مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 5

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, نوفمبر 07, 2013, 08:38:08 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة الخامسة


كان والدي كل شيء لنا ، لذا يجب ان اتحدث عنه طويلا . هذه حاجة مؤلمة وضرورية . لا اعلم لماذا نسيت ان اتكلم عنه وانا اتكلم عن الحرب العالمية الثانية . فقصيدة ( الميكادو ) والشاحنة الانكليزية تسحق رفيقا لي دون ان تتوقف وثورة ( الكيلاني ) وقتال الديكة بين الفلاح والاسكافي حول الحلفاء والمحور تظل ناقصة دون التطرق اليه . كان يغيب طوال الاسبوع ليعود مساء السبت يحمل على كتفه خرجا من نسج حاكة الضيعة ويسير متثاقلا بثياب العمل العتيقة . كنت اتراكض نحوه عاري الرأس والقدمين وعلى جسمي ( دشداشة ) من ارخص انواع القطن الوطني انذاك كانت الشهادة الصارخة على تعاستي . كنت اسرع لاستقباله بعد انتظار محرق وفي الوقت المحدد بالضبط . لم اكن احمل ساعة ولا اظن رفيقا من حينا كان يحمل واحدة . ولهذا راقبت بدقة موعد رجوعه فرأيته يتفق ونهاية صلاة المساء . كانت الساعة شيئا نادرا لدينا كالاحذية .
كنت ما ان اصل اليه حتى القطه من طرف ثوبه كالجرو واعدو وراءه حتى البيت وعيناي تحدقان في خرجه . وهناك يلقي حمله الثقيل على الارض ويتكيء الى الحائط بعد ان ينزع حذائيه المثقلتين بالوحل وعمامته .ثم يصمت لحظات . كنت في هذه الاثناء اقصد الخرج وامزق خيوطه واملأ راحتي بحبات ( القصب ) وانزوي ناحية اواهرب الى البيادر لالتهمها . كان القصب ، وهو اردأ انواع التمور وارخصها طعام المعدمين في بلدنا ، الى جانب خبز الشعير ، كل محتويات الخرج . اذكر كيف كان يجلب لي ـ وانا الصبي الوحيد انذاك ـ برتقالة صغيرة واحدة العب فيها دون ان اتجرأ على اكلها . وكم اتندم اليوم لانني كنت اكلها لوحدي دون ان اقاسم اختي ولو جزءا منها . لا ادري اذا كانت تعرف انذاك طعم البرتقالة وهي شيء غير مألوف لدى الفلاحين الفقراء امثالنا . وفي المساء قبل الظلام كان والدي يتوسط حلقة العشاء . كنا نتربع على التراب ونحيط باناء الطعام الوحيد وناكل بايدينا . لم نكن نعرف ما هي الملاعق او الصحون ، مع ان بعض الاغنياء كانوا ياكلون بملاعق خشبية كبيرة يبلغ حجم الواحدة منها ثلاثة اضعاف الملاعق الحالية . كان الاناء خشبيا ايضا والطعام يتالف من خبز الشعير والعدس او البرغل او المدقوقة . لم نكن قد ذقنا أرزا في حياتنا ولا خضارا مطبوخا . انني اتخيل والدي وهو يحدثنا عن الخنادق التي كان يحفرها مع رفاقه للجيش الانكليزي . كان يشتغل وهو في الخامسة والخمسين اثنتي عشرة ساعة وينام في خيمة على فراش من الخرق محشو بنفايات القطن ، خاطته والدتي ، وتحت رأسه وسادة من التبن . وكان يتغطى بعباءته او فروته في ذلك المناخ القاري . اظن ان ما دفعه الى العمل كانت المواسم الرديئة المتعاقبة بسبب القحط او ( السون ) او الجراد .
كان فطورنا يتالف من قدح شاي قليل الحلاوة والخبز وغداؤنا لا يزيد على قليل من دبس التمر او القصب او الزبيب والخبز شتاء ، والخيار او الشمزي او البطيخ والخبز صيفا . لم تكن قلة السكر ناتجة من غلائه . فالدولة كانت توزعه ببطاقات تموين لكونه غذاء اساسيا . بل لاننا كنا نبيعه بسعر اكثر ارتفاعا في السوق السوداء لنشتري شعيرا نصنع منه الخبز وقليلا من الحنطة للقوت الاساسي . وعلى ذكر السكر اتذكر كيف كنت ارافق والدي ، وكاننا ذاهبان الى معرض او مهرجان ، الى بيت المختار الذي كان يشرف على توزيعه . فانتظر طويلا وانا جالس في ظل حائط كديك ، بينما كان والدي ينظم الى احدى الحلقات في الساحة ، فيمد يده الى حزامه ويحل كيسا من قماش مملوء بالتبغ ، فيلف السيكارة تلو الاخرى ويدخن فينتابه نوبات سعال عنيفة . كان الجميع يفعلون مثله ويبصقون على الارض امامهم وينتظرون دورهم بصبر واستسلام . وما ان يستلم والدي وجبته حتى يضعها في حضني ويشير الي بان اسرع الى البيت فافعل واصادف رفاقا مثلي يحملون في احضانهم وجبات عائلاتهم . كنا نركض ، بعضنا وراء بعض ، في الازقة الضيقة حتى اذا ما وجدنا مكانا مشمسا تحت حائط ، جلسنا وملأنا جيوبنا سكرا والتهمنا ما استطعنا قبل ان ندرك البيت .