اعترافات في المقبرة / شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, ديسمبر 04, 2012, 06:40:33 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

اعترافات في المقبرة







برطلي . نت / بريد الموقع



كثيرا ما في خروجي باتجاه المدينة ، أختارُ مسلكا يخترق مقبرة مجاورة ، تختصر لي المسافة وتوفّر الوقت . إنها مقبرة جميلة بتصميمها ومنظرها الطبيعي . لقد تفحصت القبور وقرأت تواريخها القديمة التي يرقى بعض منها إلى ما قبل مائتين او ثلاثمائة سنة . لم ادخل المقبرة يوما دون أن أردِّد تلقائيا بيت شعر يقول : ( أنظر كيف تساوى الكلّ في هذا المكان ، وتلاشى في بقايا العبد ربّ الصولجان ) . رسّخت لديّ المقبرة بعض القناعات وأضافت عليها أخرى ، كما افسحت لي الجو احيانا في الانطلاق بتخيلات وتشبيهات ، ومن ضمن ما فكرت به ، قلت مثلا : قد تكون المقبرة مساحة الارض الوحيدة التي تخصص قطعا سكنية لكل مولود دون استثناء . القوائم التي تنظمها للتوزيع لا تلتزم بتأريخ او تسلسل او فئة ، فالطفل يأتي في القائمة مع الكهل والشاب ، مع العجوز والطبيب ، مع المنظف والمدير أو الفراش . انها شقق صغيرة مريحة جدا لا يحتاج فيها الساكن الى اكثر من متر او مترين ، كما انها ممتلكات لا تحتمل المضاربة  حيث لا سبيل لاستئجارها او بيعها او اعادة بنائها ، إنها فعلا تحلّ عقدة من لم يحالفهم الحظ في الحصول على قطعة ارض سكنية في حياتهم !!!!

كنت أقول مرارا ، لا بدّ ان يكون لكلّ شخص مدفون هنا قصة او سرّ أو إعتراف معين لم يمهله الزمن على الافصاح عنه أو البوح به . في احد الايام اعترتني رغبة لا تقاوم في التعرّف على هذه القبور وساكنيها ، فتوقفت لدى بعض القبور ، لأتأمل فاتخيل ما خبّأه ساكنوها من ندم أو حسرة أو تمنٍّ أو مجرد رغبة في الكلام . كرّست نصف نهار لهذه الزيارة الخاصة ، وكانت حصيلتي كالتالي :
وقفتُ امام قبر عَمَّرَ صاحبُه طويلاً . إلتزمت الصمت لدقيقتين محاولا تخيّل صورة  الراحل الذي سمعته يقول : لقد عشتُ طويلا وبلغت من العمر آخر مرحلة مسموح بها ، غير اني ارى نفسي وكأني لم اعش يوما واحدا. كم كنت اتمنى الاستمرار على قيد الحياة لاني لم اشبع منها . استغربتُ لكلامه وصراحته ، وعندما رأيته يقفل السياج وينهي المقابلة، انتقلت الى جاره .

سمعتُ جاره يقول : كنت أحتَكِمُ على الكثير من المال ، وعندما احسست بدنوّ أجلي ، سحبتُ مقتنياتي السائلة من المصارف وطلبت ان تُدفَن باكملها معي لاني لم أكن أتحمّل فكرة مفارقتها أوالتخلي عنها للغير، لا سيما وانها كانت ثمرة اتعابي وسبب فرحي وسعادتي في الحياة . لا اعرف من اين أتتني الرغبة الملحّة في الاعتقاد بامكانية نقلها الى العلى . دفنت الاموال في القبر معي غير انها اختفت بعد اسبوع ، ولقد احسست بذلك عندما تعرض جسمي لهواء بارد قادم من الخارج . أصغيت لنزيل هذا القبر بانتباه شديد ، وانتقلت الى قبر آخر.

