حكاية فنان أخطأ دعوته
شمعون كوسا
لقد اعتدت على أن اقوم بجولة يومية ، في نزهة تقودني في مختلف الاتجاهات. وبما انه يستحيل عليّ إيجاد ثلاثمائة وخمسة وستين مسارا مختلفا لكافة ايام السنة ، فاني اُضطرّ لاتخاذ نفس المسلك لعدة مرات في الشهر . ذكرت هذا لاقول بانّي اخترت من جديد شاطئ نهر صغير كنت قد طرقته عدة مرات قبل الان . هذه المرة لم أكن حائراً ولا هائما على وجهي ، بل كنتُ مرتاح البال اتوقف لأمعِن النظر في كل ما جاور الشاطئ من نبات وأحياء ، ومشيت هكذا الى ان بلغتُ مصطبة الرجل العجوز الذي كنت قد التقيته في قصته عن الحنين الى الشباب .
حال وقوع نظر الشيخ عليّ إنفرجت اساريره ودعاني للجلوس ، وكأنه كان فعلا ينتظر قدومي . بعد تبادل كلمات الترحيب واستقصاء كل واحد منا عن امور الاخر ، راعينا برهة صمت ، ومن بعدها فوجئت برفيقي الشيخ ينطلق في غناء خفيف . فوجئت ، بسعادة ، لسماع صوت جميل جدا. نغماته هزت أبعد الاوتار داخل نفسي . بعد خمس دقائق من الغناء البديع ، سكت رفيقي والتفتَ اليّ معتذرا لانفراده بالغناء دون استئذاني ، وقال : كنت قد بدأت لحنا وضعني في حالة تأثر عميق لا سبيل لانهائها إلا بإنتهاء اللحن .
قلت له : ياصاحِ لقد اخذتني بعيدا بصوتك الشجي وغنائك الرائع ، ولستُ مبالغا ان قلت لك قلـّما سمعت مثل هذا الصوت ، وِلكن لماذا اخفيتََ عني موهبتك هذه؟ فهزّ الشيخ رأسه قائلا : إن قصتي طويلة مع الصوت واللحن والغناء . لاني منذ صباي كنت احلم بان اغدو مطربا ، غير ان سفينتي اقتيدت برياح غير رياحها ، وفقدتُ دعوتي .
وتابع قائلا : لقد اكتشفتُ صوتي منذ نعومة اظفاري من خلال مذياع (راديو) كنت اسمعه بانتظام لدى بثِـّهِ اغاني جميلة للمطربين الاوائل ، فكنت اردّد اغانيَهم ، كنت انطرب شخصيا ، كما كنت الاحظ أيضا انطرابَ الاخرين من حولي .
وبهذا الخصوص اتذكر يوما وانا جالس لوحدي أمام دارنا ، انطلقتُ في الغناء بطبقة عالية جدا ، مقلدا احد المطربين . فعلتُ ذلك وانا اعلم جيدا بان جمعا غفيرا ، من نزلاء الفندق الذي بجوارنا، كانوا جالسين في الحديقة لتناول الطعام او احتساء مشروب . حال ابتدائي بالغناء ، خيّم صمت عميق على الطرف الاخر . واختفى الضجيج كاملا أمام صوت فتِيّ لم يهتدوا الى مصدره .
واضاف الشيخ قائلا : وفي السياق نفسه ، اتذكر حادثة اخرى قد تدعو للضحك. دعتني والدتي ، وانا صبيّ ، لتلاوة الوردية . لم يعجبني طلبها لانه تزامن مع فترة كنت انتظر فيها اغنية عزيزة عليّ . قلت لها : لا بأس في ورديتك ولكني بعد عشر دقائق فقط سافتح المذياع ، فقالت لا تخف لان الصلاة لن تستغرق طويلا . أزفت الساعة المرتقبة ، فتركت كل شي وفتحت الجها ز وكانت الاسرار في خـُمسها الرابع . أمام عيون امي التي توسعت لوماً ، قلت لها كنت قد حذرتك، وفي ذلك الزمان لم اكن على اطلاع بالمثل القائل : ولقد اُعذِِر من أنذر .
