النائب اللبناني الدكتور فريد البستاني: مسيحيّو الشرق والدور التاريخي

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أكتوبر 12, 2018, 02:31:46 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت


  النائب اللبناني الدكتور فريد البستاني: مسيحيّو الشرق والدور التاريخي     
         


برطلي . نت / متابعة

البناء/ النائب الدكتور فريد البستاني

يتسلل الشعور بالقلق الوجودي بقوة إلى قلوب مسيحيّي الشرق وعقول النخب المثقفة فيهم، وذلك ليس رهاباً أقلوياً كرهاب الأماكن العالية أو الشعور بأعراض مرض التوحّد، بل هو حاصل مجموعة عناصر تراكمت في واقعهم خلال عشرات السنوات الماضية، أبرزها ما تعرّضوا له من تهجير أصاب وجودهم في فلسطين والعراق وسورية، وصعود موجات التطرف الديني بين المسملين التي أخذت تحوّل شعورهم بكونهم أقلية إلى قلق وجودي، وتيقّنهم من أنهم أخطأوا عندما ظنّوا أنّ كونهم مسيحيّين سيجعلهم من ثوابت سياسات الدول الغربية الكبرى لأنها مسيحية، بعدما ظهر أنّ هذا الاهتمام بمسيحيتهم كان عابراً في زمن القنصليات في القرن التاسع عشر وقد انتهى.

من الطبيعي أن تكون عين مسيحيّي الشرق على المسيحيّين اللبنانيين كطليعة يقرأون من خلالها مستقبلهم، ففي لبنان بحكم الديمغرافيا المتوازنة نسبياً لا يشكل المسيحيون أقلية ضئيلة، ويوم كان لبنان منقسماً بين مسلمين ومسيحيين كان المسيحيون عنصراً مكوّناً رئيسياً لا يمكن تهميشه، ويوم انقسم المسلمون على مذاهبهم، بقي المسيحيون ذلك العنصر الوازن، خلافاً لسائر بلدان الشرق، وفي لبنان يتبوّأ المسيحيون مناصب بارزة في الدولة أهمّها رئاسة الجمهورية، التي تشكل علامة فارقة بين دول الشرق المسلمة.

تشعر النخب المسيحية بالحاجة الملحّة للتفكير بالمستقبل، ومواجهة التحديات خارج النمط التقليدي للتفكير، خصوصاً بعدما تيقن المسيحيون من صواب ما دعاهم إليه الفاتيكان بلسان البابا يوحنا بولس الثاني قبل عقود وأعاد تأكيده رؤساء الكنيسة من بعده، لجهة التمسك بالانتماء لهويتهم المشرقية، وتحويل شراكتهم مع المسلمين من نقمة إلى نعمة، وجعلها مؤسّسة للحوار الثقافي ونموذجاً للتعايش السلمي بين مكوّنات قائمة على التعدّد الديني، وهو ما يجعله مسيحيّو لبنان عنواناً لخطاب عالمي تحدّث عنه رئيس الجمهورية اللبنانية مؤخراً من منبر الأمم المتحدة.

لكن القضية التي تستدعي اهتمام العقول المسيحية، هي الإجابة عن طبيعة المشروع الذي عليهم أن يتحرّكوا نحوه على مستوى قراءة دورهم في الشرق، بعدما كان مشروعهم خلال العقود الماضية يحمل عنوان الحرية، وتخيّلهم أنّ استقرارهم في الشرق رهن بقيام دول ديمقراطية تحترم الحريات في كياناته، ليكتشفوا أنّ زعزعة استقرار الحكومات القائمة تحت عنوان الحرية كما حدث في «الربيع العربي» مخاطرة وجودية، حيث الفوضى تشكل بديلاً حاضراً فوراً، وبين طياتها ملاذات جاهزة للجماعات المتطرفة، وصعود سريع للفكر التكفيري، وتحوّل مشاريع التفتيت والتشظي للكيانات الموحدة إلى أمر واقع قادر على الزحف بقوة، تجعل رحيلهم السريع ملاذاً وحيداً لهم أمام مخاطر الإبادة، بعدما تكفل التطرف الذي واجه مسيحيّي فلسطين بتهجير أغلبهم.

في لبنان لعب المسيحيون دورهم عبر وصفة معاكسة فجعلوا الدفاع عن الصيغة الطائفية للنظام السياسي تعبيراً وحيداً عن سعيهم للحفاظ على خصوصيتهم، وخافوا من أن يؤدّي إلغاء الطائفية إلى نظام غلبة عددية تحاصرهم فيه الديمغرافيا الطائفية للمسلمين، وعندما طرح بعضهم العلمنة كان ذلك من قبيل التعجيز للشريك المسلم الذي يرفضها.

وقائع المسيحيين في الشرق، ووقائع الشرق نفسه، تقولان إنّ مشروعاً جديداً يجب أن يلفت انتباه النخب المسيحية، بعدما أولوا اهتمامهم خلال قرن مضى لمعادلة متعاكسة بين سعيهم لسقف مفتوح للحريات في المحيط ظنّوا أنه ضمانتهم الوجودية، وسعيهم النظري للعلمنة في لبنان ظنّوا أنه مصدر لتكريس الصيغة الطائفية برفض المسلمين لها، ولم يجلب كلّ من التطلعين إلا المزيد من الأزمات.

يبدو دور المسيحيين في الشرق مدعواً لاختبار وصفة معاكسة، بجعل الحرية أولويتهم في لبنان، ورفع سقف العلمنة تدريجاً في المجتمع قبل السعي لتحويلها مشروعاً للدولة، مقابل جعل علمنة الدولة سقفاً لسعيهم في المحيط ورفع سقف التحرك نحو الحرية تدريجاً في المجتمع قبل السعي لتحويلها مشروعاً للدولة، ليتلاقى المشروعان في نقطة وسط، محيط بدول موحدة تحكمه العلمنة ويتنامى فيه سقف الحريات تدريجاً، ولبنان واحة للحرية يتنامى فيه سقف العلمنة تدريجاً.