فضّ الاعتصام: مـــن يحــــلّ اللـــغز؟/ لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أبريل 18, 2016, 05:01:29 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

  فضّ الاعتصام: مـــن يحــــلّ اللـــغز؟   


برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس


علّق الشعبُ ومعه مختلف فعاليات الشارع العراقي آمالاً كبيرة على دعم زعيم التيار الصدري لانتفاضة التيار المدنيالصامدة بالعراق. وقد واصل الحراكُالأخير مجتمِعًا،تظاهراته "الجُمعية" (نسبة إلى يوم الجمعة) منذ أشهر، بهمّة ومثابرة وغيرة لا تنقصها الوطنية الشجاعة ولا الإرادة الصلبة للمناضل الذي لديه مشروع فيه هدف وفكر وعطاء وبناء، والأكثر أن يكون نابعًا من شعور وطنيّ متجذّر يخشى غرق المركب بمن فيه. وقد ثبت ذلك عبر ما رُفع من شعارات تدين بالولاء للوطن، وتحثّ على تماسك اللحمة الوطنية وعلى تعشيق النسيج المجتمعي بالعراق، والتوعية بأهداف الانتفاضة التي نأمل جميعًا تتويجها بما يشبه "ثورة" وطنية نظيفة ومنهجية من أجل إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مدنية متحضّرة. أُريدت ثورة وطنية قادرة على وضع حدّ للفساد والفاسدين إن لم يكن القضاء عليها بعد استفحالها، ثورةعاقدة العزم على فضحالإدارات المتهرّئة السائدة والساطية على مختلف مؤسسات الدولة بسبب إغراقها برؤى ومفاهيم ضيقة، دينية وحزبية وكتلوية وطائفية وفئوية، تدمّر ولا تبني.
وإذا كان نفرٌ منتفع أو بعضٌ من الكتل والأحزاب المهيمنة التي سطت على السلطة بحجةِمّما أتت به وحصدته عبر صناديق الاقتراع غير الأمينة، وبالطريقة التي يعرفها القاصي والداني، سواء بالتلاعب أو بالتهديد أو بشراء أصوات السذّج أو بالوعود العرقوبية المقطوعة سلفًا، أو نتيجة عدم خشية الجهات الرقابيةواللوجستية غير النزيهةوالمنظِمة للعملية الانتخابية ككلّ بسبب ولائها غير الوطني، إذا كان هؤلاء أو بعضُهم يرى في هذه الثورة الشعبية انقلابًا على استحقاقها، فليكن ذلك انقلابًا على سلطة أو حكومة قادت البلاد إلى شفا التفتّت والتآكل والتقسيم والإفلاسوسوء الإدارة وإفساد المجتمع ككلّ. فالشعب هو بالتالي مَن يُفترض به أن يقول الكلمة الفصل ب"سادته" و"قادته" و"حكّامه". فهو مصدر السلطة! إن شاءَ واحتكمَ: "حكمَ وأقامَ"، وإن أدركَوقرّرَ: "قلعَ وشلعَ"، وإن هزلَ وتغافل وجبنَ: "خسرَ الصاية والصرماية". وهذا ما نخشاه ممّا حصل، بعد خفض قائد الاعتصام رايتَه الثورية التي هزّت عروش مَن يقيمون في "المنطقة الغبراء"،وإنهاء اعتصامه بتلك الغفلة غير المتوقعة، وانصراف مَن اتبعوه وأيدوه وناصروه، مشدوهين مصدومين وغير مصدّقين؟ فهل كان في تلك الحركة السريعة لغزٌ أو سرٌّ أو غاية تم التكتّم عليها واتفاقٌ خفيّ بين أطراف اللعبة، كي لا تُكشف اسرارٌ مدفونة لا يعلمُها إلاّ المتورطون والمنتفعون والمتسترون؟
