الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الثاني عشر)/ بقلم: نينوس اسعد صوما

بدء بواسطة برطلي دوت نت, فبراير 26, 2018, 08:38:43 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الثاني عشر)
الفرق بين النظامين اللحنيين اوكتوإيكوس وإكاديس (3)
في الإنشاد الكنسي (2)     
      

   
برطلي . نت / متابعة

بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم


في هذا الجزء نتابع الفرق بين النظامين اللحنيين اوكتوإيكوس وإكاديس من ناحية الإنشاد الكنسي وسندرس بعض مميّزات الإنشاد في الكنيسة البيزنطية الشرقية لأجل معرفة الفروقات مقارنة مع الإنشاد في الكنيسة السريانية الذي كنا قد درسناه في الجزء السابق من مقالنا، ثم نلقي الضوء على نوعية الأنغام السريانية لأجل المحافظة عليها.
الإنشاد الكنسي البيزنطي الشرقي (الآداء)
يعرّف العلماء الموسيقا البيزنطية بأنها ظاهرة انتروبولوجية "علم الإنسان" عميقة ووسيلة تواصل قد تكون أكثر أساسية من الكلام البشري، وهي أيضاّ أداة فعّالة جدًّا لتهذيب الذاكرة وحفظها. وقد تمّت بلورة أفكارها وتطوير نظامها وتقسيم ألحانها على مناسبات وأعياد وتذكارات السنة خلال العصور والوسطى للمسيحية من قبل أشخاصٍ عباقرة "فلاسفة قدماء ومؤلّفين وموسيقيين ومفكّرين".
وقالوا في أهميتها: الموسيقا أساسيّة لروح الكنيسة البيزنطية، فعندما نرتّل نؤدّي عمل اللاهوت وعمل الصلاة، ونحافظ على ذكرى وحقيقة موت ربنا يسوع المسيح وقيامته الواهبين الحياة.
ولكنيسة الروم (البيزنطية الشرقية) تدوين موسيقي "نوتة موسيقية" خاص بها وقديم جداً وهو معمول به لغاية اليوم، وقد تطور هذا التدوين قليلاً عبر تدرج التاريخ، وهو يتميّز بتعابير وبمصطلحات موسيقية قديمة خاصة به وهي باللغة اليونانية، وهي غير تلك المصطلحات التي ألِفناها في النوتة الحديثة.
وتنقسم هذه الموسيقا من خلال تدوينها الموسيقي إلى جزأين هامين وهما:
الإيصن والميلوس.
– الميلوس يُلبس اللغة العميقة لحنًا تبشيريًّا لإعلان النص والتبشير به.
ويتميز الميلوس بمفاتيحه الموسيقية التي تعبر عن نوعية اللحن ومسيرته وعن درجته الصوتية.
أي هو مفتاح التدوين الموسيقي البيزنطي (النوطة الموسيقية) بعينه كما أكّده لي أحد الآباء الكهنة المختصين في الموسيقيا البيزنطية الشرقية.
– الإيصن هو النوتة الموسيقية (أي العلامة الموسيقية التي تحدد درجة الصوت الموسيقية) التي تضبط اللحن، ويتم إمساكها فيما يرتل المنشد التراتيل، وأغلبها تُمسَك من قرار اللحن.
الإيصن صعب لأنه يتطلّب معرفة وخبرة، وعزيمة إستثنائية ومركّزة من الكورس أو المنشد، ليستطيع الثبوت والركوز بإستمرار على الدرجة الصوتية المطلوبة، أي الثبوت في مكان واحد من ناحية اللحن، بينما يتحرّك المرتّل في السلّم الموسيقي.
غالبًا ما يتمّ إهمال الإيصن لأنّه صعب جدًّا ولأنّ البعض يعتبره غير ضروري. لكنّ الإيصن أساسي لما يحدث في الموسيقا البيزنطية، فهو بمثابة عرش يتموضع فيه اللحن حتى لا يضلّ طريقه ويسقط، وجانب غير قابل للتفاوض عليه في الموسيقا البيزنطية.
