كيف تدير مصالحك مع قوة عظمى:1- ملاحظات عامة ضرورية

بدء بواسطة صائب خليل, مايو 25, 2011, 03:57:28 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

كيف تدير مصالحك مع قوة عظمى:1- ملاحظات عامة ضرورية


هذا المقال متعدد الأجزاء يعتمد كتاب ستيفان والت القيّم: "تدجين القوة الأمريكية" (Taming American Power – Stephen Walt) منطلقاً.  وهنا لا بد من التنويه بأن الكاتب لا ينطلق من محاولة أن يشرح للدول الأخرى كيف يديرون مصالحهم على حساب دولته نفسها، أميركا، وإنما لكي يتمكن الأمريكان من رؤية الأمر من وجهة النظر الأخرى والتصدي لها او التعاون معها إن أمكن.
كما أن والت ليس ثورياً رافضاً، بل يبدو مصدقاً للأطر العامة للإعلام الأمريكي حول الرغبة الأمريكية في نشر العدل والديمقراطية، لكنه يرى ان حكومات بلاده، وخاصة إدارة جورج بوش، قد سارت في اتجاه لا يناسب ذلك الهدف السامي، وأن النوايا الأمريكية الطيبة تدمرها "أخطاء"، وان استخدام القوة الأمريكية للخير ليس فعالاً بسبب تلك الأخطاء التي تدفع الدول الأخرى بعيداً عنها وتتخذ مواقف مناوئة ومعرقلة لتلك القوة العظمى الخيرة.

التساؤل عن الطريقة الأمثل للتعامل مع القوة العظمى المهيمنة يطرحه على نفسه قادة جميع الدول الأخرى بلا استثناء. وفي كتابه هذا يحاول والت أن ينظر إلى الأمر من منظور حكومات الدول الأخرى التي وجدت نفسها (متورطة) مع قوة عظمى هائلة تسيطر على هذا العالم. حاول ان يكتشف كيف يفكرون؟ ما هي استراتيجيتهم للحفاظ على مصالحهم أمام مصالح تلك القوة التي تفوقهم بشكل كبير؟ هل هناك إمكانية لإستغلال وجود تلك القوة العظمى لصالحهم؟ كيف وبأية شروط؟ متى تنجح تلك المحاولات ومتى تفشل؟ هل هناك إمكانيات للممانعة والمعارضة والمقاومة، ومتى؟ ماهي الستراتيجيات الممكنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحك عندما تعارض تلك المصالح مصالح القوة العظمى؟

يفترض الكاتب أن هناك دولاً لها إرادتها ومصالحها المستقلة عن الدولة العظمى، ويبين أنه ضمن هذا الشرط، فأن هناك إمكانيات ممتازة لتأمين تلك الدول لمصالحها إلى حد بعيد. لكن شرط استقلال الإرادة السياسية للدول الصغيرة، نادراً ما يكون متوفراً في عالم اليوم، فالدولة العظمى، وعياً منها لإمكانيات الدول الأصغر المستقلة الإرادة لإقتسام كعكة المصالح معها، سعت وبقوة لأختراق تلك الإرادات وتحطيمها قدر الإمكان، لكي تؤمّن لنفسها أكبر قدر من تلك الكعكة، وتطمس مصالح تلك الدول لحساب مصلحتها (للدقة: مصلحة من يدير السلطة فيها – الشركات الكبرى).

ورغم ان افتراض استقلال الإرادة وحكومات تسعى بحرية لخيارات وطنية، ليس دقيقاً، فأن تلك الحقيقة لا تقلل من اهمية الكتاب وأفكاره، التي تمثل خطوطاً عامةً خطيرة الأهمية في تعامل أية حكومة ذات استقلالية نسبية كافية، مع القوة العظمى، وفهم فرصها والأخطار المحدقة بها، ومتى يمكن لها ان تدوس على أقدام الدولة العظمى ومتى يكون ذلك شديد الأذى.
أما بالنسبة للدول المخترقة بشدة من قبل الدولة العظمى، او المحتلة من قبلها، فلعل أهمية الكتاب تكمن في دحض الإعلام الإحباطي الذي يؤكد بقاء سلطة تلك الدولة المحتلة مستنداً إلى التخويف بالفارق الهائل في القوة بين الطرفين، فيكفي أن يكتشف الإنسان حقيقة أن هناك فرصاً لإنقاذ مصالحه إن توفرت درجة كافية من الإستقلالية، لكي يجعل من الإستقلال هدفاً لامعاً وممكناً في آن واحد، وأن تشحن تلك الحقيقة آماله وإرادته في العمل من أجلها.

