كم تشتكي وتقول إنك مُعدَمُ / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, أبريل 28, 2014, 07:17:14 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

كم تشتكي وتقول إنك مُعدَمُ








برطلي . نت / خاص للموقع




كلما خرجتُ في بداية الربيع لامضي وقتا بين الاشجار المكلّلة بالورود ،
كلما اطلت النظر في الربيع الى الاشجار التي اعتمدت للمرة الثالثة في نفس اليوم وتأملت القطرات المتمردة التي تلعب دور المصابيح متعلقة باطراف اوراقها ،
كلما نظرت الى الغيوم البيضاء المتراجعة عند حافات القبة الزرقاء ،
كلما دخلت حقلا مخصصا للزهور بمختلف اصنافها والوانها ، 
كلما أفقتُ مبكرا في الصباح قبل بزوغ الشمس ، وسمعت خرير المياه المنسابة نحو مساحات مزروعة بالبقول والخضار ،
كلما توقفت في نفس الصباح الباكر لسماع شدو البلابل التي أخالها جوقات مكلفة بترتيل المزامير ، إذ لا يكاد ينتهي بلبل من لحنه ، يقابله آخر على نفس النغمة او يضيف اليها لمسته الخاصة ،
وكلما قابلني النسيم وجها لوجه ، وانعش وجنتيّ وشرح صدري وجدّد انفاسي ، 
كلما رفعت انظاري الى العلى نحو قبّة اعشق تشدّني بزرقتها الصافية ، ودخلت بعيدا في ثنايا فضائها اللامتناهي ،
وكلما نهضت صباحا وانفتحت عيناي على الشمس التي توزع خيراتها ، نوراً وطاقةً ، على الانسان والحيوان والنبات والجماد ، تبدد ظلام الليل وتبعد المخاوف والهواجس والكوابيس ،
كلما شاهدت كل هذا وسمعته  ، اشعر بارتياح عميق ، وفي غمرة هذه السعادة الهادئة ، أتساءل قائلا : أيحتكم الانسان على كلّ هذا ، وهل يمكن للانسان أن يشتكي وهو مالِكُ كل هذه الطبيعة وجمالها ؟ 
ودون ارادتي ، اتذكر قصيدةً لاحد شعراء لبنان الذين ترعرعوا في احضان الطبيعة  وشغفوا بسحرها وجمالها  فوصفوها شعراً ونثراً ، قصيدةً اتمتم تلقائيا بعض بياتها الاولى التي تقول :

كم تشتكي وتقول إنك مُعدَم           والارض مُلكك والسماء والأنجم
ولك الحقولُ وزهرُها وأريجُها        ونسيمُها والبلبلُ المُترنّم
والماء حولك فضة رقراقة       والشمس فوقك عسجد يتضرّم
والى أخيره من ابيات لا تشبع من التغزل  بالطبيعة الساحرة التي صنعها الله .

في احد ايام الربيع ، حيث كنت بصحبة احد المعارف ، وهو نموذج لقاطني منطقةٍ تحولت معالمُها وتغيرت مبادؤها على حين غرّة ، تناولتُ هذه الابيات ، وكعادتي تغنيت بها بحماس وانطراب حقيقي . ابتسم صاحبي وقال : أراك مندمجا مع كلماتك وألحانك ، لاشك ان ما قلته جميل ، ولكن الا تدرك بانك غاطس في عالم الخيال والسذاجة ، هل انت فعلا مقتنع بما تقوله هذه الابيات ؟
قلت له انا لست مقتنعا فحسب ، بل اجد نفسي في قمة السعادة . قال لي : ان ما أتى به شاعرُك ليس واقعيا ، كيف للانسان ان يغدو سعيدا بمجرد النظر الى السماء ، وسماع البلابل واستنشاق النسيم ورؤية الازهار واشعة الشمس؟ كيف يمكنه ان يشعر بسعادة وهو لا يملك شيئا ملموسا مقيّداً باسمه من بيوت واراضي واموال ؟  هل نظرتَ مليّا الى نفسك ؟  وهل السماء والشمس والنجوم والزهور توفر لك الرفاهية في الحياة ؟
قلت له إنّ ما تمنحني إياه الطبيعة ثروة لا تقدّر بثمن وهي مقتنىً لايقوى احد على انتزاعه منّي . أنا اكتفي بكوخ يأويني ولقمة عيش تسندني لان البقية توفره لي الطبيعة الجميلة في كل لحظة وكل مكان . ممتلكاتي ليست محصورة بقيد أو سند اوحدود او ارقام  ، وبالرغم من ذلك تبقى مُلكا لي مهما قست الظروف وتغيرت الاعراف وتضاربت القوانين ، أما انت ، فان ما تملكه بموجب قيود وسندات وخرائط وارقام ، كله معرّض للخسارة والتغيّر والحرق والنهب والافلاس ، وقد تنقلب امورك لاتفه الاسباب ، فتزول معها سعادتك . إن ما أمتلِكهُ أنا ، والذي يغمرني بسعادة حقيقية ، هو لي وسيبقى ، وبوسعي التمتع بهذه الثروة بمجرد رفع انظاري وفتح شبابيك افكاري .
قلت له ايضا : انا أعجبُ كثيرا لأنسان يغضّ الطرف عن جمال الطبيعة الذي هو موضوع تمنيات واحلام الضرير . أمنية الرجل الضرير هي الحصول على فتحة ، بسعة خرم الابرة ، ليتمتع  برؤية ما خلق الله .
من جهة اخرى ، أودّ ان اذهب ابعد من ذلك لأقول : ان الفرح الذي يغمرني  كلّما فكرت بان العالم  ، بسمائه وشمسه ونجومه وغيومه وامطاره واشجاره وزهوره وطيوره ورياحه وكل جماله ، هو مُلك لي ، يدعوني هذا الشعور للتصور وكأني قد بدأت أبديتي على الارض ، لان الانسان يقيس سعادته بما تشاهده انظاره وتشعر به نفسه . جمال الطبيعة يحمل بصمات خالقه ، وجمال الطبيعة من جمال الله . فاذا كنا نبصر جمال الله في الطبيعة ، نكون قد بدأنا برؤية الله نسبياً ، وباعتقادي الشخصي ، هذه السعادة ، رغم ضآلتها ، هي مقدمة للنعيم الابدي الذي يُنشده الانسان .
بعد انتهائي من التحليل والتفكير ، إلتفتُّ الى صاحبي كي اقرأ انطباعاته ، واذا به قد غادر المكان  نظريتي بخصوص الطبيعة لم ترُقْ له لانه لم يجد فيها أي مكسب مادّي . كان الاخ يقيس سعادته بمقاسات جيوبه ونصف قطر انتفاخها . كان صاحبي يرتبط بمجموعة اندهشت هي نفسها مما أمطرت عليها الاقدار دون تعب ، مجموعة اضحى اعضاؤها أناسا تافهين من كثرة اهتمامهم بالمادة ومضاعفتها .
عندما رأيتُ نفسي وحيدا ، وجّهت انظاري الى آفاق بعيدة وشرعت اتغنى بالتلال والآكام والجبال والرياح والسنابل ، لانها هي وغيرها وجدتُها مدرجة على قائمة ما توزعه الطبيعة مجانا .







Matty AL Mache