في بدء الحركة الاعتصامية الشجاعة، تفاعلَت طبقات الشعب من كل الأطراف والمكوّنات والطوائف من مشارب مختلفة بل متباينة في بعضٍ منها في تصوراتها "للحدث الساعة". وزاد عشقُ "الثوار" ومقاومو الفساد والراغبون بعودة "عراقٍ نظيف اليد والأرض والفكر"، عندما شهدوا شجاعة "الهصور"، رافعًا عاليًا راية الوطن وليسَ سواه في ساحات الاعتصام، تمامًا كما كان فعلَها في تظاهرات الجمع المتتالية. فالرجل سليلُ المدافعين عن الحق والوطن والمظلوم، لا بدّ أن تسري في عروقه وطنيةُ الآباء والأسلاف، وأن يحمل جلبابُه الوقورُالمقصّ والمعولَ والرفشَ والمارَ لتشذيبعُذُوق الحديقة الوطنية التي تهصّرت وتدلّت أغصانُها المترهلة، والعمل على تغيير ترابها الذي عتق وانتفى وفسدَ، حينما حوّلها لصوص أغراب في غضون سنوات عجاف، إلى غابة اقتتال بين الأخوة، وساحة تبارٍ للفساد والنهب والسلب، وأرضًا مشاعًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ، بغاية اقتطاع أوصالها وتفتيت عضدها وتحجيم دورها الحضاري إقليميًا ودوليًا، حتى وإن لم يُستثنى من هذه الأفعال السلبية تيارُه المتهم هو الآخر بمثل هذه الأفعال التي تبرّأ شخصيًا من فاعليها بين فترة وأخرى، وحاسبَ مّن خرجوا عن طاعته وتوجيهاتِه.
حديقة العراق الثرية الخصبة المتنوعة الورود والأزهار، لم تعد صالحة بفعل الأغراب عنها وفي غياب الفلاّح الحريص الأصيل المتعشّق بالمحراث والمذرى. فلابدّ من قدوم أكّار ماهرٍ يعرف التعامل مع مفسدي هذه الأرض الطيبة. إلاّ أنَّ الأمل المعقود على "الهصور" القادمِ من قلب الحدث والناطقِ باسم الفقراء والمنادي بالإصلاح الجذريّ في جذوة اعتصامه، قد تطايرَ وطارت معه آمال الشعب، وفقد بريقَه سريعًا خفيفًا. فيما صفّق له في السرّ، مَن حاول الاعتكاف أو الانزواء أو حتى اللجوء إلى جحورٍ أكثر أمانًا، إن في الداخل أو في الخارج، ذلك لأنّ مشروع الإصلاح الذي نادى به ودعا فيه أمام الملأ إلى تغيير المشروع السياسيّ الجذري في العراق قد فشلَ بحسب نظرهم لمجرّد إنهاء الاعتصام من دون تحقيق النتائج المرجوّة.
شهدنا جميعًا وما زلنا نشهد تباينًا حادًا وماكرًا في أحيان كثيرة، في مواقف الكتل البرلمانية والسياسية والرئاسات الثلاث ومَن في صفوفها. أمّا ممثلو الشعب، فقد أبدى العديد منهم حين تلقّي رئاستهم للمغلّف الأبيض المغلق في الجلسة البرلمانية المخصصةبأسماءالكابينةالوزاريةمنلدنرئيسالوزراء، شيئًا من العنترية والعنجهيةبل والفوضى غير الجديرة بهم. ففقدان المصداقية ونقص الثقة بين المؤسسة البرلمانية وسلطة الحكومة غير الموفقة لغاية الساعة، هي من ضمن الأسباب التي سارت عليها الجلسة الخاصة من حدث الساعة. فقد كشفت الطريقة التي أوصل بها رئيس الوزراء مبادرته الإصلاحية الأخيرة عن ضعف قدرته في مواجهة حيتان المحاصصة، وعن نقصٍ في الكاريزما القيادية المطلوبة من قائد قويّ قادر على إقناع المقابل مهما كانت سطوتُه وجبروتُه ومبرراتُه، وعن تردّد واضح وتخوّف مكنون في مقارعة مَن استشاط غيضًا واستنهض غضبًا خشيةًمن فقدان امتيازاته التي تؤمّنها وتحفظها له شبكة التحالفات العنكبوتية المتصارعة والمتقاطعة في المثلث الحاكم. وقد رأينا، مدى الحرص في التوحّد والتكالبوالاصطفاف المشبوه الذي أبدته مختلف الكتل في السلطة حين الشعور بفقدان رَسَن القيادة ومآثرها ومنافعها، من حيث الخفيّ القادم من وراء مثل هذه المغامرة، التي قد كانت ستقلب الصينية الوثيرة على الندباء الأضداد!