حاولتُ ان اخفف شيئا من احساس صاحبي بالاحباط جرّاء عدم تحقيق دعوته كمطرب، فقلت له : أمّا عن موضوع رغبتك في احتراف الطرب، اعتقد بانه ، بالرغم من امتلاكك الصوتَ الجميل ، وبالرغم من موهبتك ، لما كانوا قد منحوك فرصة لتحقيق هدفك ، لان الفن ، كالمجالات الاخرى في بلادنا ، تتحكم فيه ايادٍ وقوىً لا تمتّ بصلة الى الفن ، فالمصالح ، والمحسوبية والمنسوبية لها الدور الاهم في النجاح او الفشل في هذه المجالات . فالمغنيّ الذي يفتقر الى ابسط المقومات ، وقد يكون حتى قبيح الصوت ، له حظ أوفر منك ، لانه يكون صاحب امكانيات لا تملكها انت . انت معك المهم وهو الصوت الجميل ، اما هو ، فمعه المادة التي اتخمت بطونا واعمت عيونا. بوسع صاحب المال توفير الالات والملابس والديكور والراقصات ، فضلا عن اغداقه بكرم على من يتولى اخراج اغنيته ، بالصخب والايقاع الكفيلين باخفاء عيوبه .
بعد هذا قلت له : يا صديقي ، إنسَ الان وشنف آذاني اتوسل اليك ، لاني اتحرق شوقا لسماع المزيد من صوتك ، اريد ان ارتفع معك في اجواء تبعدني عن كل ما هو منظور .
استقام رفيقي في جلوسه وتوجه بانظاره الى حيث تدخل الارض في ابعد نقطة تماس مع القبة الزرقاء ، وانطلق في الحان تخيلتُ فيها نفسي سامعا عبد الوهاب وهو يتسلق السلم الموسيقي وينزل وهو مغمض العينين ، واسمهان التي لها في كل كلمة رنـّة ، وفيروز التي تسمو بالانسان عاليا بصوتها الرفيع الشفاف ، ووديع الصافي الذي يهلل فوق الروابي والجبال ، وليلى مراد التي تتغنى بالجو الرائق والصافي بصوتها المتميز ، وحتى فاضل عواد الذي يمسك بالليل و لا يفلته الا بعد جعل النجوم تنقلب الى قلائد والقمر شذرا .
واذا كان عليّ ان اصف غناءه أو أرسمَه ، فاقول : إستهل رفيقي غناءَه بهدوء وبطبقة خافتة ، وبدأ بصعود تدريجي أبطأته قوة الرياح غير المستقرة التي كانت تميل بصوته يمينا ويسارا، وبعدها انطلق كالسهم الى الاعالي في نغمة لم اسمعها مِن قبلُ ، كي يهبط بنفس الخفة الى حيث كان قد ابتدأ . اغمضتُ عيني لأتابع مسار صوته ، فرأيته ينطلق مرة اخرى من طبقة وسطى ، يغني ويصمت ، ويميل يمنة ويسكت ، ويتجه بانحناءة واسعة تناطح بعض الغيوم ، ويبرح الغيوم كي يعود لمنعطف جميل يحرك اوتار مخفية داخل النفس . وفي تحرك غنائي جديد ، تأهّبتُ مترقـّباً ما عساه يفعل في انتقاله السريع هذا وكسراته وهل سيأتي بالعذوبة التي اتوقعها ، ففاجأني بما هو ابدع منها . بعد هذا ، ختم هذا الجزء من فقرته بلحن انتهى بما يُشبه حبات شفافة تفتـّقت منتشرة كالاسهم النارية وتفجرت ثانية وثالثة ورابعة لترسم اشكالا بالوان خلابة ، لم ينتظر كثيرا في لملمة حبّاته عبر لحن آخر تخيلته وكأنه يلقي بقلادته في كافة الاتجاهات ، وهكذا بين كرّ وفرّ ، ورقص وتوقف ، وغناء وسكون ، وانتقال بين مقامات النوى والصبا ، والسيكا والرست ، والحجازي والبيات ، وبعد ان حمل النفس من افتنان وانخطاف الى ارتياح وسعادة ، هبط بهدوء في نغمة اخيرة هادئة ، لينثر حباته الشفافة الزاهية ، ويتمتع بمشاهدة اضمحلالها ببطئ بين المياه والاشجار والورود .
تمّ كل ذلك بخفة تامة ووجه لم تفارقه البسمة وحركة أيدٍ تتمايل مع الكلمات ، ورجفة مقصودة تستهدف غربلة سعادة يُخشى من انطفاء جذوتها !!!
