السريان يؤرخون الحملات الصليبية كانوا مراقبين لها ولم يشاركوا في وقائعها وأحداث

بدء بواسطة matoka, أبريل 04, 2011, 11:53:04 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

   
السريان يؤرخون الحملات الصليبية

كانوا مراقبين لها ولم يشاركوا في وقائعها وأحداثها




«الحملات الصليبية كما يرويها المؤرخون السريان» إفرام عيسى يوسف «دار الطليعة» - بيروت 2010

بيروت: سمير شمس
موضوع الحملات الصليبية التي هزت المنطقة منذ تسعة قرون، لا يزال طازجا، ويفرض نفسه على الأحداث المعاصرة في هذه الفترة المضطربة التي تكاد تتماثل فيها الصراعات أسبابا ونتائج.

فمنذ أن كتب أمين معلوف كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» عام 1989، لفت النظر إلى النظرة المدرسية التي يروج لها الغرب لهذه الحروب وبداياتها وغاياتها، فما كان متفرقا عند عدد من المؤرخين الغربيين الذين جاهروا بعدم صليبية الحرب أو أي أهداف دينية لها، جمعه أمين معلوف في مؤلفه ليكمل طريقا لإدانة هذه الحروب المليئة بالدماء والمجازر والأهوال، بدأه مؤلفون غربيون كبار مثل فولتير خاصة أن الكتاب كتب بالفرنسية في الأصل.

فالكتب المدرسية في الغرب ما زالت تغذي الذاكرة بالتقوى والواجب الديني لتحرير القدس، وتخلع على «غوديفروا دوبويون» هالة من القدسية والتقوى والفروسية، فيرسخ في مخيلة الطالب ما لهذا الرجل من فضل يلهب الأحاسيس ويرفع المعنويات، ويؤجج الذاكرة لتستعيد فضيلة تحرير القدس، وتمجد أبطالا اندفعوا تحت راية الصليب من أجل قضية دينية نبيلة.

ما يسعى إليه المؤلف هو إظهار جانب آخر لهذه الحملات، وهو المنظور الذي قدمه المؤرخون السريان للحملات الصليبية، الذي تميز في رأي الكاتب بقدر من الموضوعية نظرا لحيادية السريان في هذه الحروب فكانوا لها مراقبين ولم يشاركوا في وقائعها وأحداثها.

لقد عاش المؤرخون السريان، أمثال ميخائيل السرياني، والمؤرخ الرهاوي المجهول، وابن العبري، في تلك الفترة، وتطرقوا في كتاباتهم إلى مغامرة الصليبيين، التي أثرت على المسلمين وعرضت حضارتهم إلى مخاطر مختلفة، ومست أيضا المسيحيين السريان أنفسهم، وأثرت سلبا على حياتهم.

إن نصوص هؤلاء المؤرخين غير معروفة من قبل الكثيرين من عامة القراء، وهي في أغلب الأحيان غير مطبوعة أصلا، لذلك رأى المؤلف أن يعطي القارئ المعاصر فكرة أخرى عن هذا الموضوع المهم.

عاش السريان في المشرق وفي قلب الإمبراطوريات الكبرى، على أراض ضربتها رياح الحروب العاتية. وعلى امتداد العصور تعرضوا إلى غزوات متعددة؛ موجة إثر موجة، من غزوات الإغريق والرومان والفرس والسلاجقة الأتراك إلى هجمات المغول. وانقسموا في القرن الخامس الميلادي إلى فرعين هما: السريان الشرقيون الذين أطلقت عليهم تسمية «النساطرة» الذين عاشوا في بلاد ما بين النهرين وإيران، والسريان الغربيون المعروفون بـ«اليعاقبة» الذين استقروا في سورية وأعالي ما بين النهرين، ومنهم الموارنة في لبنان.

لم يكن السريان يعرفون الشيء الكثير عن الفرنجة القادمين من أوروبا الغربية البعيدة، حينما اجتاح هؤلاء في نهاية القرن الحادي عشر للميلاد شواطئ سورية وفلسطين، مصممين على محاربة المسلمين بحجة تحرير قبر المسيح في القدس.

رسم المؤرخون السريان الذين كانوا يعيشون في معسكرين متصارعين على امتداد صفحاتهم لوحات عرضوا من خلالها صور قادة الجبهتين، فكما صوروا بوهيمند وتانكريد وبودوان ولويس التاسع ملك فرنسا وريكاردوس ملك إنكلترا، صوروا نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي والملك العادل والملك الكامل، وقدموا من خلال هذه الصور قراءة مختلفة لفها الإهمال. وفي الوقت الذي دونوا فيه وقائع محاولات المسلمين لدحر قوات الفرنجة ونجاحاتهم وانتصاراتهم، دونوا هزائم الأتراك السلاجقة والأرتقيين وغيرهم، ولم يهملوا الإشارة إلى التحالف بين ملوك القدس والبارونات مع بعض الأمراء المسلمين.