وفي حين يترقب الشارع نتائج الفحص والتمحيص والتحليل والتشكيك والتسقيط لما تبقى من مرشحي الكابينة الإصلاحية الذين تساقطوا الواحد تلو الآخر قبل أن تُكشف النتائج الرسمية لما تمخضت عنه اللجنة أو الجهات المشكلة لإنهاء عملها، فإنّ الحدس بفشل المبادرة كبيرٌ، وسط أجواء مشحونة عزّزتها تصريحات زعامات الكتل والأحزاب بضرورة العودة إلى مبدأ المحاصصة الذي كفله الدستور. وفعلاً هذا ما يجري التفاوض بشأنه. أي أنّ "حليمة ترجع إلى عادتها القديمة"، و"كأنّك يا أبو زيد ما غزيت"!فالكتل الحاكمة تسعى لإبقاء الشراكة التحاصصية التي تكفل لها بقاء الامتيازات ودرّ المنافع عبر البيع والشراء في المناصب والوزارات، بحسب ما تعوّد الشركاء الفرقاء الأضداد. وهذا يعيد البلد إلى المربع الأول الذي كان رسمه المحتل وعزّزه الحاكم المدني سيّء الصيت بول بريمر، حين منح الكتل والأحزاب حق الاستنفاع بثروات البلد وتقرير مصيره بحسب مصالحها الفئوية والطائفية والشخصية. وما زيارة وزير الخارجية الأمريكي كيري، الأخيرة للعراق، سوى للتذكير بوجوب الالتزام بالاتفاق المذكور والحرص المتزايد للإبقاء على ذات النهج الفاسد وغير الوطنيّ في إدارة البلاد والعباد، ما يقطع أيّة محاولة للخروج عن طاعة الأسياد وإلى أمد غير محدّد.
إزاء هذا الموقف المتشظّي للكتل البرلمانية حيال المبادرة الإصلاحية، وتعنّت بعضها برفضها جملة وتفصيلاً، وقبول غيرها لها أو جزءًا منها، شريطة أن تتمّ بالتشاور والاتفاق والتوافق مع الكتل القائمة بموجب الاستحقاق الانتخابي الذي رسمه الدستور، يقف الشعب ومثقفوه حيارى بين الصمت عن الظلم المتواصل، والسكوت عن مواصلة استغلال الفطرة العراقية بفكرها المزدوج الشخصية، وبين ثورة عارمة قادمة لا محال، تنفذ ما رفعته حشود المتظاهرين من شعار "شلع قلع" في آخر تظاهراتها الصاعقة التي هوّلت القابعين في المنطقة "الغبراء" وحرّكت عروشهم وأفاقت النائمين من أبناء الوطن والغافلين عن طمس حقوقهم وإبقائهم مجرّد أجسام باحثة عن رزق يوميّ من كفاف اليوم الذي لا يغني ولا يسمّن. فالفشل في إحداث نقلة نوعية في مسار العملية السياسية ككلّ بعد كلّ هذه الخبطة والأداء المسرحي بامتياز، والعجز بتلبية مطالب الشعب التي أحياها وفجّرها في الاعتصامات الأخيرة، ستكون له نتائج وخيمة، إلى مسارات جديدة تتوسع معها ساحة الاعتصامات وتتزايد مطالب الشعب. ولا يُستبعد بعدها حراكٌ شعبيّ مشاغب أو انتفاضة عارمة تقتحم المنطقة "الغبراء" التي لن تعود "خضراء" لا لأهل السلطة ولا للداعمين لهم أوالقائمين على رعايتهم وتوجيههم، ما قد يؤثر على سير العمليات العسكرية الموجهة ضدّ عدوّ الوطن المشترك، "داعش" الإرهابي الذي قد يستغلّ الفرصة والأحداث غير محسوبة النتائج بتقويض محاربته والنيل منه. فمثل هذه الأعمال الفوضوية، لو حصلت، ستدخل ضمن مخطَّط آخر جديد يستهدف إطالة بقاء داعش ومشروعه في العراق وسوريا على التوالي.
