني اسردها هنا لاشتمال بعض منها على دلالات  . دعوني إذن أقوم بوضعِ االحديث في سياقاته.
تسلمتُ عملي كمترجم وانا خريج معهد كهنوتي تعلمتُ فيه لغة فرنسية سليمة ، غير انها كانت لغة عامة ، واذا تخصصتُ في بعض حالاتها فانها اقتصرت على مجال الفلسفة واللاهوت والكتاب المقدس .
بعد مدة قصيرة من تعييني في بغداد ، تمّ تبليغي في احد الايام بانه يجب عليّ ان أحلّ محلّ زميلي الأقدم للقيام بترجمة وقائع اجتماعات اللجنة المشتركة الفرنسية العراقية التي عقبت اتفاقية التعاون التجاري والاقتصادي والفني المبرمة بين فرنسا والعراق سنة 1974.
كان هذا اول ظهور لي كمترجم شبه فوري وفي محفل رسمي يناقش علاقات رسمية بين بلدين ، حيث لكلّ كلمة قيمتها ومعناها . كنت وجها لوجه مع مفردات اقتصادية وتجارية ومالية لم يسبق لي التعامل معها ، كالتسهيلات الائتمانية ، وخطابات الضمان،  والاعتمادات ، والكفالات المصرفية ، والقروض القصيرة والمتوسطة والطويلة الاجل ، والتحويل الخارجي ، والميزان التجاري ، والعجز والفائض ، والنمو الاقتصادي ، وخطط التنمية وغيرها .
لا أنوي هنا سرد مجريات المحادثات لان ما أصبو اليه هو الوصول الى كلمات قيلت فابرزت حالة العراق الاقتصادية في بداية السبعينات. كان يرأس الجانب العراقي شخص اسمه عدنان حسين الحمداني . انا شخصيا لم اكن اعرفه ، غير انه قيل لي بانه رئيس اللجنة العليا لمتابعة شؤون النفط والمشاريع الكبرى أو شئ مماثل . من الجدير بالذكر انه في تلك الفترة ، وبعد عملية تأميم النفط ، كان العراق في صدد تنفيذ خطة أطلق عليها اسم الخطة الانفجارية ، تسمية فرضتها الاموال الطائلة التي وفرها تأميم النفط ، فقام العراق بتنفيذ مشاريع مدنية عملاقة في  مجالات الحديد والصلب والالمنيوم ومعامل الاسمنت والمطارات والجسور والمجمعات السكنية وشبكات الطرق وغيرها .
عودةً لموضوعنا اقول ، كان يرغب الجانب الفرنسي بالترويج لطائرات الايرباص ، ولاجل ترغيب الجانب العراقي في تعزيز اسطوله الجوي بشراء هذه الطائرات ، كان يعرض عليه تسهيلات ائتمانية بمبالغ خيالية تصل الى عدة مئات ملايين من الفرنكات . قمتُ بترجمة رغبة الجانب الفرنسي الذي كان يرأسه وزير التجارة الخارجية . اكتفى رئيس الجانب العراقي بالرد بابتسامة خفيفة. أعاد الوزير الفرنسي عرضه مرتين وثلاث وفي كل مرة كان يرفع سقف التسهيلات ، فلم يكن امام المسؤول العراقي الا الردّ بابتسامة اعرض وعلى النحو التالي :
( قل لهم ، يا عمّي ، نحن لا نحتاج الى تسهيلات او قروض ، لدينا ما يزيد عن حاجتنا  وكافة مستورداتنا نسددها كاملا ودون تأجيل ).

