الكاتب المسرحي الأستاذ حنا الرسام الموصلي (1891-1958)

بدء بواسطة matoka, أكتوبر 18, 2019, 07:01:25 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

الكاتب المسرحي الأستاذ حنا الرسام الموصلي
(1891-1958)





لقد صدق من قال إن مدينة الموصل أنجبت أعلامًا بارزين من مختلف الأنواع والأصناف، وهذا الأستاذ (حنا الرسام)، هو أحد هؤلاء البارزين، فقد عرف بثقافته الواسعة وكتابته للروايات التمثيلية العديدة، وقد ناهزت الخمسين رواية، منها باللغة العربية ومنها مترجم عن الفرنسية أو الإنكليزية وواحدة منها كانت صامتة دون كلام (بالإشارات/ بانتومايم) وواحدة بالعامية الموصلية الدارجة عن واقعة حقيقية دعاها (أحدوثة الباميا).
فمن هو هذا الروائي الموهوب والكاتب الدؤوب؟
هو من أسرة متواضعة نشأ في بيت بمحلة ( المكّاوي) يقع في الزقاق المؤدي إلى بيت النقيب ويتجاور فيه المسيحيون والمسلمون، وهذا معروف في الموصل، كان دليلاً على الحياة المشتركة وحسن الجوار ولطف التعامل وتبادل المصالح. ولم يكن هناك تمييز في الملابس غالبًا بين هؤلاء وأولئك من الرجال، كما قام المسيحيون بتعليم بعض أبناء جيرانهم المسلمين صناعات مختلفة مثل النجارة والحدادة والبناء والحياكة والخياطة وهي المهن المعروفة في البلد لاستمرار الحياة الاجتماعية.
كانت ولادة حنا في الحي المذكور وتلك البيئة المتجانسة، اسم والده (ميخا بن بهنام اوريدة) عامل متواضع يقوم بقصر الملابس (أي تبييضها) على ضفة النهر القريب ثم يرسم خطوطها طولًا وعرضًا بمادة (النيل) يشتريها من العطار، وتلك الخطوط ثابتة اللون لا تزول أبدًا ومن هنا جاء اسم (الرسام).
والدة حنا (زريفة من بيت توماشي) الأسرة المعروفة في محلة مار إشعيا للكلدان. أما بيت (أوريدة) فهم  من رعية السريان في كنيسة الطاهرة في محلة حوش الخان، وقد ولد (حنا) في أوائل كانون الأول (1891) في تذكار مار يوحنا المعمذان، لذلك أعطي اسم (حنا). وقام بتعميذه الخوري بولس دانيال في مار إشعيا لأن كنيسة الطاهرة بعيدة عنهم.
و من فروع أسرة (اوريده) برز القس نعمان بن إسحاق أوريده (1936-1999) رحمه الله.
نشأ حنا مترددا إلى مار إشعيا للصلاة. ولما بلغ الثانية عشرة دخل مدرسة الآباء الدومنيكان الكائنة في محلة الساعة فكان الفتى يقطع الطريق يوميا من المكاوي إلى الساعة حاملا  كتبه و لوازمه المدرسية (في كيس) على كتفه، هو الحقيبة المدرسية في ذلك الزمان.
وروى لي، رحمه الله، أن من زملائه في تلك المدرسة كان جميل عبو الحكيم و ناصر ددي (المطران فيما بعد) وعبد الكريم بني ويونان عبو اليونان. وكان من المسلمين تلاميذ المدرسة بعضهم من آل العمري وسواهم من العائلات لأن المدرسة راقية والتعليم فيها مجاني.
اما المعلمون الأساتذة فهم أعلامٌ حقًا منهم: سليم حسون المعلم المتميز صاحب المؤلفات المدرسية العديدة ومحرر مجلة إكليل الورود بالعربية ومؤالف بعض التمثيليات ومخرجها (من هنا جاء اهتمام حنا بكتابة المسرحيات).
و كان معلمه للأناشيد والموسيقى إسكندر زغبي الأعمى، الموسيقار الموهوب المعروف. أما معلمو الفرنسية ودروس الديانة و الأخلاق فهم من الآباء الرهبان الدومنيكان (شاريو، هياسنت وريتوريه (كما ذكرهم لي بعدئذٍ)).
فتعلم التلاميذ اللغة العربية واللغة الفرنسية و مبادئ الكلدانية و التركية وشيئًا من التاريخ و الجغرافية والعلوم الطبيعية.