***

تتعامل الدول المختلفة، ليس مع القوة الفيزيائية للولايات المتحدة ولا السياسات التي تنتهجها فحسب، ولكن ايضاً تتاثر بالطريقة التي توصف بها تلك القوة والطريقة التي تقدم بها تلك السياسات، والمعاني التي يتم ربطها بها. وهذا ما يعطي الموضوع التعقيد الذي يزيح الفكرة المبسطة عن أن الفارق في القوة يعني سيطرة القوي التامة على الضعيف.

وليس هذا الأمر مقتصر على الدول، فمثلاً الفارق في القوة بين سلطة الحكومة والسجناء في السجن، فارق حاسم، وكذلك بين السادة والعبيد في مجتمعات العبيد السابقة، وبين قوة سلطة الشركات الكبرى من جهة والعمال من الجهة الأخرى. ويدعم هذا الفارق في القوة الفيزيائية، أيديولوجية تقوم على تصوير العبيد أو السجناء أو الفقراء على أنهم ضعفاء وسيئين لأسباب وراثية اصيلة، وبالتالي فهم يستحقون الوضع الذي هم فيه. ورغم ذلك الفارق في القوة، ورغم دعمه بأيديولوجية مناسبة له، فأن السيطرة التامة تكاد تكون مستحيلة. فحتى عندما تكون إحدى الجهتين متمتعة باحتكار للقوة بشكل شبه تام، فمن الممكن للجهة الأضعف أن تحقق بعض مطالبها، وتقاوم النظام الذي تحاول الجهة القوية فرضه. فيستطيع السجناء إزعاج إدارة السجن إن لم تستجب لبعض مطالبهم، ويمكن للعمال في المعمل مقاومة الضغط من الجهات العليا، بواسطة الإضراب، أو التباطؤ في العمل أو التحجج بأية نواقص في التزامات الإدارة للتأخير، واساليب أخرى.
ورغم فرق القوة بينك وبين طفلك، فيمكنك ان تجبره على الذهاب إلى فراشه، لكنك لا تستطيع ان تجبره على النوم، فذلك يتطلب تعاونه.

فحتى حين يمكن للقوة أن تفرض إرادتها، فكثيراً ما يناسب القوة الأكبر أن لا تستخدم كل طاقتها، وأن تفضل تقديم بعض التنازلات بدلاً من ذلك، خاصة في الحالات التي يمكن لإستعمال القوة فيها أن تتدهور الأمور نحو الأسوأ.

تعتمد الهياكل الهرمية في السلطة في إرغامها الأفراد على الطاعة، ليس على فرق القوة وحده، وإنما ايضاً على ايديولوجيات قوية تشرعن سلطة تلك القوة، بشكل قوانين وانظمة ومؤسسات تساعدها في فرض إرادتها. أما في حالة الدول فلا توجد مثل تلك الإيديولوجية، بل العكس هو الصحيح، فمن الناحية الشرعية فأن جميع الدول صغيرها وكبيرها تمتلك مراكز متساوية، ولها إستقلالها وحقها في تقرير مصيرها، وهذه الأيديولوجية تعرقل ضغط فرق القوة. وكما سنرى فهناك استراتيجيات عديدة يمكن للدولة الأضعف أن تتبعها من أجل أن تخفف من تأثير فرق القوة الذي يعمل ضدها.

الدبلوماسية الأمريكية والتفوق.

تتمتع الولايات المتحدة بفارق في القوة عن أقرب الدول الأخرى، لم تعرفه أية دولة منذ تأسيس الدولة الحديثة. في عام 1850 كانت بريطانيا العظمى تسيطر على ما يقارب 70% من ثروة أوروبا، بينما كانت حصة فرنسا منها 16% فقط. إلا أن ما يميز التفوق الأمريكي هو انه متحقق على جميع المستويات المهمة، وليس الثروة لوحدها. فتمتلك للولايات المتحدة إضافة إلى أكبر اقتصاد في العالم، تفوقاً عسكرياً هائلاً، كما أن سلطتها واضحة على الموسسات العالمية الهامة، ولها تأثير ثقافي وأيديولوجي بعيد الأثر.

