هل كان يحتاج الانسان فعلا لكل هذا العقل ؟/ شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يناير 22, 2015, 07:30:39 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

هل كان يحتاج الانسان فعلا لكل هذا العقل ؟


برطلي . نت / بريد الموقع

شمعون كوسا

في هذه المرحلة من حياتي يعجبني ان الاحظ الكثير من تصرفات الناس في الحياة  ،  وبعض هذه التصرفات التي تشملني انا ايضا ، تدعوني بصورة خاصة للتفكير والتحليل  والمقارنة والتعليل . لست هنا في صدد تناول مواضيع خارقة ، ولكني سأنطلق من عبارات عادية جدا اصبحت منذ اقدم العصور من مكونات أغلب الجمل التي يتألف منها حديثنا العادي في كل أمر . إنه ردّ على الاقوال او الافعال او الحركات التي نقوم بها جميعا ، فنقول مثلا : هل فقد فلان عقله ؟ هل فكّر فلان جيدا قبل اتخاذ قراره هذا ؟ هل كان فلان فعلاً بكامل قواه العقلية ؟ هل يتصرف العاقل بهذه الصورة ؟ انه فعلا تصرفُ وحشي . هل كان في تصرفه ذرة من العقل؟ اين كان عقله عندما قال او فعل ذلك ؟ لا اعرف كيف طار عقلي من رأسي ! . كن عاقلا يا ابني ولا تتهور . لو عرف الانسان قيمة عقله !، هل هذا منطق ؟ والمئات من مثل هذه المصطلحات التي يلعب فيها العقل دور الفعل والفاعل والمفعول .
كل هذه الملاحظات وعبارات الاستغراب والتأسّف والتأفف أوالتأنيب نابعة من حقيقة ان الانسان قد أتى مميّزا عن كافة المخلوقات ، لانه خُلق حيوانا ناطقا ، اعني مخلوقا يحمل عقلا ، والعقل يتيح له التمييز بين الصواب والخطأ وبين النافع والضار وبين ما يليق وما لا يليق . وهذا العقل ، بغضّ النظر عن العجائب التي يجترحها ، فانه يقود تصرف الانسان الحسن واللائق والمفيد في علاقته مع الغير ويحقيق السعادة له ولغيره.
ان العقل جوهرة ثمينة لا تقدّر بأموال الدنيا كلها ، لانه يجعل كل انسان يمتلك العالم المنظور وغير المنظور ، فباستطاعة الانسان تحقيق اعظم الابتكارات ، كما بوسعه استيعاب وتخيّل ما قد يكون بحجم الكون كله او اكثر ، عقل الانسان كالفضاء لاتحدّه حدود . انه قابلية غير منظورة يتميز بها الانسان ، في خلق مصدر سعادته اذا احسن اسخدامها ، لان العقل نور في الظلام ، وهوقادر على خلق نفس المناخ في اوقات تبتعد ظروف السعادة ، فينطلق في ايجاد لحظات ارتياح خيالي وروحي ، وهذا لا يوفره غير العقل .
العقل المتطوّر ، اعني العقل الذي نما في بيئة سليمة وانفتح على معارف واسعة اخرى ، يصبح القوّة التي لا تتوقف عند اية معضلة ، فمثل هذا العقل كفيل بايجاد حل لكل مشكلة مهما بلغ تعقيدها ، لان له من قدرة الفهم والاستيعاب والتخطيط والحكم على الاشياء واتخاذ القرار ، ما لا يترك مجالا للحيرة أمام اي امر .
هناك من وُلدوا بعقل عبقري ، وآخرون يُشهد لهم بذكائهم ، وآخرون اكتفوا بمستواهم المتوسط ، وفئة اخرى لم يُحرموا من العقل ، غير انهم جاؤوا بقابلية ضعيفة . وهكذا يلد العقل الفكرة خلاّقة ، شاملة ام ضعيفة سطحية . العقل ليس وسيلة تسعفنا في مباريات مخصصة لابراز مدى تفوقنا وذكائنا ، ولكنه وبصورة اساسية وسيلة مجانية متاحة لمن يجيد استعمالها في التصرف الصواب وتجنب الخطأ ، وهكذا ، يغدو المرجع الذي لا بدّ من العودة اليه في كل تصرف وفي كل قرار .
العقل وسيلة تمنع الحيوان الناطق من الانحدارالى نصفه الاول ، اي الانقياد الى التصرف الغريزي الذي هو من خاصية الحيوان . كل هذا الكلام المكرر والمملّ ، اتيتُ به لكي انتهي الى القول وبجملة واحدة : هل كان يحتاج انساننا الحالي الى كل هذا الكنز الثمين والجوهرة التي لا يعرف قيمتها ، كي نراه احيانا وقد انحدر الى مستوى دون مستوى الحيوان . لقد بات الانسان يستعين بكنزه هذا لابتكار الاحابيل وسبل الشرّ والايذاء .