وكم كان تأثره بمعلمه سليم حسون بليغًا، وقد حدثني كثيرًا أحاديث ظريفة عنه (وذكرت بعضها في كتابي عن الآباء الدومنكان الصادر سنة 2006 ص 80و81).
اِنتهى أمر المدرسة في أوائل الحرب العظمى الأولى وانفرط عقد التلاميذ والمعلمين بعد أن أمضى حنا في ذلك الجو المدرسي عشر سنين دراسية، تلميذًا وثلاث سنوات معلمًا.
حنا الرسام وتنقلاته بين بغداد والموصل
غادر الموصل إلى بغداد في خلال الحرب العظمى الأولى وصار معلمًا في مدرسة الآباء الكرمليين، كما انصرف إلى مهنة الصحافة فساهم في تحرير جريدتي البلاد والعالم العربي وسعى في إصدار جريدة الأحوال التي عاشت مدة قصيرة. ثم عاد إلى الموصل في نهاية الحرب المذكورة منصرفًا إلى الكتابة والتأليف والترجمة ونسخ بعض الكتب التأريخية بخطه المتميز، فلم يكن يفارق منضدته والقلم بيده يكتب ويترجم وينشر: روايات تمثيلية، قصائد شعرية وبعض المقالات الأدبية والدينية والتاريخية، كما يهتم في الوقت عينه بتوجيه وتربية أخويه (إبراهيم نوئيل).
حنا الرسام الموظف والمتقاعد
عمل حنا كاتبًا للتحريرات في ديوان المتصرفية بالموصل (المحافظة). ونُقِل إلى دهوك في 1920 وبعدها إلى العمادية، وقد حدثني فيما بعد عن حياته في تلك المناطق البعيدة حيث لا سيارات ولا طرق معبّدة، من ذلك أنه استغرق في سفره مرة من العمادية إلى الموصل أربعة أيام لكي يقضي ايام العيد ويتزوَّد بالحاجات الضرورية لحياته المعاشية في تلك المناطق.
هذا وبعد سنوات في تلك المناطق الجبلية نقل إلى قضاء سنجار وعيّن مديرا لناحية الشمال التابعة للقضاء المذكور، وكان مركز الناحية في قرية (كرسي) البعيدة ومعظم أهلها من اليزيديين، فصار له اطلاع واسع على تقاليد وعادات وأحوال تلك المنطقة وتلك الطائفة وعن ديانتها، وكتب عنها كثيرًا من المعلومات لكنه لم ينشرها. كما انه أتلف الكثير من مذكراته وأبحاثه خشية بطش الحكم العرفي في تلك الأيام التي جرى فيها إعدام المحامي (عبدالله فائق) ورفيقه (عبد الكريم قرة كله) سنة 1936وكانت سنة صعبة على المسيحيين، وجرى فصل حنا الرسام من الوظيفة وعاد إلى الموصل متقاعدًا.
معرفتي وصداقتي به
لقد تعرفت إلى الأستاذ حنا الرسام عن طريق الصدفة في احد  اللقاءات، فأعجبتني اهتماماته الاجتماعية والتاريخية. كنا نلتقي في مطبعة صديقه (اسطيفان عزيزة) قرب شارع غازي، واسمها (الشرقية الحديثة)، وكذلك في مجلس صديقه الحميم (جميل عبو الحكيم) في شارع نينوى. وازدادت علاقتنا وصداقتنا وثوقًا فكنا نقوم بسفرات طيبة إلى دير مار ميخائيل القريب ومار بهنام وإلى عقرة ودهوك ثم إلى السليمانية وأخيرًا إلى البصرة البعيدة سنة 1954وذلك للاطلاع وزيارة الأصدقاء القدماء وأولهم صديقه الحميم القس (يوسف كوكي)، الشخصية المرموقة، ومن البصرة قمنا بسفرة إلى أبي الخصيب كما تنزهنا بالقارب في شط العرب.
حنا الرسام كاتب وشاعر ومؤلف مسرحيات
إن الدراسة العالية والمركزة التي اقتبسها حنا الرسام في مدرسة الآباء الدومنكان جعلت منه كاتبًا وشاعرًا ومؤلفًا للمسرحيات ومترجمًا لبعضها، خطه واضح ومتميز ولغته فصحى متينة، لذلك جاءت كتاباته جيدة لا يخطئ بقواعدها وإملائها، سواء في مذكراته سنين عديدة أو في مقالاته ورسائله أو في شعره الموزون وذلك في المناسبات التي دعته إلى نظم الشعر.