وتتمتع الولايات المتحدة ايضاً باستقلالية إقتصادية متميزة، مقاسة بنسبة التجارة الداخلية إلى الناتج القومي الكلي. ففي عام 2000 كان هناك ثلاثة دول تتفوق على الولايات المتحدة في انخفاض نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج القومي، وهو ما يعني ان نسبة التجارة الداخلية فيها عالية، ومن بين تلك الدول الثلاثة، هناك دولة واحدة ذات قوة عسكرية مؤثرة.
وتنفق الولايات المتحدة اليوم ما يقترب من ما ينفقه بقية العالم مجتمعاً على الجيش والتسلح. ورغم هذا الفارق الهائل فهو لا يعطي الصورة الدقيقة عن التفوق العسكري الأمريكي، فإضافة إلى ذلك فأن العديد من الدول المتقدمة عسكريا، هي حليفة للولايات المتحدة، وليست خصماً لها.
ويزيد من الفارق الحقيقي لصالح القوة الأمريكية حقيقة أن التنظيم الأمريكي للجيش أكفأ من بقية الدول، كما أن قدرتها على بناء القوات المقاتلة وتقديم الدعم اللوجستي أفضل من الباقين، في حالة صرف نفس المبالغ. فبينما تمكنت الولايات المتحدة من وضع نصف مليون مقاتل في "درع الصحراء" و "عاصفة الصحراء" ، فأن الإتحاد الأوروبي لم يزل غير قادر على تجهيز 60 الف مقاتل مدرب بشكل جيد. كذلك فأن لدى الولايات المتحدة ما يقارب ربع مليون جندي ينتشرون في حوالي مئة بلد في العالم، وهو ما يتيح لها حرية المناورة وسرعة الحركة. كل هذا إضافة إلى التفوق التكنولوجي ومستوى تدريب المنتسبين.

من طبيعة تنظيم المؤسسات الدولية، والقواعد التي تحكمها، أنه لا يمكن لجهة واحدة، أو مجموعة واحدة، ان تسيطر عليها تماماً، ومع ذلك فأن الولايات المتحدة تلعب دوراً مميزاً في معظم المؤسسات الدولية الهامة. فهي اللاعب الحاسم في حلف شمال الأطلسي مثلاً، ويقود قوات الحلف المتواجدة في أوروبا دائماً ضابط أمريكي. ورغم أن المشورة موجودة في داخل الحلف، إلا أن "المفاوضات في كثير من الأحيان ليست سوى شكليات، ففي جميع الحالات تقريباً، كانت المبادرات الأمريكية هي التي تأتي بالتغييرات إلى الحلف"، كما يقول غليوم بارمنتير، رئيس قسم العلاقات الخارجية السابق في الحلف.
وبسبب ارتفاع إسهامها في منظمات الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها فأن للولايات المتحدة ورقة ضغط قوية تؤثر من خلالها على سياسة هذه المنظمات بشكل مباشر وغير مباشر.
أما من الناحية الثقافية فللولايات المتحدة افضلية كبيرة، حيث أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الأهم في عالم الإنترنت والكتب على السواء، كما أن الأفلام الأمريكية تكتسح السينما في العالم، و جميع أعلى 25 فلم مردوداً، هي أفلام أمريكية.

يردع التفوق العديد من الدول عن تحدي مصالح الولايات المتحدة، حيث يعلم الجميع أن أمامهم دولة قوية وقادرة على الرد، ويدرك الأمريكان ذلك ويسعون لتثبيته وتقويته بشكل مستمر. وفي 1947 جاء في تقرير حكومي "أن السعي إلى أي شيء غير القوة المتفوقة، هو خيار الهزيمة". فلا يجب أن تحضى أهداف أخرى مثل السلم الدولي أو الرخاء الإقتصادي بأولوية على خيار التفوق. وفي أواسط الثمانينات من القرن الماضي قدم غورباتشوف تنازلات وعروضاً غير مسبوقة للولايات المتحدة، لكن الأخيرة لم تقابله بالمثل، بل زادت مطالبها كلما ازداد موقف الإتحاد السوفيتي ضعفاً، حتى ناقشا في النهاية حل حلف وارشو. وعندما اعترض غورباتشوف في 1986 بأن الولايات المتحدة "تبتز الإتحاد السوفيتي للمزيد والمزيد من التنازلات"، أجابه وزير الخارجية حينها جورج شولتز ساخراً منه "جعلتني أبكي عليك"!
وبسبب السعي وراء القوة المتفوقة فأن الولايات المتحدة لم تنزع ترسانتها الهائلة من السلاح حين تفكك الإتحاد السوفيتي، بل استمرت في زيادتها بوتيرة عالية. وكانت كل إدارة أمريكية جديدة تؤكد حرصها على بقاء الهوة بينها وبين بقية العالم. وحتى عندما تتصرف الولايات المتحدة بما يبدو "لطفاً" فأنه محسوب لصالح ذلك الهدف الأول. فبينت إدارة جورج بوش الأب أنه "يجب أن نحسب حساباً لمصالح الدول الصناعية الأخرى لكي لا نشجعها على تحدي قيادتنا للعالم".