كما روى المؤرخون السريان أيضا الأحوال اليومية للمقاطعات والمدن المتألقة، مثل القدس وكنيسة قبر المسيح ومسجد الخليفة عمر، ومدينة عكا التي كانت تمتلئ بالبضائع الغنية بكل أنواعها وأشكالها، وصور بمينائها الواسع، ودمشق بجامعها الأموي وبالأسلحة المعدة للدفاع عنها وبمختلف أنواع صابونها، وطرابلس بقلعتها الحصينة، وأنطاكية بأسوارها المنيعة وبجمال أنسجتها الحريرية، ومدينة حلب وقلعتها، ومدينة الرها ومدرستها وأديرتها جوهرة السريان، والموصل بمسجدها المائل ونسيج قماشها «الموسلين» الذي أقيم معرض لأنواعه وفنونه عام 1250م. في مقاطعة بافاريا الألمانية.

ينفرد ابن العبري، كما يقول المؤلف، بوصف الأحداث التي صاحبت وصول المغول ومواجهة مماليك مصر لهم، وأرخ عن الفرنجة الذين استطاعوا النجاة من الهزيمة وكيف تمكنوا من الهرب باتجاه البحر من معركة دموية هائلة كانت في مصلحة المسلمين وشكلت محطة تاريخية أنهت ذلك الحلم الإقطاعي المتمثل في الوصول إلى الشرق والتشبث فيه للبقاء على الأراضي المقدسة بقاء استمر لمدة بلغت مائتي عام.

يلفت المؤلف إلى أن المؤرخين السريان لم يكرسوا كتبا تاريخية خاصة بالحملات الصليبية، كما لم يستعملوا في تواريخهم مفردات «الحملات الصليبية» أو «الصليبيون» بل استخدموا تعبيرات ومصطلحات «رحلات» وتحدثوا عن «هجرات» الفرنجة أو «أسفار» ما وراء البحار. ولم يقوموا بذكر عدد هذه الحملات. بل دونوا الأحداث من وجهة نظر تختلف عن المصطلح المعروف بالصراع بين الشرق والغرب. فقد كان الشرق وفق التعريف الذي أعاد استعماله المؤرخ ميخائيل السرياني بعد بطريرك أنطاكية «ديونوسيوس التلحمري» يعني المناطق الواقعة شرق نهر الفرات، بينما كان يعني بالنسبة للفرنجة من حدود فلسطين لغاية غرب الفرات.

كما يلفت المؤلف إلى أن المؤرخين السريان قاموا بإعداد تسلسل زمني لنقل الأحداث ضمن سياق تقويم خاص بهم، فكانوا يستعملون التقويم السرياني الذي بدأ استعماله في الأول من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 312 قبل الميلاد، والمعروف أيضا بالتقويم اليوناني «للتعبير عن لون أفكارهم وبذرة استدلالهم» كأحفاد لبلاد ما بين النهرين.

المؤرخون السريان الثلاثة الذين اعتمد عليهم المؤلف فأورد مقاطع وافرة من كتبهم ليولف تاريخا متكاملا للحروب الصليبية هم:

ميخائيل السرياني (1126 - 1199م). كان ابنا لأحد الكهنة، ولد في ملطية التي كانت تابعة لأرمينيا الصغرى. استولى البيزنطيون على هذه المدينة من العرب عام 931م. واستعادها الأمراء الأتراك المسلمون عام 1101م.

دخل دير «برصوم» للسريان الغربيين ورُسم قسا، ثم أصبح رئيسا للدير فبطريركا سنة 1166م. زار أنطاكية التي كانت خاضعة للصليبيين عام 1168، كما زار القدس حيث لقي معاملة لائقة. وأعاد الزيارة عام 1177م. والتقى في عكا بملك القدس بودوان الرابع. توفي في دير مار برصوم عام 1199 وقد ناهز الثالثة والسبعين.

وضع ميخائيل مؤلفات دينية عديدة، وكتاب التاريخ الذي عالج أمورا تمتد من بدء الخليقة ولغاية سنة 1195. يتألف الكتاب من واحد وعشرين مجلدا، وتبدأ الأخبار المتعلقة بالحملات الصليبية من الكتاب الخامس عشر - الفصل السابع.

عاش ميخائيل السرياني في عصر الحملات الصليبية الأولى. وزار أماكن كثيرة من التي غزاها الصليبيون، ومن موقعه الديني صور أحزان ومعاناة السريان الذين يعيشون في المناطق المحاذية للإمبراطوريات والممالك المتحاربة، فقدم صورة حية رسمها بحساسية يمكن أن تشكل مساهمة في قراءة تاريخ الحروب الصليبية.