الم يكن من الافضل ان يُولدَ بعضُ الناس محدودي التفكير والعقل ، فيأتي تصرفهم محدودا او منعدما فيجنّبوا الالوف والملايين من الناس الدمار والتهلكة . لقد عشنا تحت ضلّ قادة لم يستخدموا عقلهم لغير الخصومات والحروب والاقتتال ، بسبب تصرفهم الحيواني ، بسبب اهوائهم ، بسبب غضبهم ، بسبب كبريائهم وانانيتهم ، بسبب عدم استخدام عقلهم كما يجب او لعدم الرجوع اليه في اوقات مصيرية . ما الفائدة من عقل هؤلاء ، الم يكن الكلب مثلا افضل منهم ، الكلب هذا الكائن الوديع الوفي والمفيد . ما الفائدة من عقل ذكي يبتكر اساليب لاخفاء الحقيقة لانها تخدمه ومصالحه الشخصية.
في ايامنا هذه ، فَقَدَ الكثير من الناس قيمة عقلهم ، الذي هو مصدر سعادة وارتياح للنفس ووسيلة لخلق اجواء السعادة والخير . لم يعد يهتمّ انساننا العاقل الحالي بالبحث عن السعادة الحقيقية ، لانه قد حوّل هذا الامتياز العظيم ، الذي يمكن أن يرفعه احيانا الى مرتبة الاله ، فأخضعه لخدمة  مآربه الشخصية الدنيئة   ، اعني  وسيلة لاشباع أهوائه وأنانيته ونزعاته الحيوانية . ما فائدة المشاعر النبيلة التي يوفرها العقل إذا انحدر الانسان واستغنى عن عقله وغدا همّه الوحيد  البحث عن كل ما هو دنئ و قبيح وواطئ . ما فائدة العقل اذا استخدمه للمقت والكذب والحسد والتفنّن في كافة اساليب الشرّ ولاكتشاف طرق سرية وخبيثة للايقاع بالغير والاعتداء على المظلوم ؟
لماذا ، وبالرغم من وجود هذا العقل ، لا نرى في ايامنا غير الانقسام والتهديد والذبح والظلم. الم يكن الأولى بمسببّي هذه الويلات ألا يُخلقوا او يُصنَّفوا ضمن فصيلة الحيوانات المفترسة ، على الاقل يكون تصرفهم حينذاك وفق نظام الطبيعة. هل كان يستحق الانسان ، او على الاقل قسم كبير من الناس ، هل كانوا يستحقون هذ الامتياز الجميل العظيم والسامي ؟ لقد تسبب بعض الوحوش من بين المتنفذين من البشر ، بتصرفهم البعيد عن العقل ، في تعذيب بشر آمنين تمنّوا لو كان خلقهم الله دون عقل وشعور لانهم يتعذبون ، يتمنّى هؤلاء لو حرمتهم الطبيعة من الاحساس لان وحشية البعض تجرحهم في اعماقهم وتعذبهم ولا حول لهم ولا قوة  في ذلك . لقد غدا الانسان وحشا ، اعني عاد الى طبيعة حيوانية لانه اهمل عقله .
هل كان الانسان فعلا يحتاج الى هذه الثروة الروحية التي يفترض ان توفر له سعادة حقيقية ، توفر له الهدوء والراحة والرضى ؟ هل كان فعلا يحتاج انساننا الحالي الى هذه القيمة التي يصعب تقديرها ، القدرة لايجاد المبادئ السامية  وتطبيق المثل العليا التي تؤمّن له الحقيقية وتساهم في اسعاد الغير لاسيما الضعفاء منهم ، هل فعلا كان يحتاج الكثير من اخوتنا لمثل هذه الجوهرة ؟
لقد تورطتُ في تناول موضوع هو بسعة الفضاء . قد اكرر القول على هذا المنوال الى ما لانهاية ، غير انه يبقى في حدود البديهيات  . كنت افكر بامر هذا المقال ، وذات ليلة ذهبت بعيدا في تفكيري في امكانية ايجاد نظام عالمي خيالي  يتيح لسلطة ما في الحياة تحمل صلاحيات في رفع بعض الحيوانات الى مرتبة انسان ، واتخذت بعض الكلاب مثلا . اقول هذا لاني التقي كل صباح جارا يصطحب كلبا صغيرا نظيفا جميلا ، يتمنى كافة المارّة دون استثناء الوقوف عنده لملاطفته لانه يجامل الجميع .  فهمت من صاحبه بانه كلب وفيّ جدا ، ويؤدي له الكثير من الخدمات ، فقلت في نفسي : أليس هذا الكلب الوفي والخدوم افضل من فلان وفلان من الذين نعرفهم والذين بالرغم من عقلهم تسببوا في كثير من الاذى؟ الم تكن ترقية هذا الكلب الى مرتبة انسان عاقل أمرا يرحب به الجميع  ؟