تسلسل منطقي أفضى بأفكاري الى حياتنا الابدية/شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, ديسمبر 15, 2018, 08:01:02 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

تسلسل منطقي أفضى بأفكاري
الى حياتنا الابدية     
   


برطلي . نت / بريد الموقع

شمعون كوسا



عند كل مقال اجد الحيرة تكتنفني من كافة الجهات ، ولكن هذه المرة ، قررت ان اعالج حالتي هذه بحركة تتمثل بغربلة الحروف ورميها على منديل امامي ، علّني اهتدي بصدفة غريبة الى كلمة او جملة تطلق الشرارة الاولى التي تلهب قريحتي . أعدتُ لعبتي السحرية هذه عدة مرات، ولكن دون جدوى. في الآونة نفسها ، كنت اصغي الى  موسيقى هادئة ترسم الخطَّ  للحنٍ شجي يقوده صوت جميل. وكعادتي ، وبالرغم عني ، اخرجني هذا الصوت من العالم المنظور وبِتُّ ارتفع ، لأحوم تارة ، واطوف طورا . اتوقف في لحظة انتشاء ،  واسبح من جديد ذات اليمين وذات الشمال في هذه الاجواء ، متمسكا بالوتر الذي انتزعني وادخلني في حالة انخطاف ، حالة سعادة تملا النفس احساسا خاصا ، يتعذّر وصفه.
بعدما انتهت لحظاتُ غيبوبتي السعيدة هذه ، سألت نفسي ، ما كنتُ قد قلته عدة مرات قبل ذلك : هل يُعقل ان ينتهي هذا الاحساس الجميل بعد الموت ؟  وبما اني ادفع  دوما بأفكاري الى آخر حدودها ، تساءلتُ وبصورة جذرية : وهل يؤمن الناس حقا بالعالم الاخر؟ أم إن المفهوم يرتبط بتقليد اعتاد عليه الناس ، بترديد  عبارات مسبقة الصنع ، دون تفكير وكأنّ هدف قائلها هو التملص والابتعاد بسرعة عن هذا الجوّ الكئيب ،  فيقوم بتأدية  واجبه بسرعة ، وكأنه يسدّد الدين المترتب عليه عبر عبارة التعزية ، رحمه الله في جنته وصبركم على بلواكم.
اذا كان الناس فعلا يؤمنون بحياة الآخرة ، اعني بالسعادة التي لاحدّ لها التي  ستغمرهم هناك ، ما بالهم لا يفرحون عند دنوّ اجلهم ؟ اليس الموتُ المَعبرَ الذي ينقلهم الى دار السعادة ؟  لماذا لا يَبدون متلهفين للّحاق بمن كانوا يحبونهم ، أقارب ، عشّاقا ، اصدقاء أوأعزاء ؟ هل فعلا هناك قناعة وايمان حقيقي بهذا؟
واذا انتقلتُ الى الجانب المظلم من الموضوع ، هل يفكر من عاش تحت التهديد بإمكانية لقاء من كان ينوي له الشر؟ وهل يتهيّب آخرون من لقاء من كانوا يبغضوهم ولا ينسجمون معهم  ولا يرتاحون الى معاشرتهم ؟ هل يخشى الشخص المدين لقاءّ دائنه ؟ هل يخشى السارق والكذاب والنمام والقاتل من لقاء ضحاياهم ؟ باعتقادي هذه تساؤلات لا تخطر ببال احد ، لاننا نعتبر الموت خاتمة تُلاشي الراحل وتمحوه من الوجود  فتحلّ المشاكل كافة ، ولاجله ، في كثير من الاحيان نتمنى الموت لهؤلاء لكي يختفوا الى الابد . ولكن يبقى السؤال ، وإذا حدث وأن رأينا نفسنا هناك وجها لوجه معهم ؟!!
وبعد ان قلبت صفحات كثيرة ، بلغت زاويةً اخرى من الابدية ، فقلت : اذا اعتبرنا بان الناس منذ بدء  الخليقة سيقفون امام الديان ، ألا يجب ان تتوفر لهم المساحة الكافية هناك ؟ هل بامكاننا تصوّر مليارات المليارت المليارات ، ومليارات أخرى ، ممن عاشوا وتوفوا ؟
