مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 8

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, ديسمبر 15, 2013, 06:44:09 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 2 الضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة الثامنة


كانت والدتي تطبخ في قدر كبيرة من النحاس علاها السواد بسمك سنتمتر اواكثر . فالماء كان غاليا جدا لا يسمح لها بهدره لغسل انية الطعام . لم ارى امي او اخواتي يغسلن شعورهن الا مرة في الاسبوع . كان ذلك يجري كرتبة طقسية في اثناء الحمام بعد ظهر كل سبت . وكانت والدتي ، وكذلك اخواتي ، يملسن شعرهن بالجيل ـ وهو نوع من الطين ـ ويحككن ارجلهن بحجرة مسننة ليزلن عنها طبقة الوسخ السميكة .
كانت مياه الابار تقل في اشهر الصيف فتجتمع النسوة كالنحل حولها ، وعلى ظهر كل واحدة حبلا طويلا وبكرة ثقيلة وجرة من فخار صنعت في اكوار الموصل . وكان الحبل ينتهي بدلو صغير او كبير يتناسب وقوة صاحبته . كان وزن المرأة وحجمها يلعبان دورا هاما في زواجها . فالرجل كان يبحث قبل كل شيء عن آلة انتاج وامرأة تكون كالفرس . وكثيرا ما كنت ارافق والدتي الى البئر فأرى النساء وقد شددن حول خصورهن الحبال واخذن يعدون تماما كالافراس حتى يبلغ الدلو حافة البكرة . ولم نكن نملك في اول الامر حمارا ، فكانت والدتي تنقل على ظهرها الزبل واكياس الحنطة والشعير والدقيق والحجارة وكل شيء .
لم يكن احد في القرية قد سمع بماركس او بلينين او بغيرهما من اصحاب العقائد الثورية . فالكاهن كان كل شيء الى جانب بعض معلمي المدرسة الابتدائية . وكانت نصوص الكتاب المقدس خبزهم الفكري يرون في تعاستهم ارادة الله ، فلا يرفعون صوتهم . اما السماء ، فكانت الدواء الوحيد لمأساتهم . تصوروها بستانا كثير الماء والظلال ، فنسوا الارض وعذابهم وعلقوا اعينهم بالاخرة . لذلك كان الموت بالنسبة اليهم استراحة نهائية لا حدثا مأساويا . اما موت المرأة ، فلم يكن يتخذ قيمة اكبر من موت بقرة تستبدل على عجل باخرى . فالحياة الشاقة التي كانت تعانيها المراة كانت تقصر عمرها . فكان الزواج الثاني اوالثالث امرا عاديا . وابي ، بدوره ، تزوج من امرأتين .
اقدم ذكرياتي ـ وهي تعود الى ما قبل دخولي المدرسة الابتدائية في السادسة من عمري ـ قليلة اسردها رغم تفاهتها . فهي اثمن بقايا طفولتي . فما يزال يتراءى امام عيني مشهد ( البهلوان ) يرقص على حبل مشدود الى خشبتين على ارتفاع اربعة امتار او خمسة وقد امسك بيده عصا طويلة ـ عرفت بعدئذ انها لحفظ التوازن ـ وارتدى ثيابا ملونة غريبة عن منطقتنا . لا ادري لماذا لم انسه ؟ الغرابته ؟ ام للخوف الذي سيطر علي ، وانا احد قاليه يرقص كالقرد على حبله مرددا صلوات لم اتعود سماعها . كنت اشاهد النساء ، واحدة فواحدة ، يطرقن صدورهن ثم يمررن من تحت الحبل مرارا ذهابا وايابا وهن يصلبن على وجوههن ويطلبن من البهلوان ما يحتجن اليه من نعم . وكنت اسمع الجميع يقولون عنه انه قديس قادر على صنع المعجزات ، فيما هو يلقي عليهم تمائم مثلثة من كيس معلق بحزامه . فتلتقطها النساء ويقبلنها ثم يحفظنها في جيوبهن كقطعة من ثوب ولي .