الحدث الثاني يندرج ضمن ظروف العراق في نهاية الثمانينات ، حيث كانت الحرب قد انهكته بخساراته البشرية ووضعت اقتصاده بالحضيض ، فاصبح بحاجة ماسة الى القروض لتأمين ابسط احتياجاته من السلع الاستهلاكية العادية . كانت الدول تتجاوب مع حاجته هذه  معتمدة على الذهب الاسود المخزون تحت اقدامه .
اضطرّ العراق لعقد اتفاقيات قروض للدفع الاجل مع أغلب الدول ومن ضمنها فرنسا . كان من الطبيعي ان تتراكم الديون ، وفي هذا المجال كان يقضي المبدأ بتأجيل الرأسمال الاصلي مع عدم القبول بالتأخر عن تسديد الفوائد . كانت هذه العمليات تحتاج الى اجتماعات دورية تنعقد تباعا في أحد البلدين . قدِم الى العراق وفد فرنسي يترأسه السيد فيليب ريمون ، رئيس مؤسسة كوفاس لضمان الصادرات الفرنسية . أما الجانب العراقي المكلف بالتفاوض فكان يرأسه السيد عبد الرزاق الهاشمي الذي ، بعد ان تولى عدة مناصب وآخرها وزير التعليم العالي، تعين سفيرا للعراق في فرنسا . جرت المباحثات في مبني المجلس الوطني المجاور لحدائق الزوراء.
لم يكن هناك اختلاف على الجدولة أوإعادلة الجدولة ولا على فترات السماح التي كانت تمنح قبل البدء بتسديد القسط الاول ، ولكن الجدال المحتدم كان يدور حول سعر الفائدة ، حيث كان للعراق سقف لا يستطيع تجاوزه ، وبالمقابل كان مطلوبا من الجانب الفرنسي رفع هذا السقف.  بصورة عامة كانت مثل هذه الحالات تجد نهايتها السعيدة بعد اتصال كل من الطرفين بقيادة بلده ، فيُصار الى تقسيم التفاحة الى نصفين ، وكانت هذه الطريقة متبعة في حل اغلب الخلافات ، حتى التي كانت تنجم في المراحل النهائية من المشاريع الكبيرة . ولكن ليس هذا بيت القصيد.
كان الجدال محتدما بين الهاشمي والسيد ريمون الى حدّ انهما اصبحا يتكلمان في آن واحد ، وهذا لم يكن ليسهّل ابدا مهمة المترجم ، ولقد تلقيتُ فعلا لوم السفير العراقي لعدم قيامي بالترجمة بصورة كاملة ، فكان سكوتي وقيامي بفتح ذراعيّ جوابا شافيا له ، لاني لم اجد مجالا للدفاع عن نفسي .
بلغ النقاش أوَجَهُ وتوقف عندما التفت السيد ريمون فجأة الى زملائه وقال بغضب شديد باللغة الفرنسية ( إيل إيه كون  il est con ). هنا قام السفير ، وقبل ان يترك القاعة ويطرق الباب قال وعيونه تقدح نارا : يا سيد ريمون ، كان يجب ان تحترم نفسك ، فاذا كنت تعتقد باني لا استطيع اهانتك فانت على وهم ، ولكني سوف لن افعل ذلك  لانك ضيفنا. إنكمش اعضاء الوفد الفرنسي وكأنهم تلقوا سطل ماء بارد على رأسهم .  لم يكن يشك أحدهم بإلمام مفاوضهم العراقي باللغة الفرنسية .
بعد صمت دام طويلا ، شرع الوفد الفرنسي بشرح العبارة التي افلتت من فم السيد ريمون قائلاً بان العبارة فعلا غير لائقة لان المعنى الاولي لاحدى كلماتها معيب ، ولكنها في هذه الجملة وبحكم استخدامها قد فقدت معناها الاصلي ، وهي تقال في اوقات الغضب للتعبير عن التبرم والاستياء. تقدّم المستشار التجاري ، السيد خالد المخزومي ، مستوضحا منّي المعنى الصحيح للكلمة ، فأكدتُ له بان العبارة تستخدم الان مع شخص عنيد أو محدود ليس الا . بعد ساعة من الاخذ والرد والشرح واعادة الشرح ، عاد الطرفان لاستئناف التفاوض . و لا حاجة لسرد البقية ، فكما يقال في قصص الصغار .. وعاشوا عيشة سعيدة !!!!

الحلقة الاخيرة من حديثي تتناول حدثا بسيطا لحدّ التفاهة ، حيث تعرضتُ شخصيا الى تأنيب وزير الصناعة . والحديث هو عن طارق توفيق العاني الذي تبوّأ لفترة قصيرة منصب وزير الصناعة، وكان لحدّ ذلك التاريخ ، على ما اعتقد ، رئيسا او عضوا في المجلس الزراعي الاعلى .
كان على السفير الفرنسي السيد بيير روكالف القيام بزيارة مجاملة للوزير الجديد. حال جلوسنا نظر إليّ الوزير مبتسما وقال : أهلا وسهلا . واجبته انا بكلمة شكرا ، معتبرا بانه لم يبدأ بعدُ حديثه الرسمي وبانه فكر بتوجيه التحية للمترجم العراقي . ولكن كم كانت دهشتي كبيرة عندما سمعته يلتفت إليّ من جديد ويقول غاضبا : ترجِم الكلام لان التحية ليست موجهة لك بل للسفير. فقمت بترجمة التحية وبقية اللقاء. ولا اعرف هل يرغب أحد ان اصف الحالة التي وضعني فيها السيد الوزير الذي كان مثلا في الابتسامة واللطف والتواضع .
بهذا اكون قد انهيت حلقتي الاخيرة . ألم اقل لكم بانها اقرب الى التفاهة ؟

واذا سألتموني الان هل انتهت احداث حياتك المهنية بهذه الحلقات الثلاث ؟ اجيب باني عملت لمدة 18 سنة في السفارة وكانت ايامنا حافلة بتوقيع عقود وعقد لقاءات وابرام اتفاقيات وانعقاد اجتماعات لجان مشتركة  وتهيئة محاضر لاجتماعات رسمية ، كانت احيانا تنقلب ايامنا فيها الى ليالي بيضاء. كيف لا وان التعامل مع فرنسا كان في عصره الذهبي .
ختاما اقول ، كان شيطان الشعر قد هجرني ، انتظرته طويلا ولم يأت لكي يضعني على سكة تقودني بين ازقة ودهاليز الخيال على الارض أو يرفعني على اجنحته في فضاءات عالية بين غيوم ملهمة في السماء ، فكان من الاسهل عليّ العودة الى الماضي لسرد أحداث لاتحتاج الى إبداع ،  قد تسرّ هذه الاحداث بعض من عاصروها ، وقد يضجر منها قرّاء شباب ،غرباء عن ظروفها وأزمنتها .





ورد الينا عبر بريد الموقع
Matty AL Mache