لقد حيّت طبقات الشعب المغلوب المقهور، ومثقفوه والمهمَّشون فيه من شعوب المكوّنات الأخرى وكذا المرجعيات الدينية المعتدلة والمنظمات المدنية، ما ذهب إليه رئيس الوزراء من عزمه في المضي في برنامجه الإصلاحي الجذريّ من خلال إحداث تغيير في تشكيلةحكومته، على ألاّ تكون منحازة إلى كتل سياسية مافيوية في السلطة. وقد عبّر مرارًا، عن عزمه التوجه نحو التكنوقراطوتقريب الكفاءات لتتولى إعادة بناء مؤسسات الدولة المتهرّئة، بعيداعنالتدخلاتالحزبية والولاءات الفئوية والطائفية على أن تشمل جميع هذه المكوّنات من دون استثناء. لكنّ قناعاته الإدارية الشخصية وسوء التقدير في مواجهة الآخر المختلف المعاند المصرّ على المحاصصة، بقيت محدودة القدرة وجزئية مستقطعة في إيصال رغبة الشعب وإرادة الحشود المنتفضة، كما لم يفلح في إنصاف المكوّنات الأخرى المهمّشة عمومًا، كالتركمان والمسيحيين والإيزيديين والصابئة وما سواهم، ولو جزئيًا.ففي نهاية المطاف انصاع دولتُه للأمر الواقع، وقبِلَ مرغمًا كارهًا أو عاجزًا قانعًا بالعودة إلى التقسيم المحاصصي بصيغة مناورة جديدة.
لكنّ "اللغز- الغزل" الذي تركه فضُّ الاعتصام غير المكتمل النتائج الذي تزعّمه رجل الدين الشيعي الذي طرحَ نفسَه عراقيًا وطنيًا مدافعًا عن الشعب المقهور، بقي مثارَ حيرة وشدهٍ من جميع المترقبين للحركة الاعتصامية بعد تفاقمها وبلوغها حدّ التهديد باقتحام عشّ الفساد بالمنطقة "الغبراء". فالانتفاضة الثائرة كان يكفيها دعمُها اللامحدود من الحشود الثائرة المستنكرة عناد الأحزاب الحاكمة،كي تأتي بنتائجها الثورية المرتقبة بتغيير جذريّ شامل، وليس بالضحك على الذقون وإسكات صوت الجماهير المنتفضة، إنفيالصمتأوفيالعلن، من شمال الوطن إلى جنوبه. ويا لها من خيبة أمل بالقائد المزعوم والمنقذ المنتظر الذيلم يستطع إكمال الشوط، الذي سيظلّ لغزًا بحاجة إلى حلّ وتحليل وبحث وتقصّي. فهل نتوقع وثبة جديدة منتفضة قادمة تكسح وتكنس وتقلع ما ظلّ حكرًا على حيتان الفساد الذين يخشون أي ّ تغيير بحجة النضال والجهاد والأحقية والاستحقاق من خلال استدرار عواطف البسطاء من "المتديّنين" والسائرين في الركب ممّن يستغلّون عباءة الدين والمشروع الإسلامي "التشيعي" والمذهب لبلوغ مأرب أسلمة المجتمعمن خلال تكريس المحاصصة وجعلها دستورًا، شرعًا وقانونًا؟
من المؤكد، أنّ مشروع الإصلاح باقٍ، وأنّ الشعب بالرغم من سلوكه المزدوج أحيانًا، سوف يعيد الكرّة ويثور، ولكن في هذه المرّة من دون رحمة ولا هوادةضدّ مَن لا يُؤتمنون في صفوف ممثلي الشعب الخائب، والمحسوبين إلى جانب الفقراء والمهمّشين والمظلومين. فقد ترك انسحابُ السيد الصدر عن مواصلة المطالبة بحقوق هؤلاء الضعفاء والفقراء والمقهورين، البابَ مفتوحًا لغيره من الملتحفين بعباءة الدّينوالمنتفعين عبر شعائر وشعارات إسلامية شيعية وسنّية، ومناسبات ولقاءات تحشيدية لاستدرار عواطف المشاركين في مثل هذه المناسبات، من خلال الدخول بأصوات زاعقة على الساحة، بهدف