لن أسترسل في شروحات ما يتميّز به الإنشاد الديني في الكنيسة البيزنطية الشرقية ولكن سأوضح فقط ثلاث نقاط مهمة لتبيان الفروقات في كيفية الترتيل بينه وبين الإنشاد السرياني.
1- الفخامة في الإنشاد الديني البيزنطي
إن طريقة الإنشاد لألحان الكنيسة البيزنطية قائمة على العظمة والفخامة، والتبجيل الذي يليق (كما يقال) بحضرة ومكانة الآب السماوي العالية، وتحوي هذه الطريقة بحسب رأيي الشخصي الكثير من العظمة المترجمة في الكبرياء التي نراها واضحة في طريقة آداء الألحان من قبل المنشدين والمرتلين وفي جمالية الإيقونات الضخمة المتواجدة في هياكل الكنائس البيزنطية بشكل عام.
وأتصفت الطريقة البيزنطية في الإنشاد خلال التاريخ، بالطريقة الملكية في الصلاة، نسبة لتبني الكنيسة طقوس وتقاليد تحوي الكثير من العظمة والفخامة اللائقة بالملوك والأمراء والنبلاء، خاصة عندما تحولت الكنيسة من اليونانية إلى البيزنطية في القسطنطينية، ولتتغرب بعدها وتصبح أوروبية لاتينية.
لهذا تميّزت الكنيسة البيزنطية عن أخواتها الكنائس المشرقية بأنها تمثل كنيسة الملوك والأمراء والنبلاء وطبقات الشعب الارستوقراطية، حتى أنها استعملت اللغة اليونانية قرون عديدة كلغة أدبية في العظات الكنسية ولمخاطبة الشعب كحالة فوقية منفصلة عن الواقع وعن لغة عامة الناس، حيث كان الأسقف في زياراته الرعوية أثناء عظاته وخطبه الدينية، وقبل تعريب لغة الشعب والكنيسة، يستخدم ترجمان للغة الآرامية التي كانت لغة العامة آنذاك، لهذا وحسب رأيي الشخصي ورأي الكثيرين من النقاد أن الكنيسة البيزنطية ليست كنيسة الشعب والعامة، فتختلف بهذه الجزئية عن الكنيسة السريانية التي تمثل كنيسة الشعب كما بييّنا الأسباب في الجزء السابق من مقالنا، والتي يتميّز إنشادها بالبساطة والعفوية والتواضع المتمثّل بالتذلّل والتمسّكن أمام عظمة الله، وأيضاً بسبب تطابق لغة الشعب والكنيسة في الفترات الأولى لها، إلا أن وقوع إضطهادات وكوارث عديدة لحقت بالكنيسة فحصلت حالة تخلف رهيبة لدى الشعب متمثلة في عدم إتقان العامة للغتها السريانية الآرامية، فدخلت في حالة شبيهة بحالة الكنيسة البيزنطية، وتضطر الى استعمال لغة العامة في العظات والكرازات وبعض الطقوس الأخرى.
2- الدقة في الآداء البيزنطي
إن الألحان البيزنطية وطريقة إنشادها التي لا تقبل الإرتجال في الآداء كثيراً، هي طريقة دقيقة للغاية، لا تقبل التصرف مطلقاً إلا في بعض الحالات والمواضع الخاصة، وكأن اللحن البيزنطي في إستعماله التدوين الموسيقي البيزنطي وتطبيقه لقواعد الإيصن والميلوس، هو نص كتابي يقرأ بشكل واضح وبطريقة واحدة فقط.