القبر الجديد قال : كنتُ صاحب اموال طائلة وحصلت على عضوية نادي اصحاب الملايين. كان لي حساب سِرّي لا يعرفه غيري . عندما استُدعيتُ للمغادرة ، اصطحبت معي الرقم قائلا : لعل هناك في الاخرة طريقة لسحب هذه الاموال العزيزة عليّ ، من يعلم !! غير أن خيبتي كانت كبيرة عندما قيل لي : إن عُملتك لا قيمة لها وقد تمّ إلغاؤها ، كان يجب عليك استبدالها ، قبل فوات الاوان ، بشيكات تحمل ، عوض مبالغ  المال ، مفردات العفو والتسامح والصبر والتواضع والوفاء والتضحية والمحبة وغيرها . لم أجنِ شيئا من مال كدّسته طوال حياتي وكنت حريصا عليه ، ندمي شديد وحسرتي أشّد على عدم تمتعي به وأيضا على حرمان اهلي واقاربي منه .

انتقلت الى قبر آخر أسمعَني الراقد فيه ما يلي : وافتني المنيّة وانا في صدد تنفيذ مشروع ضخم كان يشغل جلّ اوقاتي . كان المشروع على وشك الانجاز ، ومهلة شهرين فقط كانت تفصلني عن يوم افتتاحه . لماذا لم يمهلني القدر قليلا لرؤيته لاني كنت اعتزّ به كثيرا ؟

اقتربت الى قبر آخر ، شرع نزيله بوصف مدى سعادته وقال :  كنت فقيرا جدا أو بالاحرى معدوما ، وكان لي في كل يوم معاناة في البحث عن قوت يسدّ رمقي ، كانت حياتي مجرد ذلّ وشقاء . قدوم الموت وضع حدّا لشقائي ، وانا سعيد هنا في شقة صغيرة مسجلة باسمي .

انتقلت الى قبر آخر ، ولم انتظر كثيرا لأسمع ساكنه يقول : لقد تمّ اقتيادي قسرا الى هذا القبر ، توسلت كثيرا ، وناديت وصرخت للحصول على مهلة ساعة واحدة  تمكّنني من لقاء شخص كان سيردّ لي مبلغا كبيرا جدا. كنت اعرف حقّ المعرفة بان المبالغ سوف لن تفيدني بشئ ، ولكني كنت مولعا بزيادة اموالي وبرؤية اصفار تضاف يوميا على  ارصدتي، وها انا الان وسط اصفار مفصولة عن ارقامها .

في صفّ آخر من القبور ، وقفتُ امام راحل يقول : كنت كثير التعلق في الحياة. لم اتخذ عبرة مما اصابني ذات مرة حيث كنت على وشك الموت . نسيت الموضوع وتصرفت وكأني قد اجتزت الخطر وأن الموت سوف يبتعد عني لفترة طويلة ويتفرّغ لغيري . هل أحسّ أحد بطريقة تفكيري هذه وابلغ عني ، لكي يقدم وكيل السفر ويستعجلني بحزم حقائبي ؟

وعند قبر آخر سمعت امرأة تقرّ بان الموت أراحها من آلام شديدة تكبدتها لسنوات طوال . قالت بانها ابتهلتْ كثيرا كي يُدرَجَ اسمُها ضمن الرحلات الاضطرارية ، غير ان القطار اهملها طويلا قبل إيجاد مقعد لها .
وفي القبر المجاور سمعت رجلا يقول : كنت سعيدا مع زوجة جميلة جدا. كانت هي غاية وجودي في الحياة لانها كانت تغمرني بسعادة لا توصف . كنت افكر في كل شي واتوقع كل شئ عدا الموت الذي أودى بحياتي بسرعة وحرمني العيش مع زوجتي .

وعند قبر آخر سمعت شابا يقول ، هل كان يُعقل ان افكر بالموت وانا في الرابعة والعشرين لاسيما وإني لم اكن اعاني من ضعف او مرض او اي سبب آخر . لم اتعرض لقتل أو حادث أو غيره ، ولكني سقطت مكاني وفارقت الحياة. كنت أحمل آمالا كبيرة ، ولكنها ذهبت كلها ادراج الرياح .

وقبر آخر نطق وقال : رجوتُ المسؤولين هنا كي يوقعوا لي اجازة قصيرة للاشتراك في احتفال ديني اكفّر فيه عن بعض ذنوبي ، غير ان الجواب أتى زاجرا وحاسما . قيل لي بان العودة ولو لساعة واحدة مستحيلة ، لقد انتهى وقتك في الحياة وكان عليك التهيّؤ للرحيل قبل ان تأتي الساعة .