تجربة الحظّ الذي تعثّر به السيد الصدر في انتفاضته الأخيرة ولم يحقق طموح الجماهير لابتسارها بتلك النهاية غير الموفقة. فجاءت الخطابات الحماسية لبعض الزعماء الطائفيين التي أُريد منها إحياء المشاعر الشيعية الطائفية لدى مَن فتر عندهم التأييدُ اللاّمحدود الذي كانوا منحوه لقادة الأحزاب الدينية في طاعة عمياء، تيمنًا بالأئمة، وهي البريئة من أية أفعال طائفية وخطايا فساد واستغلال مشاعر البسطاء لاستدرار العواطف. فالهدف واضح من وراء دخول شخصيات دينية وزعماء أحزاب رفعت شعار الدين والطائفة والجهاد والنضال رايةً لاستحقاق الحكم والسلطة. فعن أي جهاد يتحدثون؟ ولأي نضالٍ يشيرون؟ ومتى كان التكنوقراط المستقلّ إفسادًا في الأرض؟ ومتى كان التديّن محرَّمًا؟ بل متى كان التديّن أو عدمُه بابًا وأساسًا للمواطنة والوطنية. فالعلاقة بين الإنسان وباريه تبقى علاقة شخصية، حتى مَن لا يؤمن بوجود هذا الإله الذي يُقتل ويُذبح ويُحلف باسمه باطلاً، خيارُه محترَم وسيبقى محترَمًا طالما لم يتلوّث بما تتلوث به أيادي سفّاكي الدماء وسارقي قوت الشعب وناهبي الثروات والمزوّرين والمرتشين.
إننا نعتقد أنّ هذا الأسلوب في الخطاب الطائفي الداعي للمشروع الإسلامي بالعراق بطريقة علنية، يُقصد به أسلمةُ المجتمع على درب ولاية الفقيهوضربُ التوجه الشعبي اللاّمحدود الراميلتشكيل واستقرار دولة مدنية متحضّرة لا تنتقص من التديّن أو عدمه، وتحترم تعددية الأديان والمعتقدات والأعراق وخيار الجماعات السائرة في طريق العدل والسلام والمحبة واحترام حرية الغير وتوجهاته، طالما بقيت في حدود المواطنة والوطن. كما يرمي هذا التوجّه الإكراهيّ الجديد القديم إلىإفشال أيّة محاولة جماهيرية وطنية تستهدف إلغاءَ شراكة المحاصصة المقيتة، لكونها الضامنة الوحيدةللمكاسب السياسية والمنافع التي تدرّ على حيتان الفساد في السلطةذهبًا وعسلاً ودولارًا وعقارًا وقصورًا ثابتة. لكنّ كلّ هذه المحاولات وغيرُها من تلك التي تُحاك في مكاتب زعماء المافيات العراقية، في الداخل والخارج، سوف لن تقف أمام التيار الجارف القادم كالتسونامي ل"يقلع ويشلع" مَن يقف في طريق الإصلاح الحقيقي الجذريّ الذي لا يجامل ولا يتغافل ولا يتراجع. فإعادة هيبة الدولة وبناء مؤسساتها،والعودة بالنسيج الاجتماعيّ المتكافل واحدًا موحدًا، وعودة الخدمات والأمن والاستقرار، وانتشال العباد من الظلم والإقصاء والتهميش والغياب عن المشاركة الحقيقية في البناء والمنفعة والرفاه والأمان، هي وحدها التي ستدفع ثوارًا عتيدين للعودة إلى الشارع بزخمٍ أشدّ وأكثر وعيًا وإصرارًا هذه المرّة. كما أن مفهوم أسلمة المجتمع، يعني إلغاء الآخر ضمن أيديولوجية الأحزاب الدينية القائمة. وهذا واضح في خطاباتجميع زعماء الأحزاب الدينية الإسلامية وهم لا يخفون مثل هذه التوجهات عبر مزايدات بمناسبة وبدون مناسبة. وإلغاء الاخر، يعني إلغائي أنا الآخر أيضًا وإسدال الستار على التنوع الديني والإتني والحضاري للعراق ككلّ!