المؤرخ الرهاوي المجهول: ترك لنا مؤرخ سرياني آخر غير معروف أخبارا مفصلة عن الحملات الصليبية الأولى، يظهر هذا الرجل ككاتب ماهر، وتفصيلي عندما يتعلق الأمر بمدينته «الرها». ومن المؤكد وفق تاريخه أنه عاصر الأحداث التي جرت بين عامي 1187 - 1237. وقد كان موجودا في مدينة القدس عندما حاصرها صلاح الدين عام 1187م. فقدم للقارئ معلومات ثمينة عن الأيوبيين ومواقعهم مع الصليبيين.

ينقسم كتابه «التاريخ» إلى قسمين: القسم المدني الذي يغطي فترة تاريخية تمتد حتى سنة 1237م. لم يصل إلينا منه إلا حتى سنة 1234. أما القسم الثاني، فيسرد الحوادث التاريخية للكنيسة ويروي تاريخ البطاركة السريان الغربيين. وينتهي هذا القسم الذي بترت أجزاء من نصه عام 1204م.

يبحث الرهاوي، كما يرى المؤلف، عن حقيقة الأحداث والوقائع في سرد ومعالجة هذه الأحداث باعتباره مؤرخا لها وليس طرفا فيدقق في المعلومات، فتعددت لديه الروايات للحادثة الواحدة التي لم يشاهدها بأم العين، ويقيم الوقائع التي عاصرها وكان شاهدا عليها.

ابن العبري (1226 - 1286م): ظهرت عند السريان شخصية مهمة أكملت سرد أخبار الحملات الصليبية وقدمت عرضا للوقائع التاريخية في القرن الثالث عشر للميلاد. ولد أبو الفرج جمال الدين، الابن الرابع للطبيب هارون سنة 1226، وقد أطلق عليه لقب ابن العبري نظرا لولادته في قرية «عبرى» الواقعة على نهر الفرات.

انكب ابن العبري على الدراسة منذ صغره، وفي سن السابعة عشرة من عمره رأى الغزو المغولي لملطية ونهبها وإبادة معظم سكانها، فسجل تلك المآسي وسير هذه الأحداث المأسوية التي كان شاهدها العيني.

وحدث أن سقط «ياسور» القائد المغولي مريضا وقام الطبيب هارون بمعالجته وتمكن من شفائه، واعترافا بجميله، سمح هذا القائد لهارون وعائلته بالهجرة إلى أنطاكيا. وهكذا تابع ابن العبري دراساته في المواضيع الدينية والفلسفية والطب والبلاغة والنحو، وقام بكثير من الأسفار قاصدا المكتبات ودور العلم، وأقام ببغداد وتتلمذ على أمهر النحويين وعلماء اللغة مما أكسبه معرفة معجمية واسعة.

كتب ابن العبري بالعربية والسريانية في مجال الفلسفة واللاهوت والتاريخ وقد وصلتنا جميعا. ومن أهم كتبه «تاريخ الزمان» الذي كتبه بالعربية واختصره في كتاب سماه «مختصر تاريخ الدول». وراجع المخطوطات المحفوظة في مكتبة «مراغة» الكبيرة. وقد ذكر في مقدمة الكتاب بأنه قد سد في كتابه هذا ثغرات الكتب السابقة له.

يشتمل الكتاب، إضافة للسرد التاريخي، على تراجم لحياة ملوك وقادة وأطباء وفلاسفة وعلماء، وتحدو الكاتب المعرفة وحب العلم لإنجاز مهمته، وهو الذي لم يتوقف على امتداد حياته عن القراءة والكتابة.

يؤكد المؤلف وهو يعيد ترتيب الحملات الصليبية وفق الكتب السريانية الآنفة، أن الحملات الصليبية لم تؤد إلى أي إنجاز، بل جلبت البؤس ونشرت سوء التفاهم بين الشعوب. لكن الأحداث أتاحت لهم أن يلعبوا دورا سياسيا في الشرق، ولم يترددوا في اختيار تحالفات سياسية مع أمراء مسلمين، كما أنهم لم يستطيعوا التأثير في السريان الذي كانوا متعودين منذ عصور طويلة على العيش وسط المحيط المسلم، فلم يظهروا موقفا متشددا للمسلمين ولا موقفا منحازا للفرنجة.

لقد حان الوقت لمراجعة مؤلفات هؤلاء المؤرخين وغيرهم ممن ألفوا في الملل والأديان الأخرى، وإغناء الذاكرة بما طمسه الخصوم كل من جهته، بحثا عن لقاء واضح مع التاريخ من وجهات نظر متعددة ومختلفة.





Matty AL Mache