أما التمثيليات المسرحية وقد ناهزت الخمسين بين تأليف وترجمة (عن الفرنسية أو الإنكليزية) فقد كانت متعددة المواضيع منها تاريخية ومنها أخلاقية ودينية، وإن واحدة منها جاءت بالحركات فقط دون كلام (بانتومايم/ غير ناطقة) وأخرى بالعامية الموصلية كانت هزلية واسمها (أحدوثة البامبا) كتبها عن قصة واقعية جرت لإحدى العوائل من معارفه، وخلاصتها أن تلك الأسرة تاقت إلى طبخ الباميا بعد جوع طويل وسهر على إنضاج الطعام: فقامت الأم بوضع مقدار من الملح والسماق في قدر الباميا، وبعد قليل أتت البنت لتضع مقدارًا آخر.. ثم بادرت عجوز البيت فوضعت مقادير أخرى من الملح والسماق قبل أن تتأكد من حال الطعام وتتذوق الباميا! وكانت النتيجة خسران الطعام بما فيه ورموه في المزبلة.
شاهدت تلك المسرحية التي قامت بها مدرسة الراهبات في الموصل وصفق لها الحضور كثيرًا.
أما مسرحيات حنا الرسام المتعددة الأخرى فقد كتب عنها وعنه الأستاذ الدكتور عمر الطالب وأفاض في ذلك مع نشر صورة واضحة لصاحب تلك المسرحيات وذلك في مجلة بين النهرين عدد (33)سنة 2005.
وكان حنا الرسام شاعر مناسبات، فقد هنأ صديقه وجاره القس روفائيل حبابه بمناسبة درجته الدينية في 1908، والأبيات الشعرية نطالعها بين هذه الصحائف من الشعر الموزون في تهنئة جميلة.
طلَعَ الصباحُ والظلامُ تبدَّدَ       والشمسُ لاحت والهزارُ غرَّدا
ونوافِحُ الوردِ الطريِّ تضوَّعَت   وغدا الصَّبا بهبوبِ ريحهِ منشدا
فأتاني البشيرُ وهو باسمٌ            ومجيئهُ عن قلبيَ اقصى الردا
قالَ: لي أما رأيتَ اليومَ صُنعَ        الربِّ جلاله وتحمَّدا
قلتُ: لا، فأجابني ولسانه   متلمضٌ: مجيدٌ كاهناً غدا
وغابَ عني والجنان مضطرم    وحمدت فاطر الأنامِ الأمجدَا
****
يا كاهناً في بيعة الربِّ المجيدِ لك الولاءُ والبهاءُ سرمدا
يا ربَّ روفيلَ صنه من العدى والشرَّ عنه أقصِيَنْ وأبعِدا
وبعدَ أن يقضي الحياةَ نقيةً أسمعهُ قولَكَ يا ربنا الأوحدا
هلمَّ يا عبدا أمينا صالحاً   من دارِ دمعٍ لُج فراديسَ الهدى
وكان الشاعر حنا الرسام جارًا قديما للكاهن الجديد في محلة المكاوي بالموصل، واسمه قبل الكهنوت (مجيد).
كما أنشد قصيدة شعرية جاءت في 36 بيتًا في تأبين المطران جرجس دلاّل 1952 جاءت قوية السبك متينة العبارة (يقرأ المطالع بضعة أبياتها الشعرية في الصورة المرفقة).
وله بيت من الشعر اشتهر في حينه يقدح فيه بمجلة الفداء الصادرة في بغداد يومذاك، لضعفها وركاكتها، قال في وصفها:
مجلةُ الفداءِ من بعدِ حذفِ الفاءِ           لولا الصليبُ فيها، داءٌ بلا دواءِ!
اهتمامه بتنشئة إخوته وتربيتهم
كان لحنا الرسام ثلاثة إخوة هم أفرام وإبراهيم نوئيل، الأول لم يكن مؤهلا أما إبراهيم فكان معلمًا ناجحا وأمضى مدة مديرًا لمدرسة ألقوش الابتدائية واشتهر بعدئذٍ بفن تحنيط الطيور شهرة واسعة، عندما كان معلمًا بمدرسة الطاهرة بالموصل وصارت له نماذج عديدة من الطيور المحنطة كما اشتهر زهير بن ابراهيم بكتابة قصص الأطفال وقد ورد اسمه في معجم المؤلفين للدكتور صباح نوري المرزوق ص200، الذي ذكر لزهير (13) قصة مطبوعة للأطفال. وزهير هذا (1939-2012) قيل عنه إنه ورث عبقرية الكتابة من عمه حنا.