إنّ ما حصل ويحصل من خلف الكواليس من التفافالكتل على المشروع الإصلاحيّ، ليس فيه من هدف سوى احتفاظالكتل والأحزاب الحاكمة في السلطة منذ 2003، بوزاراتهاومكاسبهاالسياسية والاقتصادية والمالية وهيمنتها على فكر المجتمع الرافض لأسلمته بمثل هذه الطرق والوسائل الإكراهية. وهناك مَنْ ذهبَ مؤخرًا، في مغالطاته وتحدّياته وتهديداته لإشاعةالتخوّف من مفهوم استبعاد الشيعة من الحكم، والقصد منهاكسبُ مشاعر المريدين والسامعين،حين رفعوا شعار التحذير من عناصر التكنوقراط المطلوب من خارج الأحزاب المهيمنة على السلطة وعادًّين إياها إفسادًا للحقيقة والاستحقاق والنضال والجهاد. فنضالُالقابعين في الحكم وجهادُهم ليس سوى تأكيد وسعي حثيث ومستميت من أجل المال والجاه والسلطة، وليس لمساعدة المحتاج وجبر خاطر المهمّش وتقديم الخدمات للمواطن وتوفير الأمن والأمان للشعب وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. فمَن سلّم البلاد فريسة سائغة للأجنبي، ومَن أهدى الوطن ولاية تابعة خانعة للغير، ومَن استقدم داعش وأمثالَها لتدنيس أرض الآباء والأجداد، ومَن نهبَ وسلبَ واغتنى من دون وجه حق، ومَن أفسَد وحوّل البلاد إلى كانتونات وميليشيات موازية لجهد الدولة، ومَن زوّرَ وقتلَ وهجّرَ بحجة الاستحقاق في الحكم والسلطة، ومَن أهان وهمّش واستغفلَ المكوّنات قليلة العدد وسمّاها بالجاليات أحيانًا والأقليات أحيانًا أخرى، ومَن أوصل البلاد إلى شفير الإفلاس والتخبّط، ومَن رشى وارتشى من عقود النفط وغيرها من المشاريع، ومَن حوّل الوزارات ومؤسسات الدولة ومناصبَها إلى إقطاعيات حزبية وطائفية وعرضها في المزاد، ومّن أعاد بالعملية التربوية والتعليمية عقودًا إلى الوراء، ومَن زوّر الشهادات وسهّل حصولَها، هم أنفسُهم مَن يرفضون تداول السلطة سلميًا ويعترضون على أية عملية إصلاحية ويلتفون على مطالب الشعب ويصرّون على عدم مغادرة القصور وترك المناصب كي لا تُفضح أعمالُهم ولا تجري مساءلتُهم من قبل القضاء، في حالة انتصح الأخير بعد تسييسه وأفاقَ من غفوته وعاد إلى رشده من أجل تحقيق العدالة وإنجاز المهام العدلية الموكلة إليه.
حقًا، نحن ننتظر مفاجأة أقوى قد يُقدم عليها الشارعُ الثائر المنتفض وغير الراضي لما جرى ويجري، مدعومًا بفورة وطنية جديدة لزعيم التيار الصدري أو غيره، بعد إصرار الكتل والأحزاب على عدم التغيير والعودة إلى تفاهمات المحاصصة وإبقاء حكومة الحيتان، لتعود حليمة إلى عادتها القديمة. أما الموقف الأمريكي كراعٍ للسلطة ومعه الحاكم الفعلي للبلد "الجارة إيران"، فهما لا يهمّمها الإصلاح ولا أدواتُه، بقدر ما يسعيان للحفاظ على واقع الحال الحالي وتمرير الأجندات في البلاد بأية أثمان.

لويس إقليمس
بغداد، في 10 نيسان