اما الحادث الثاني فكان مشهد دب يرقصه غجري يحمل في يده دفا ينقر عليه . تجمعنا انا ورفاقي تحت شمس الصيف في عرض الطريق في حلقة واخذنا نراقب الدب وهو يقوم بحركاته البطيئة والقليلة . كان المشهد بعيدا عما يجري اليوم في السيرك مع الدببة المدربة . لم يكن دبا مثقفا كدببة السريك التي نراها في المواسم ، بل مبتدئا خجولا جاهلا مثلنا . ومع ذلك ، كان مشهده اكتشافا رائعا لي . ما يدهشني الان هو السرعة التي تحول فيها خوفنا الى تآلف مع ذلك الحيوان البشع الذي كان اسمه مقترنا في فكري بتهديدات والدتي المتكررة كلما اقدمت على عمل لا يرضيها ، سيأكلك الدب . وهكذا نشأت في محيط من الخوف المستمر . فاذا حاولت ان انزل الى القبو صاحت بي والدتي : سيقبض عليك صاحب العباية الصوفية لئلا اسرق قطعة من الجبن او بيضة . واذا اردت ان اترك البيت بعد الغروب لانضم الى العشرات من رفاقي وهم يلعبون في البيادر ، نادتني باعلى صوتها : سيطلع امامك اللص . اما اذا خالفت امرا لها ورأت كاهن القرية الشبخ بلحيته البيضاء التي صفرها الدخان وثيابه السوداء كصوف الماعز ، تصيح في وجهي : سادعوه ليقص لسانك . ان مشهد الدب قادني لا اراديا الى الكلام عن الخوف . كانت العصا تنتصب امامي في كل مكان . اريد ان اترك الحديث عن العصا الى ما بعد لئلا انسى الحادثة الثالثة .
لا اتذكر من عرس اخي الكبير الا هذه الحادثة الصغيرة . اعدت والدتي فراشا للعروسين في غرفة المؤونة بين صناديق الطين العالية التي كانت تحوي حاجتنا السنوية من الشعير والبرغل والحنطة . دخلت الى هناك عرضا لسرقة حفنة من الزبيب ، ففوجئت به يطردني بعنف . شعرت بانني ارتكبت ذنبا كبيرا ، دون ان اعرف ما هو ، لانني لم افهم في حينه لماذا منعني من الدخول ؟ كانا نائمين .
اريد ان اعود الى العصا . كم مرة سمعت هذا المثل وانا في سنوات الدراسة الابتدائية . العصا لمن عصى . كانت العصا والصلاة متلازمتين . الاولى تقودنا الى قداسة تخولنا حق العيش على الارض ، والثانية تقودنا الى قداسة تفتح لنا ابواب السماء .
كان لمدير المدرسة عصا سوداء ضخمة من الابنوس ، ذات شكل اسطواني ، يستعملها في المناسبات الحافلة . اما سائر المعلمين فتختلف اشكال عصيِّهم مع الايام ، من خيزرانة الى لوح من الخشب استلوه من صندوق قديم او طلبوه من نجار القرية وهم في طريقهم الى المدرسة . وكانت عصي المعلمين شيئا مألوفا تعودته اكفنا واصابعنا وافقيتنا . ومع الممارسة اكتسبنا خبرة دقيقة في قضية الضرب والالم الناتج عنه . وكنت اميز جدا بين اللوح والخيزرانة او قضيب التوت الاخضر ، فاقبع في زاويتي كفأرة امام قط ، كلما رايت معلما يهز عصا من خيزران . اما اذا كان لا يحمل غير خشبة او قضيبا جافا من الصفصاف ، فانشط في التشويش . كان الضرب امرا عاديا متواصلا وكثيرا ما تبادل المعلمون العصي او بعثوا يستعيرون واحدة اذا انكسرت عصاهم . كنت اسمع صوت العصا ، هنا وهناك ، يعقبها عواء التلاميذ وكاننا في دار التوليد ، حتى اذا لم يفلح احدهم معنا بعصاه العادية هددنا بالعصا السوداء . كان مجرد ذكر اسمها يحولنا الى تماثيل من الشمع . غير ان وقف القتال هذا لم يكن يستمر اكثر من لحظات ، تعود بعدها المشكلة الى نقطة الانطلاق : تهديد وضرب بالعصا من جانب المعلم ، وتشويش وعصيان خفي او علني من جانبنا يجعلانه يلجأ الى الاستعانة بالعصا السوداء . وفي استطاعتي ان اتحدث عن قصة المدرسة والعصا بتطويل . فكثيرا ما انتدبت ـ وكان هذا يثير اعتزازي ـ للقيام بمهمة نقل العصي اوتغييرها ، وخاصة جلب عصا المدير السوداء .
