ذاكرة العراق بوصفه صورة جامعة شاملة: تعايش القوميات والأديان… أيام زمان

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يناير 16, 2017, 03:13:28 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

ذاكرة العراق بوصفه صورة جامعة شاملة: تعايش القوميات والأديان... أيام زمان   

 
      
برطلي . نت / متابعة
عنكاوا دوت كوم/القدس/عبد الواحد لؤلؤة

في مقال الرائعة غادة السمان، قبل أسبوع، حديث عن تعايش المسلمين مع غيرهم، كما خبرته في «أيام الخير» في شباب الدمشقيين. وقد أثار فيّ ذلك الحديث شجونا عن أيام طفولتي وشبابي في مدينة الموصل العراقية، فلماذا لا أتحدث كما تحدثت غادة عن جيرانهم المسيحيين، وعن مشاعر أسرتها نحو الآخرين في تلك الأيام التي لم يبقَ منها، عندهم وعندنا، سوى ذكريات غائمة في طريقها إلى الزوال، نتمسك بها، لأنها كل ما بقي لنا في عالم اليوم «اللايوصف»... وعلى مستويات شتى؟
مدينة الموصل في شمال العراق عربية مسلمة، فتحت في عهد الخليفة عمر، الذي حمل إليها عرباً من قبائل شمر في الغالب، استقروا في الجانب الغربي من نهر دجلة، غير بعيد عن الصحراء. كانت المدينة يسكنها أقوام مسيحيون جاءوا من فلسطين وبلاد الشام في هجرات متقطعة وأزمان متباعدة. سكن أغلبهم على الجانب الشرقي من دجلة، وخصوصاً في المناطق المرتفعة من تلول تتمدد نحو جبال الشمال. كانت قراهم زراعية، وما تزال، يتكلمون لهجات من السريانية والكلدانية، وما زالوا. انتشرت الكنائس المسيحية في الجانب الغربي من النهر، وازداد انتقال أولئك السكان بين جانبي النهر. وكان العرب المسلمون الذين نزلوا الموصل بعد المسيحيين قوم مسالمون، لا تذكر التواريخ شيئاً عن اعتداءات على أولئك السكان الأوائل، ولا عن تفرقة في الحياة العامة والخاصة. بل إن لغة الأعراب في الموصل بدأت تتطور بدخول مفردات سريانية كلدانية، ما تزال آثارها باقية إلى اليوم، وقد خبرتها في طفولتي وشبابي، في المدرسة والحياة العامة، مما يشير إلى التعايش بين عرب من دينين مختلفين، تعايشاً شمل غير العرب من المسيحيين في قرى تبتعد شرقاً عن نهر دجلة.
في عقد الثلاثينات والأربعينات لم يكن في القرى المسيحية شرق النهر مدارس إلا أقل من القليل. لذا كانت بعض الأسر ترسل أبناءها، ونادراً بناتها، إلى أقارب لهم في غرب النهر، ليدخلوا المدارس ويتعلموا «القراءة والكتابة» التي كانت وقفاً على رجال الدين في تلك الكنائس، وأغلبها بالسريانية والكلدانية. عرفت عدداً من أولئك الأولاد المسيحيين في مدرستي الابتدائية، حتى بداية الأربعينات، حيث تزايد عددهم، مع أن الكنائس الموصلية بدأت تؤسس مدارسها الابتدائية لأبناء الأسر الموصلية المسيحية، فتكاثر أبناء القرى المسيحية في تلك «الابتدائيات». لكن المدارس المتوسطة والثانوية في الموصل بدءاً من أواسط الأربعينات صارت تشهد تكاثراً من الطلبة المسيحيين، وأعداداً من المعلمين والمدرسين المسيحيين، ولم يكن ثمة أي شعور أو ميل عدائي تجاه الطلبة المسيحيين بل إن العلاقات بين الأسر تزايدت، وصرنا نشارك المسيحيين أعيادهم واحتفالاتهم، فيردون هم بالمثل في أعيادنا واحتفالاتنا الإسلامية.
ما كان أحدنا يعرف إن كان الطالب الآخر مسيحياً أو كردياً إلا من إسمه ولهجته أحياناً. ولم يستوقفنا ذلك. كما أن الناس في الأسواق كانت تتعامل مع بعضها دون اعتبار للدين أو الأصل العرقي. كان في صفنا في المدرسة المتوسطة ثلاثون طالباً حوالي نصفهم مسيحيون. كان أحدهم من أسرة مسيحية بارزة موسرة، سماه ابوه «هاشم» وهو اسم جد النبي العربي. فهل أكثر من هذا تعايش؟ بلى، أكثر من هذا. ففي صفنا إياه كان أربعة طلبة من اليهود، وكان أحدهم يشاركني «الرحلة»، أساعده في الإنكليزية ويساعدني في درس الحساب والجبر. وإلى الشمال مني طالبان يهوديان، وأمامهما ثالث يشارك طالباً من أسرة مسلمة معروفة. وفي درس القرآن والدين كان الطلبة المسيحيون يخيرون في البقاء في الصف أو الخروج إلى الساحة إن شاءوا.