ويرى الكاتب أن سعي الولايات المتحدة الحثيث لمنع انتشار الأسلحة النووية ليس سوى جزء من إستراتيجيتها للحفاظ على التفوق في القوة. ففي حالة حصول المقابل على السلاح النووي، فقد تكون له القدرة على ردع وموازنة تفوق الولايات المتحدة الكبير في الأسلحة التقليدية، كما عبر وزير الدفاع السابق ليس أسبن. ومع ذلك فأن الولايات المتحدة لم تتخلّ عن تطوير ترسانتها النووية، فرغم انها فككت جزءاً منها، إلا أن ذلك شمل منها ما أصبح قديما وغير ذي قيمة، وعملت إدارة بوش الثانية على تطوير جيل جديد من الأسلحة النووية، بضمنها القنابل الصغيرة، والتي تعتبر خطرة بشكل خاص، لأنها قد تمثل تحطيماً للخط الفاصل بين الأسلحة النووية والتقليدية، وتهدد بتحويل الحروب التقليدية إلى حروب نووية. وتسعى أميركا من خلال الحرص على إبقاء ورفع التفوق العسكري الكبير، إلى تأمين "حرية العمل" لها وبأي شكل، دون خشية رد فعل رادع، من قبل ما تسميه "الدول المارقة"، كما تهدف "الدرع الصاروخية" إلى تأمين التهديد بـ "الضربة الأولى" دون خشية رد فعل الدول النووية مثل روسيا.

ولنفس هذه الأسباب فأن الولايات المتحدة عرقلت دائماً أي بناء للقوات العسكرية الأوروبية خارج إطار حلف الناتو، (كما كان واضحاً في سياسة إدارات كل من كلينتون وبوش الإبن) والذي يعتبر الأداة المثلى لإبقاء التأثير الأمريكي في مسائل الأمن الأوروبي. وكثرما تسببت محاولات الولايات المتحدة لقيادة الناتو بشكل فردي في شكاوي شركائها الأوروبيين، مثلما حدث في مفاوضات صربيا، دون أن يتمكنوا من فعل شيء. وتسعى الولايات المتحدة اليوم لتجعل من حلف شمال الأطلسي يدها الضاربة، ليس في أوروبا فقط، بل في كل مكان بعد اختفاء الردع السوفيتي من الساحة، وتعكف "لجنة الحكماء" في الحلف بقيادة وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت بكتابة "مفهوم جديد" للحلف يتيح له استغلال غياب القوة المنافسة، ويسمح له بتحطيم المحددات التي وضعها له ميثاقه الأول (الذي تغير عدة مرات) من الإلتزام بالدفاع  عن الأعضاء في حالة رد اعتداء على أراضي دول الحلف فقط، والعمل في تلك الأراضي دون غيرها، وصولاً إلى ما يسمح له بالهجوم و"الحرب الإستباقية" والتدخل في ما يسميه "إرهاب الإنترنت"، بحجج مختلفة استندت إلى تعريف يتوسع بشكل مستمر لكلمة "الأمن"، لتشمل أمن الطاقة وأمن الغذاء وأمن الإنترت وغيرها، وبحجة أن الأخطار التي تهدد الحلف تولد خارج الحلف، وبالتالي فالحلف مخول لردعها قبل ان تشكل خطراً عليه، وبالتالي بضرب الدول التي يدعي أنها تشكل خطراً عليه، وهي قضايا فيها من مرونة المعاني والتشويش ما يكفي لجعل أية دولة هدفاً له، إن ارتأت مصالح اعضائه ذلك، وبغض النظر عن حقيقة خطورتها عليهم أو تهديدها لهم، والأمثلة الحديثة على ذلك كثيرة.