.
كنت اريد ان لا اواصل الكتابة في هذا الموضوع . لكنني اشعر بحاجة عميقة وقوية الى ذلك . كانت صورة المدير عندنا مرتبطة بالعصا ، وكان دوره ينحصر في التاديب ، اعني بالضرب وهو الوسيلة الوحيدة آنذاك . وكان المدير فخورا بعصاه وبدوره التاديبي فيخلق المناسبات للقيام بحفلات الضرب العلني في الاجتماع العام ، قبل الدخول الى الصفوف . فيدور ـ بعد تهديدات طويلة ـ على جميع الصفوف ، يتقدمه المعلم او المراقب . فينظر الى المذنب بصرامة ثم يقول ( افتح يدك ) . ويهوي عليها بعصاه وهو يعد : واحدة . اثنتان ... كان العدد يرتفع احيانا حتى العشرة او العشرين ، لان المدير كان يزداد تعصبا كلما حافظ التلميذ على شجاعته وامتنع عن البكاء . كانت الغاية اذن ، ان يبلغ الى النتيجة المقصودة : البكاء . واكتشفت هذه القضية سريعا ، فكنت استرسل في البكاء بعد الضربة الاولى فيفلتني ليهتم بغيري . ومرة واحدة فقط حضرت مهرجانا للفلق . والان ـ بعد ستة وعشرين سنة ـ ارتجف وانا اتذكر المشهد . وذلك حين نادى المدير ثلاثة من اضخم الطلاب في مدرستنا وطلب منهم ان يمسكوا بالطالب المذنب ، ثم امرنا بان ننظر في ذلك الاتجاه . ورأيت عصا المدير تعلو وتهبط دون توقف ، وبسرعة تزداد مع ازدياد عصبيته ، على قدمي الطالب المسكين وقفاه . وكان المعلمون يصرخون به : ابك ايها الغبي . ابك لتنتهي العملية . لكنه كان يصر بعناد البغل على ان يتحداهم ، فيزداد الضرب عنفا ، وتستبدل العصا مرارا ، ويستمر الضرب . كيف انتهى المشهد ؟ لا اتذكر شيئا عن النهاية .