لهذا أرى بأن الطريقة البيزنطية في آداء الألحان، هي طريقة دقيقة للغاية من حيث تطبيقها عملياً ورائعة من حيث جمالية سماعها، وساهمت مساهمة فعالة في المحافظة على الألحان الكنسية من الإندثار والضياع والتغيير، وتختلف بذلك عن الطريقة السريانية في الإنشاد التي تعتمد إعتماداً مطلقاً على ذاكرة الكهنة والخدام المنشدين، والتي نتج عن عدم تدوين ألحانها الكنسية وعن عدم وجود طرق أو أساليب لحفظها بشكل جيد من الضياع، تغيّرات كثيرة وفروقات عديدة في إنشادها وآدائها بين الكثير من المدن المختلفة ثقافياً ولغوياً وبين مراكز التعليم وبين القرى المتوزّعة على جغرافية واسعة من البلاد، مما أدّى وبكل أسف إلى ضياع ونسيان العديد من هذه الألحان.
3- الرصانة في الإنشاد البيزنطي
يعود الفضل الكبير في رصانة الآداء إلى العقل البشري الذي يتحكم بطريقة الإنشاد، حيث يلعب هذا العقل دوراً رئيسياً في تنفيذها، ولا وجود دور للقلب كثيراً ولا للمشاعر في التحكم في الإنشاد، إلا في القسم القليل من الألحان القابلة للإرتجال. فَتُعرَّف الموسيقا البيزنطية بأنها موسيقا رصينة ولا تحاكي العواطف لأنها قائمة على القواعد السابقة، ولهذا فإن الطريقة البيزنطية في آداء الألحان تتفق وتتناسب وتنسجم مع طريقة التفسير الغربي للكتاب المقدس العقلانية، التي يتحكم العقل فيها بشكل مباشر وصارم في تفسيرات النصوص المقدسة، وخاصة ما يتعلق في قضية ربط العهد القديم بالعهد الجديد، حيث لا تعطي هذه الطريقة أبعاد تفسيرية أخرى لم تقلها النصوص وتحميلها ما لا تحتمل، كما في التفسير الشرقي الذي تتبعه الكنائس الشرقية الاخرى. فالرصانة في الإنشاد الكنسي البيزنطي هي طريقة تعتمد على العقل وتتوافق مع طريقة التفسير الغربي لنصوص الكتاب المقدس التي تعتمد على التوافق العقلي أيضاً.
أما الطريقة السريانية في الإنشاد الكنسي فتعتمد كثيراً على القلب والروح والمشاعر في أداء الألحان الكنسية، وتتوافق مع الطريقة الشرقية في تفسير الكتاب المقدس، وهي اشتراك العقل والقلب والروح في التفاسير اللاهوتية، وعلى ربط العهدين العتيق والجديد ببعضهما بشكل فاعل في الكنيسة.
المحافظة على نوعية الألحان السريانية
يقول ابن العبري في كتابه "الإثيقون":
تتميز أنغام الكنيسة السريانية "بأنغام روحية هادئة ورصينة وشجية تثير في النفس الخشوع لتربي في النفس الميول الروحية، وتغسلها بالدموع وتطهرها من الشرور والآثام".
لقد حدد العلّامة والفيلسوف السرياني الشهير مار غريغوريوس يوحنا أبن العبري فيما تقدم إطار نوعية الألحان الكنسية السريانية بعد دراسته لها ونقلاً عن آراء الآباء الأجلّاء من الذين سبقوه ومن شروحات الآباء الملحنون للأناشيد الكنسية.
لهذا أرى من واجب الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية شعباً وإكليروساً التقيد التام بما قاله فيلسوفنا العلامة أبن العبري للحفاظ على تراث الكنيسة الموسيقي من الضياع والإندثار والتشويه، وللحفاظ على هوية الألحان السريانية الأصيلة من دخول العنصر الموسيقي الغريب عليها.
وعلى كل من يرغب في متابعة مشوار وضع ألحان جديدة للكنيسة السريانية أن يتقيد بطبيعة وصفات الأنغام الموسيقية السريانية، وخصائص ونوعية الألحان الكنسية، وعلى سلالمها وقوالبها الموسيقية، وعلى قواعد طرق آدائها، كما أوردناها في مقالنا، لتأتي ألحاناً سريانية خالصة صحيحة خالية من الشوائب والتأثيرات الخارجية.