وقفزت الى فقرة اخرى وقلت : هل الطفل الذي مات طفلا سيبقى طفلا هناك ؟ والذي فقد احد اعضائه ، هل سيَمثل  هناك مقطّعا او معوقا ؟ وهل الاعمى او الاعور يستعيدان ما فقداه ؟ وهل كبار السن والعجائز يحتفظون بعكازاتهم . والسرد يطول . وهل هناك موضع حقيقي يأوي هؤلاء تحت قبة مترامية الاطراف أم فضاء مفتوح لا حدّ له ، لانه قيل لنا بان المثول ،على الاقل في اليوم الاخر ، يكون بالنفس والجسد .
ومن جهة اخرى ، ما هي الابدية ؟   باعتقادي ، هذا تساؤل  بعيد كثيرا عن تفكير عن الناس ، وقد يكون هذا آخر همومهم واهتماماتهم . بقناعتي ، ان الناس في قرارة نفسهم لا يريدون التعمق في هذا الموضوع لانه يُخيفهم من جهة ، ومن جهة اخرى ، إنهم يجهلون تماما حقيقة ما يجري في العالم الاخر، وبصراحة أشدّ إنهم لا يؤمنون به كثيرا به ، لانه موضوع بعيد ويكتنفه الكثير من الغموض.
كل ديانة لها نظريتها في موضوع الابدية. فالله الذي اختار ابراهيم ، والذي يُفترض بانه يكون نفس إلهنا  ، لم يعده ، (لا هو ، ولا اولادَه )، بحياة ابدية ولكن كان يكتفي دوما بتأكيد وعوده بزيادة نسله على الارض ، وتأمين انتصاره على أعدائه ، وايصاله الى ارض الميعاد. ديانة اخرى وعدت اتباعها في الاخرة بسعادة جسدية مادية محضة ، اما نحن ، كما فهمناها بخطوطها العريضة ، هي سعادة روحية ، نظـّرَ حولها اللاهوتيون الكبار ، ولكنها تبقى خاضعة لمخيلة كل شخص ولما يتمناه من السعادة الداخلية.
اما انا ، اذا كان لا بدّ لي من الافصاح عن فكرتي وامنيتي ، اقول : امنيتي هي ان اراها امتدادا للدقائق التي اكون اشعر فيها وأنا في قمة السعادة . ارتياح داخلي ، وطمأنينة ، وتَرَفّع عن متاع الارض وهمومها . من جهة اخرى هل ستكون السعادة متساوية او متشابهة للجميع ؟ باعتقادي لا . انها نسبية ،وتعتمد على قابلية كل شخص  وسعة تفكيره ومدى احساسه . فالناس لا يشعرون بنفس السعادة ولا تندلع سعادتهم لنفس الاسباب.   نوع السعادة وكميتها تختلف من شخص لأخر ، فالشخص المرهف الذي وسّع مساحة افكاره  يكون وعاؤه عميقا  وسعادته اشدّ.  وآخرون ، لان وعاءَهم صغير، فانه يمتلأ بسرعة ، وامثال هؤلاء نجدهم عادة بين من لا يذهبون عميقا في تفكيرهم ، وهم اناس سطحيون ، يفتقرون الى احساس مرهف ، فهم يضحكون لأتفه الاسباب ، وكلامهم تنقصه الكثير من الروابط ، وانا شخصيا عرفت الكثير منهم !! هؤلاء، لحسن حظهم،  سعادتهم محدودة وهذا يكفيهم .
تساؤلات لا حدّ لها، واذا استرسلنا بكتابتها نحتاج الى مجلدات  يصعب الحصول على موافقات لطبعها ، ناهيك عن عدم توفر الوقت لذلك . أنا لا اريد ان انهيَ الموضوع بقول الشاعر الذي قال :
يا صديقي ، لا تعلّـلني بتمزيق السّتور ، بعدما أقضي فعقلي لا يُبالي بالقشور . إن أكن في حالةِ الادراك لا ادري مصيري ، كيف ادري بعدما أفقدُ رشدي ؟
ولا اريد أن انهيَه ايضا بقول جدتي التي ، عندما كنا نسألها عن الملكوت ، كانت تقول : كيف لي ان اخبّركم بذلك ، هل رأينا شخصا قادما من هناك ،  يحمل على قفاه علامة فارقة ؟ كانت تقول هذا بالرغم من مسبحة الوردية التي لم  تفارق يديها يوما.
العتب هنا على الشاعر وعلى جدتي ، ولكني أنا ، بالرغم من علا مات استفهامي وتعجبي وبعض شكوكي ، وتمشيا مع المنطق الذي احمله اقول ، وهذا رأيي الشخصي فقط : اتمنى من كل جوارحي ان انتقل من السعادة العارمة والطمأنينة التي تجتاح  نفسي لدي سماعي لحنا جميلا وصوتا رائعا ، إلى ابدية ستضاعف هذا الشعور لا محالة.