وعلى المستوى الإقتصادي، تسعى الولايات المتحدة الى إلغاء الحدود وتحرير التجارة، وهي سياسة تخدم مصالحها وتزيد قوتها بشكل خاص بسبب الفوارق التي لصالحها مقارنة بأغلب منافسيها في قدرتها على اختراق الأسواق بشكل افضل. وتؤمن سياسة تحرير التجارة واقتصاد السوق والعولمة الأطر المناسبة لزيادة ذلك الفرق في القوة بشكل عام، رغم استفادة بعض الدول الأخرى من تلك الأطر في حالات خاصة. كذلك تؤمن تلك الأطر هراوة قوية لضرب اقتصاد أية دولة قد تجد من مصلحتها أن تنحو نحواً إجتماعياً في اقتصادها، بعيداً عن حرية السوق.
على هذا الأساس وضعت قواعد منظمة التجارة العالمية وقوانينها واتفاقاتها، كما تم إنشاء نظام "حل الخلافات" بشكل يناسب الولايات المتحدة لقدرتها المتفوقة على إيقاع العقوبات الإقتصادية على الآخرين. بالمقابل فأن الولايات المتحدة لا تسمح لتلك القوانين بعرقلة مصالحها حين تطالب بالمعاملة بالمثل. فقد عملت الولايات المتحدة ونجحت في ردع محاولات منع دعم المنتجات الزراعية، كما أبقت حماية ضرائبية عالية على صناعات النسيج، وكذلك لم تمنع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية الولايات المتحدة من اتباع سياسة العقوبات الإقتصادية للضغط على المقابل، والتوصل إلى اتفاقات ثنائية خارج إطار المنظمة وقوانينها، وهي أمور تتنافى تماماً مع روحية حرية التجارة التي تدعو لها.

كذلك أصرت الولايات المتحدة على أن تدخل في مفاوضات منظمة التجارة العالمية اموراً تعد من القضايا الداخليلة الخاصة بكل بلد، مثل مستوى أجور العمل وشروط حماية البيئة، ووضعت على الصين شروطاً عديدة لصياغة سياستها الإقتصادية، قبل قبول انضمامها إلى المنظمة. وغالباً ما تشترط المنظمة على الساعين لدخولها أيضاً السرعة في التغيير، رغم الإضطرابات الداخلية التي تصاحب ذلك التغيير في الهياكل الإقتصادية لدى العضو المرشح. وكان على الصين وغيرها، قبول شروط وقوانين لم يكن لها فرصة في كتابتها ومناقشتها، فكما يقال، فان منظمة التجارة العالمية "صنعت في الولايات المتحدة" (وإلى درجة أقل، في اليابان وأوروبا).
وجرى نفس الأمر في تحرير حركة النقد، حيث كان معروفاً مسبقاً أنه يخدم بشكل خاص البنوك الأمريكية الكبرى، وهو ما حدث بالفعل، والذي يتيح لأميركا المزيد من القدرة على فرض الشروط التي تناسبها في التعامل المالي الدولي.

وفي سعيها لتثبيت تفوق قوتها، سعت الولايات المتحدة أيضاً إلى "تحرير" نفسها من الإلتزامات القانونية الدولية. ورغم أن كلينتون وقع بعد لأي على الإتفاقية لإنشاء "المحكمة الجنائية الدولية" التي تهدف أساساً إلى محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فأن جورج بوش الأبن سحب ذلك التوقيع، وخاضت إدارته حملة كبيرة من الضغط على الدول الأخرى لرفض توقيع الإتفاقية أو حتى سحب توقيع الدول التي فعلت ذلك. ولعل تذكر تلك الحقائق يبين النفاق الذي لا تتورع عنه الولايات المتحدة حينما تطالب باحترام تلك المحكمة في لبنان والسودان وصربيا وغيرها.