وساكن آخر قال : كان بودّي التصالح مع اخوتي وانهاء خلاف قديم  فرّق  بيننا لفترة طويلة ، لقد أرجأتُ المصالحة سنة بعد سنة الى ان أدخلني الموت ، على حين غرّة ، هذا النفق المظلم .

والقبر الآخر لم يتكلم عن نفسه ولكنه قال : بجواري يرقد شاب جميل جدا من عائلة عريقة ، شاب لم يعرف في حياته غير اللون الوردي. كان شخصا حسن الخُلق والأخلاق ، كان يحبه الكبير والصغير ، فحسده الحسّاد ، ولم يكن حسّاده غير اصدقائه الذين طعنوه في ظهره  .

انتقلتُ بعد هذا الى قبر رجل دين عادي توقفَتْ حياتُه لدى سنّ الثمانين . فقال : كان يجب ان احتاط للموت اكثر من عامة الناس ، ولكني كلما كنت افكر فيه اقوم بابعاد شبحه عني . وإذا كان لا بد لي من الاعتراف  فاني اقول : لقد إستغللت ثقة بعض الناس وبساطتهم أحيانا وهذا يضعني تحت مساءلة كبرى ، ومرارة أشدّ تدعوني للقول باني وقعت في حبائل المادة .

أما القبر الذي يحاذيه  ، أطال في حديثه اكثر من غيره ، فتطلعت الى الرخام الذي يعلو قبره لاتأكد من هويته فرأيت باني أمام ضريح مطران يأسف لطموحاته الكبيرة التي لم تتحقق . قال : كنت متمكنا من العلم ، واتمتع بشعبية واسعة ، كنت اطير فرحا لمجرد التفكير بالمشاريع التي كنت مقبلا على انجازها ، كنت محط ّانظار القاصي والدّاني  فأتى الموت وقال لي : لا تفرح كثيرا يا سيدنا لان كل شئ زائل .

مررت على الكثير من القبور ، منها قبر راهبة تتأسف لاحتفاظها بحقد عمّر معها طيلة حياتها في الدير ومات معها دون أن تبوح  به ،  وعروسة  حرمها الموت من حبيبها في الاسبوع الاول من الزواج ، وجندي تعرض لانفجار قبل وصوله الى البيت بعد انتهاء المعركة ، وطبيب خان مهنته ، وشخص آخر يبكي بمرارة لانه توفي قبل   الاعتراف بجريمة ادخلت بريئا الى السجن ، والكثير الكثير من القبور الاخرى التي تنوعت أحاديثها  بتنوع اصحابها .

غادرتُ المقبرة عند آخر ضريح اكتفى بما يلي : انا سوف لن ادلي بأيّ تصريح لاني اعرف بانك ستنشر غسيلا لا احتاج الى نشره .

لقد تعلمتُ الكثير من المقبرة . استعدت كل ما سمعته مرتين أو ثلاث وفكرت مليا بهشاشة الانسان وبهذا الخيط الرفيع الذي يفصل حياة الانسان عن الموت . كنت اقول : هل يعقل ان ينتهي الانسان بلحظة واحدة ، هذا الانسان القوي، العاقل ، الجميل ، المبدع ، الثري ؟ كيف ينقل الموتُ الجميعَ ودون استثناء ، واحيانا بطرفة عين ، الى مشروع الشقق الصغيرة هذه ،التي يكتفي فيها الجميع بمساحة متر أو مترين ؟

انا لا ادعو هنا الى التركيز على الموت او الخوف منه ، بل بالعكس ادعو الناس الى حبّ الحياة والعمل ، وحتى الى جمع المال ولكن دون التعلق به كثيرا ، لانه فعلا لاشئ يفيد الانسان عند الموت ، لا الجاه ولا المال ولا البنون ولا أي شئ آخر. يجب التمتع في الحياة والعيش بحرية تتوقف لدى ابتداء حرية الغير . واذا كان عليّ اختتام الموضوع بكلمتين اقول : كنْ مليونيرا متجرّدا ، لانك اذا عشت متجردا ستعيش بسلام وسعادة وستترك الحياة نحو شقتك الصغيرة ، بعد عمر طويل ، غير نادم على شئ لانك لم تعوّل على اي شئ ، هذا ما اجمع عليه نزلاء القبور .





Matty AL Mache