في هذه الاثناء كان هناك بلبل على الشجرة ، لا ينقطع عن التغريد ولكن جوّ الافتنان الذي خلقه صوت الشيخ ، جعله يتوقف عن تغريده ، ويستغل فقط لحظات صمت المغني أو تأمّله لارسال تغريدة أو تغريدتين ، وحتى جاره الغراب ، اوقف نعيقه احتراما للموقف ، (وليس كبعض ممّن لا يختلفون كثيرا عن الغراب بنعيقهم واصواتهم النكراء ، تراهم يصرّون على القول والترتيل في كافة المناسبات وبصوت عال . وارجو هنا ألاّ يُساءَ فهمي ،أويُفسَّر كلامي خطأ) !!!!
بعد هذا ، بدأ الشيخ يكلمني عن الطرب الاصيل الذي بدأ ينقرض، وعمّا آلت اليه الحال مع جيل جديد لا يؤمن الا بالصخب . كلمات طنانة ، لحن رتيب وصوت لا يحتاج الى عذوبة لان الالات كفيلة باخفاء عيوبه . والمطرب ، فكل ما مطلوب منه هو المظهر والاناقة ، وفرقة رقص مغرية . والناس يكونون قادمين للرؤية اكثر منه للسماع . أما الالحان ، فان معظمها مزيج من اجزاء مقتطعة من هنا وهناك ومسروقة من الموسيقى الفلانية واللحن الفلاني . واضاف قائلا : انا افضل الغناء بصحبة شخص او شخصين يشعران بجمال ما يقال من جمهور قادم للتصفيق فقط .
قبل ان انهض لتوديعه ، قلت له : لقد اغرِِمت بصوتك ، ارجوك ان تختم لقاءنا بلحن بسيط . أطرق رفيقي رأسه ، وبعد برهة صمت قصيرة ، وضع يده تحت اذنه وتناول لحنا حزينا ، لحنا يقطر دما ، لحنا تجدُ فيه نفسَها كلّ روح مكلومة او من تحتفظ في اعماقها باسرار أليمة . تهدّج صوته ولم يقوَ على انهائه وتوقف. إلتفتّ اليه ورأيت دمعة كان قد حبسها ولكن دون جدوى ، لانها انسكبت حالا وعقبها سيلُ آخر من الدموع ، فقمتُ وحضنته طويلا بدموع امتزجت بمجرى دموعه ، وقبّلته من رأسه وقلت له، لا اجرأ الان على سؤالك ، لكني ساعود يوما لاقرأ سرّ حزنك العميق ، فأشار إليّ بيد رافضة وقال : يا صديقي لا تعتمد على لقاءات كسابق الايام . لا شك ان الروح تعشق الغناء ، ولكنها مقيدة بجسد اصبح عرضة لكثير من التقـلبات ، فالامراض قد عشعشت فيه ، مِنها مَن تزوره بعقود استئجار مؤقتة ، ومنها المستوطنة التي استملكت مساحات مهمة ، واسست قاعدة متينة تنسف ، باحزمتها ، في ليلة واحدة ، كلّ ما تمّ ادامته لشهر كامل .
بعد هذا الكلام، قفلت راجعا الى داري ، وانا احاذي النهر من يميني واحاذي في خيالي سيل الترعة التي شقّها الشيخ بعبرات الحزن ودموع السعادة .
Kossa_simon@hotmail.com
لا يسعني إلا أن أقول لك يا سيدي شكرا على هذه الكلمات التي تطرب النفس كما أطربك الشيخ العجوز بصوته فبرقة كلماتك كأني قد سمعت صوته و شعرت بحزنه و حقا قد رسمت الألحان الشجية بجمال أخاذ بتعابير رائعة أما عن الجيل الجديد الذي لا يؤمن إلا بالصخب فانا اختلف معك فصحيح إن الصخب هو السمة الغالبة على هذا الجيل و لكن بالتأكيد هناك فسحة جميلة من الأغاني الهادئة و الجميلة و بالأخص كل ما هو من التراث الجميل الذي لايمكن أن ينسى و لكن يجب أن يكون هناك المزيد من التثقيف للشباب لكل ما هو جميل من الموسيقى و حتى القراءة الهادفة و الصور الجميلة للعالم الذي يحيط بنا بالرغم من الإيقاع المتسارع و الصخب و العنف الغريب الذي يشوش على كل شخص يحب الحياة و لهذا لا يمكن أن ننكر جهدكم ففي هذه المقالات الجميلة منكم بالتأكيد هي مساهمة فعالة في هذا الاتجاه و نرجو أن تفيدونا كأشخاص ذو خبرة في الحياة لتنويرنا و أخذنا إلى المسار الصحيح و لكن يجب ان يكون لهذا الجيل عدد من الخيارات لكي يستطيع ان يتعلم من تجاربه أيضا مع التحية