ورغم أن الإدارت الأمريكية التي سبقت بوش الإبن، سعت جميعاً لتثبيت التفوق الأمريكي، إلا أن إدارة هذا الأخير سعت لتحرير أميركا من قيود القوانين الدولية، وحتى قوانينها الخاصة، التي تحدد "حرية حركتها" في هذا السعي نحو القوة. فرفضت تلك الإدارة أتفاقية كيوتو لوقف التصاعد الحراري للأرض، دون حتى تقديم بديل، بل عملت على تشويه سمعة من يدعو إلى ذلك داخل الولايات المتحدة نفسها، وخاضت حملة نشطة لتشويه سمعة المحكمة الجنائية الدولية والضغط على الدول لرفض توقيعها، ووقفت ضد الجهود الساعية لتقوية اتفاقية منع الأسلحة البيولوجية وعارضت الجهود الدولية التي هدفت إلى وضع اتفاقية لتحديد بيع الأسلحة الصغيرة، وكررت الرفض الأمريكي لوضع اتفاقية لمنع الألغام الأرضية.
وكانت 11 سبتمبر فرصة لفرض المزيد من الشروط والضغوط على المجتمع الدولي وحصر خياراته بين تاييد سياسة الولايات المتحدة، أو "دعم الإرهاب"، وشرعنة "الحروب الإستباقية" وغيرها من المفاهيم الخطرة، والتي رأتها إدارة بوش تخدم سعي الولايات المتحدة للتفوق وإبقائه بعيداً حتى عن طموح الإقتراب منه.

يلاحظ الكاتب (ستيفان والت) أنه في عالم يتكون من دول مستقلة، فأن الأقوى بينها يعتبر دائماً مصدر تهديد محتمل، على الأقل لأن الآخرين لا يستطيعون معرفة ما ينوي هذا القوي أن يفعله بقوته. في عام 2000 حذرت روسيا في تقرير أمني لها من "محاولات لحلق هيكل علاقات دولية يستند إلى سيطرة الدول الغربية المتقدمة... وتحت قيادة أمريكية، مصمم لشكل إحادي من الحلول، بضمنها إستعمال القوة، وفرضها على القضايا المفتاحية الهامة في السياسة الدولية". وأشار بوتين لاحقاً أن الأمريكان "لا يريدون أصدقاءاً، بل تابعين".

ولأن لكل دولة خصائصها المميزة، فليس هناك مفر من أن تتظارب المصالح، فالدول البحرية ترى الأمور بشكل مختلف عن تلك التي ليس لها سواحل، ويناسب كل منها شكل مختلف لـ "قانون البحار"، مثلاً. وهكذا تريد الدول الغنية خفض الحواجز الكمركية قدر الإمكان ، بينما لا يناسب ذلك الدول الأفقر أو الأقل تطوراً التي ليس لبضائعها وشركاتها اية فرصة في المنافسة في سوق مفتوحة.
ومن الطبيعي ان تخشىى الدول الأضعف أن لا تستطيع حماية مصالحها بحضور قوة تفوقها كثيراً. لقد عبر عن ذلك الوضع رئيس الحكومة الكندية السابق بيير ترودو حين قال: "العيش إلى جانب الولايات المتحدة يشبه النوم مع فيل في سرير واحد، فمهما كان لطيفاً، فأن أية حركة منه تؤثر عليك بشدة". ويقول الكاتب أنه في كل الأحوال فأن "من الحماقة أن تفترض الأمم الأخرى ، أن الولايات المتحدة لن تتصرف بطريقة تؤذيهم". ثم يمضي الكاتب ستيفان والت في انتقاد ملطف لسياسة أميركا في الشرق الأوسط ومناقشة الفرضيات الوهمية التي أكدتها إدارة بوش بأنهم "يكرهوننا لما نحن عليه" وليس لتصرفاتنا، وحاول تحديد مصادر الكراهية لأمريكا، وأسباب التدهور في مكانتها الدولية منذ عام 2000.
وأشار الكاتب إلى أن بن لادن نفسه قال في عام 2004 أنه ليس من الصحيح أنه وجماعته يحاربون الولايات المتحدة لأنهم يكرهون حريتها، وإلا لضربوا السويد مثلاً". وكذلك فأن التفجيرات في اسبانيا لم تكن بسبب كره التراث والثقافة الإسبانية، بل بسبب دعم اسبانيا لإحتلال الولايات المتحدة للعراق. ويقدم إيفان إيلاند أمثلة عديدة في العدد 306 من "تحليل السياسة" في مقالة له بعنوان "حماية الوطن: أفضل دفاع هو الإمتناع عن الهجوم"، تبين العلاقة بين الفعاليات الأمريكية والعمليات الإرهابية، فإسقاط ليبيا لطائرة بان أميركان، كان رداً على قصف الولايات المتحدة لها عام 1986، والهجوم على السفينة الحربية "كول" عام 1999 كان رداً على بقاء تواجد القوات الأمريكية في السعودية، وتم قصف القاعدة العسكرية الأمريكية في اليابان بالصواريخ عام 1991 بسبب المعارضة الشعبية لتواجد تلك القوات في اليابان، وأمثلة عديدة أخرى.