أما الحديث عن السنّة أو الشيعة في الموصل فلم يكن وارداً على الإطلاق. الموصل مدينة إسلامية، لم يذكر لنا أحد انها سنّية، وليست شيعية. بل كان يقال لنا ان حوالي ثلاثين في المئة من سكانها مسيحيون، عرباً، أو أكراداً، وهي أكبر نسبة مسيحيين في المدن العراقية. ولكن في الأول من محرم كانت الأسواق تغلق وتمتلئ الشوارع بمجالس قراءة القرآن وتوزيع الحلوى على الأطفال وأنواع الطعام على «الفقراء» في أبواب المساجد، وما كان يطلق عليهم اسم «شحاذين» أو «متسولين». ومثل تلك الاحتفالات تحدث في العاشر من محرم، فتزين الأسواق بالأقمشة الخضراء وتكثر مجالس قراءة القرآن وذكر مآثر آل البيت وتوزيع الصدقات على «الفقراء». وكانت هناك مناسبة ما زلت لا أفهم معناها. ففي يوم، ما زلت لا أعرف متى، كانت البيوت المسلمة تحضّر «خبز العباس» في التنور الكبير في بعض الدور، أقراص أرغفة سميكة كبيرة مزينة بالسمسم مع حبات «بهار كبيرة» نحملها نحن الأطفال وندور بها على أبواب المساجد نقدمها «للفقراء» ونكسب دعاءهم بالنجاح في المدرسة!.
وفي مرحلة الدراسة الجامعية ببغداد، في خمسينات القرن الماضي، إذ لم تكن جامعات خارج بغداد في تلك الأيام، كان العراق صورة شاملة لجميع الأديان والطوائف والأعراق، على مستوى الطلبة والأساتذة معاً. كنا نزور جامع الأعظمية «السني» كما نزور جامع الكاظمية «الشيعي» لم يمنعنا أحد ولم يحقق معنا أحد: كيف ولماذا؟ كانت الأسماء الشائعة في الموصل «السنّية» هي حسن، حسين، علي، حيدر. ولكن في بغداد صرنا نسمع: عبد الحسن، عبد الحسين، عبد علي... عبد السادة. وكنا نعجب عن الفرق بين الاسمين، وهنا ينتهي التساؤل.
التربية البيتية أولاً، والمدرسية بعدها، أساس الجيل العراقي الذي ساد حتى غزو العراق سنة 2003. بعدها انقلبت الدنيا عاليها سافلها. تلاشت القيم الجميلة أو غابت... نهائياً. نشأنا في المدرسة على حب الوطن وكراهية المستعمر. علمونا: وطني لو شغلت بالخلد عنه/نازعتني إليه في الخلد نفسي. لم يعلمونا اختلافات الرأي والمعتقد، لأننا حفظنا أشعار محمد رضا الشبيبي، النجفي/الشيعي، أول وزير معارف في الدولة العراقية الوليدة، تسلم المنصب عام 1924. حفظنا:
أنتم متعتم بالسؤدد
يا شباب اليوم أشياخ الغدِ...
كونوا الوحدة لا تفسخها
نزعات الرأي والمعتقدِ
أنا بايعت على أن لا أرى
فرقة، هاكم على هذا يدي
عقدُ العالم شتى فاحصروا
همكم في حل تلك العقدِ...
واليوم.. هل ناديتَ؟ هل أسمعتَ حياً؟
وتعايش الأديان، والقوميات، بدأ مع العراق الوليد عام 1921. كان أول وزير مالية في أول وزارة عراقية هو اليهودي مناحيم دانيال الذي أصر على بريطانيا ان يكون الدفع لحصة النفط العراقي الجديد بالذهب لا بالباون الورقي، حرصاً على مصلحة العراق وحقوقه. كان الرجل عراقياً قبل أن يكون يهودي الدين، واختاروه لكفاءته، لا لانتماء لهذا أو ذاك. وكانت الوزارات العراقية تضم العربي والكردي والتركماني والسني والشيعي... كلهم عراقيون/ بهذا التنوع الديني المذهبي العرقي وغياب التفضيل إلا على أساس الكفاءة كان العراق يسير نحو الأفضل. ولا يعني هذا عدم وجود المآخذ هنا وهناك، ولكن أي نظام حكم في العالم يخلو من المآخذ؟ إذا كانت التربية السليمة أساس المجتمع كان السير نحو الأفضل هو المنتظر. ففي أحلك الظروف التي مررنا بها لم يكن التمييز بين الأديان والأعراق في البلاد هو الذي نخر الأسس التي قام عليها مجتمعنا، لأن ذلك التمييز لم يكن موجوداً... إلا في العهود المباركة اللاحقة. وبصراحة جارحة... مهما يمكن أن يقال عن آخر حكومة عراقية قبل الغزو، لا يجرؤ أحد على انكار اشتمال الحكومات على شتى الأديان والمذاهب والأعراق. ولكن. لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم/ولاسَراة إذا جُهالهم سادوا.