وأخوه الأصغر نوئيل نشأ محاميًا بارعًا قيل عنه إنه لم يخسر دعوى في المحاكم، وهو من مواليد 1910، زوجته صوفي اللبنانية كانت أستاذة في إعدادية الموصل ورزقهما المولى ثلاث بنات ( هند وآمال وشميم) وهذه الأخيرة عرفها الناس مذيعة تلفزيونية باللغة الإنكليزية أيام زمان.. عاشت البنات الثلاث فيما بعد في أميريكا مع أخيهم الأصغر  غسان ثم لحقهم والدهم إلى تلك الديار بعد أن قضى شوطه في العراق محاميًا وسياسيًا ومرشحًا في الانتخابات البرلمانية وصاحب جريدة موصلية اسمها (أ، ب، ت). كان نوئيل محاميًا طموحًا وذا شخصية جذابة مؤثرة أبعدته السلطة يومذاك مع بعض رفاقه إلى الفاو في الجنوب، كان منهم المحاميان قاسم المفتي وغربي الحاج أحمد.
آخر سنوات حنا الرسام ووفاته
شعر بداء السكري منذ سنة 1950 وكانت نسبته عالية بحيث جعلته يهذي فأخذته إبنة اخته (وكانت رئيسة ممرضات في مستشفى المجيدية في بغداد) للمعالجة وعاد إلى الموصل سليمًا معافى وشديد التمسك بالحمية في المأكل والمشرب.
عاد يوم 28/8/1958 من جولته الاعتيادية في شارع النجفي وزيارة صديقه جميل عبوالحكيم في داره، وكان صباحًا يحرص على تعليم اللغة الفرنسية لتلاميذ المعهد الكهنوتي الكلداني قرب مسكنته (مجانًا دون مقابل) وداوم على ذلك نحو أربع سنوات، وكان يمضي أوقاتًا طويلة في استنساخ الكتب التي يراها مفيدة للمطالعة، فكتب بخطه الواضح المتميز كتاب (عناية الرحمان) للمطران أفرام نقاشة (أكثر من 800 صحيفة)، وكذلك كتاب الخلاصة التاريخية لذخيرة الأذهان.
وأذكر أني قدمت له كتابًا عنوانه (الصليب في الإسلام) للمؤرخ حبيب زيات كنت قد اقتنيته من لبنان سنة 1950.. أعاده لي بعد أيام قائلَا: ما هذا الكتاب؟ كأنه يسخر منه، وبعد برهة أراني نسخته الواضحة بخط يده، وقد كتبه حرفًا حرفًا ليحتفظ به.
توفي هذا الرجل الفاضل عازبًا بعد أن صرف العمر بالدراسة والكتابة وتنشئة إخوته، وكانت أمنيته، كما قال لي، هي زيارة الأراضي المقدسة في القدس الشريف وكذلك زيارة بلاد الأندلس! لكنه لم يغادر العراق وتوفاه الله عن نحو 67 سنة إثر سقوط مفاجئ وأصيب براسه فنقلوه إلى المستشفى لكنه بارح الحياة في اليوم التالي 29/8/1958 .
مشى في تشييعه العديد من معارفه وأصدقائه إلى معبد سيدة النجاة مقابل الطهرة، وقمت بتأبينه قبل أن يوارى الثرى بكلمة مؤثرة يجدها المطالع مع هذه الأسطر منقولة عن إحدى الصحف المحلية يومذاك (هي جريدة صوت الأمة في عددها (313)).
وبعد، فهذا هو الكاتب المسرحي والإنسان النموذج حنا الرسام رحمه الله.
عناوين بعض مسرحياته:
ثمن الكلمة-الرجل النموذج- أسامة-رسول الأكواخ- الإباء- شعيلة الميلاد- ضحية سر الاعتراف- العواطف- فلسطين المجاهدة- عيديات الميلاد- في سبيل الفوز- القرط الذهبي- ما وراء الستار- مثال الوفاء- مثال الوطنية- المدي بالشرف... وغيرها.
وكانت بقايا مكتبة حنا الرسام محفوظة لدى أخته الصغرى (روز) وهي معلمة متقاعدة من مواليد 1917 عاشت سنواتها الأخيرة في منطقة الزعفرانية ببغداد، وتوفيت هناك. وكانت قد أعطت ما كان لديها من كتب ومخطوطات وروايات أخيها الكبير حنا المذكور، أعطتها كلها لمكتبة كنيسة مار بهنام للسريان الكاثوليك في منطقة بغداد الجديدة. ولا أعلم ما صار من أمرها. وإن الكاهن في تلك الكنيسة هو القس أفرام كذيا.















Matty AL Mache