ويبين الكاتب أن التأكيد بأن تلك الهجمات كانت بسبب "ما نحن عليه" ليس سوى طريقة للتهرب من الشروط التي تضعها على السياسة الأمريكية إن هي واجهت حقيقة أن تلك الهجمات ناتجة عن تلك السياسة نفسها، مشيرا إلى حقيقة أن "الولايات المتحدة ساعدت على إسقاط ما لايقل عن تسعة حكومات منتخبة بحرية" (إيران 1953، كواتيمالا 1954، غينيا البريطانية 1953\ 1964، اندونيسيا 1957، الإكوادور 1963، البرازيل 1964، جمهورية الدومنيكان 1965، كوستاريكا في الخمسينات، وشيلي 1973)  في الوقت الذي تغض الطرف عن الأعمال الوحشية التي تقوم بها الدكتاتوريات الصديقة في الشرق الأوسط وغيره.
وقد أدت سياسة الولايات المتحدة  في أميركا اللاتينية إلى كراهية شديدة لها من شعوب تلك الدول، على العكس من ذلك الذي حدث في الدول التي ساعدت على تحريرها في الحرب العالمية الثانية.
ويشير الكاتب إلى العنجهية الأمريكية بمثال قول بوش الأب بأنه "لن يعتذر عن الولايات المتحدة، ولا تهمني ما هي الحقائق" عندما ثبت أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وراء إسقاط طائرة الركاب الإيرانية ومقتل جميع من فيها عام 1988، ملاحظاً أن هذا النفاق يؤكد أن الولايات المتحدة تعتبر ضحايا سياساتها ذات قيمة أدنى. ويقول أيضاً، "أن الولايات المتحدة قد تدفع ثمناً غالياً وغير مبرر، بسبب معاملتها لبقية العالم وكأنهم مجرد حجرات عثرة في طريقها" يجب إزاحتها. وأن ما ينطبق على العالم من قوانين لا ينطبق عليها، (رافضة مثلاً تنفيذ حكم المحكمة الدولية عليها بشأن تعويض أثر نشاطاتها التخريبية في نيكاراغوا في الثمانينات من القرن الماضي)، ولا تعترف بالتشابه الأخلاقي بين اعمالها "المؤسفة ولكن الضرورية" حسب وصفها، وبين الأعمال "الوحشية غير المبررة" لأعدائها. لكن هذا المقياس المجحف، وإن كان يصلح لتسويق السياسة داخليا، فهو لا يخدع الضحايا، كما أن ضحايا الاعمال الوحشية تبقى تتذكر معاناتها لمدة أطول بكثير مما يتذكره من قام بتلك الأعمال. لهذا كله تزايد شعور بالعداء تجاه أميركا والإحساس بتهديدها لإستقلالية الدول الأخرى، وصار على الولايات المتحدة أن تتعامل مع هذا الواقع، وعلى تلك الدول أن تبحث في أساليب التعامل مع دولة عظمى تعتبرها عدائية وخطرة.

كتب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق في ولاية بوش الإبن، وأحد أشد الداعمين للتطرف في العدوان الإسرائيلي، بول ولفوتز، وقبل توليه ذلك المنصب ببضعة اشهر، بأن استلام قيادة العالم يتطلب: " أن يتضح للجميع بأن أصدقاءنا ستتم حمايتهم ورعايتهم، وأن اعداءنا ستتم معاقبتهم، وأن الذين سيرفضون دعمك، سوف يرون اليوم الذي يندمون فيه على ذلك".
وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لا يهمها ما يفكر به الآخرون، ماداموا "غير قادرون على إيذائنا"، فتفوق القوة الأمريكية سيحمي أميركا من تلك المشاعر السلبية التي تتزايد ضدها في العالم، بافتراضهم.

لكن هل هذه هي الحقيقة كلها؟ في الجزء الثاني من المقالة سنتعرض إلى "إستراتيجيات الممانعة" المتاحة أمام الدول لرعاية مصالحها في مواجهة قوة عظمى، وفي الجزء الثالث سنتطرق إلى "إستراتيجيات المصاحبة" لتحقيق ذلك الغرض.