قصة العصا في طفولتي قصة لا تنتهي . كنت اغادر المدرسة في حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر كل يوم ، فاقصد البيت حيث القي كتبي في سلة للبصل او صفيحة بترول فارغة ثم اجلس امام الباب فتأتيني والدتي بالغداء . كان يتالف غالبا من رغيف من خبز التنور الناشف اضعه بين رجلي على التراب ، وقليلا من دبس التمر السائل ارشه عليه في اشكال هندسية . ثم اشرع في قضمه كما يفعل الفأر او الارنب . وما ان انتهي ، حتى القي بحذائي عند العتبة . كان الحذاء في المدرسة اجباريا ، لكنه كان حذاء فقيرا يتألف من نعل جلد الجاموس او قطعة من مطاط دواليب سيارة مهترئة ينسج والدي الجزء الاعلى منه بخيطان غليظة من الصوف يبرمها بيديه . كان الحذاء خفيفا في الايام الجافة ، لكنه كان يتحول في الايام الممطرة الى ثقل لا يطاق ، اذا يتزايد وزنه بفضل الماء الذي يبلل خيطانه والوحل الذي يتعلق بنعله ، فاسير كمن يسير في الثلج اجر اقدامي ورائي جرا . اما عملية تنظيفه ، فكانت اصعب من تنظيف باخرة شحن . اذ كانت تستغرق ساعات طويلة . كان علينا ان نلبسه على حالته حتى نحظى بيوم صحو ، فنعرضه في الشمس ليجف ثم نعمد الى سكين او قطعة حديد او زجاج نحك بها النعل اولا ، ثم نغسله بخرقة مبللة ونضعه في الشمس من جديد لئلا يتقوس الجلد فيصبح استعماله مستحيلا .
كنت ، اذا ، القي بحذائي على المدخل ، ثم اعدو هاربا الى حيث اجد رفاقا ، لاتخلص من صيحات والدتي التي لا تنقطع . حتى اذا دق جرس صلاة المساء اسرعنا الى الكنيسة ، فتلاقينا العصا من جديد . انها هي هي ، وان اختلف اصحابها . كان هنالك الكاهن ، وهو رجل يدخن بلا انقطاع ويسعل ، ثم يبصق في كل الاتجاهات . كان في الخمسين من عمره ، قصيرا يميل الى السمنة ، يضع على راسه قبعة سوداء مستديرة من قماش . وكان الشماس يحمل عصا ، يضعها الاول امامه وهو يصلي ولا يستعملها الا في غياب الثاني الذي كان مسؤولا عن النظام داخل الكنيسة . كان يصفنا على المقاعد الخشبية كالسردين المعلب وينتصب امامنا كتمثال رهيب ، وقد وضع عصاه تحت ابطه وامسك بيده كتاب الصلاة . كنا نخاف منه كما نخاف من الرعد ، فنصلب ايدينا ونتطلع صوب المذبح بخشوع مصطنع ، حتى اذا استدار ليقرأ فصلا من الكتاب المقدس او صلاة لا نفهمها ، تتحول مقاعدنا الى عش للدبابير . ويرتفع الطنين خافتا ثم يعلو تدريجيا . كان يقطع قراءته مرارا ويهددنا بعصاه عبثا ، فيفقد سيطرته على اعصابه . حتى اذا ما انتهى ، توجه نحونا ، وقد احمرت عيناه ، ويهوي بعصاه على اكتافنا وارجلنا وافخاذنا . كان ذلك يدفعني مرارا الى استغلال فرصة انشغاله لاهرب من الباب الغربي واعود الى البيت ، فاجد والدتي والعصا بيدها تطردني قبل ان اطأ العتبة ، وهي تصيح : ( عد الى الكنيسة يا كافر ) . كانت العصا كالخطيئة في كل مكان . اجدها في يد الراعي وسائق الحمير والشيخ . فاذا مررت بجانب غنمه في البيادر ، طاردني الراعي بعصاه وهوى بها على قفاي . وكذلك اذا ارعبت حمارا بنخزة عود في فخذه ، او لم افسح الطريق امام جدي . لم اكن اجد فرقا بيني وبين كلب جيراننا . لم تكن عائلتي تملك كلبا ولا حمارا لفقرها ، الى ان وجدت ذات يوم حمارا سائبا تركوا البدو بعد رحيلهم . فركبته وورائي حشد من الصبيان ودخلت به الى دارنا وكأنني المسيح يوم الشعانين . اتذكر ان والدتي بكت عند موته ، لانه كان يخفف كثيرا من عبئها ، وان والدي ظل صامتا النهار كله ، لانه كان يستعمله لتنقلاته .