خيوط الأيام البعيدة للتاريخ والعبرة / ح 4

بدء بواسطة ماهر سعيد متي, مارس 26, 2015, 10:06:56 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

ماهر سعيد متي

خيوط الأيام البعيدة للتاريخ والعبرة / ح 4

                         
تتوالى الأيام وأخبارها بين محدث ٍ ومستمع ٍ وبين مقيم ٍ ومسافر والكل يترقب ما تتمخض عنه أحداث تلك الأيام ودورتها الطبيعية التي نظمها الله تعالى في إحكام ٍ فريد بين شروق ِ شمس ٍ ومغيبها لتكون خير رسالة يومية لكل بني البشر بان حياتكم تبدأ بولادة جديدة تباشرون فيها السعي والعمل والاجتهاد في كل دروب الحياة حتى أذا أزفت الساعة ودقت الأقدار دقاتها معلنة نهاية المشوار .
هكذا يستذكر المرء ُمنا لحظات حياته ومشواره فيها فهناك من يراها نزهة ومنهم من يجد نفسه وقد خرج من الحياة دون أن يعي ويستفيد ويتعلم ويُعلم وهناك الكثير من رأى حياته درس ُ وعبرة له ولغيره وحين يستذكر يحاول أن يجمع خيوط الأيام البعيدة ومجرياتها عسى أن يوثقها يحكيها للآخرين وهو يأمل أن يستفيدوا منها وما ينطبق على الأفراد ينعكس بشكل أو بأخر على المجتمعات والشعوب وبالتالي الجميع سيقف يوماً ما وينظر لما قدمت يداه أو ما قدمه أو ما جناه الآخرون بحقه ، وهو ما لا مهرب منه سواءً في هذه الدنيا أو في الحياة الآخرة أو ما سوف تسطره كتب التاريخ .

في عام 1982 م تم استدعائي إلى الخدمة العسكرية أسوة بأبناء جيلي من مواليد الستينيات حيث تقاطرنا أفراداً وجماعات وبعضنا مصحوب بابيه أو أمه أو أخيه إلى مراكز التجنيد العسكرية المنتشرة بعموم العراق كانت ألوان وجوهنا تعتليها مشاعر متضاربة بين خوفٍ من المجهول القادم والزاحف نحونا بلا محالة خصوصاً وإن أغلبنا سوف يفارق حياته السابقة وهو لم يزل بعد ُ صغير وربما أختط شاربه ولحيته أو لا وبين مشاعر كانت تتجول فوق رؤوسنا وكأنها الطير المحلق في السماء ، ترى هل ستكتب لنا الحياة وماذا يعني الجيش ؟ وأن كان لدينا أخوة وأصدقاء قد سبقونا إليه ولكن نحن ألان على عتبة أبوابه وجهاً لوجه وبدأنا نسمع كلمة سيدي تتردد على ألسنة الجنود الواقفون قرب الجدار وعرفنا بأنه الضابط المسئول عنا يعني لن نستطيع أن نقول له عمو أو خال كما كانت تعلمنا أمهاتنا حينما نتكلم مع من هم أكبر ُ منا سناً  أو مكانة .

أقترب منا جندي يرتدي غطاء رأس أحمر وعرفنا أنه من صنف الانضباط العسكري وكان يتأبط عصاه وهو يتفحص الوجوه فكانت بداية لا تبشر بالخير للعلاقة التي سوف تجمع هذا الصنف مع الجنود والمراتب على مر السنين القادمة.

تسلمنا أوراقنا ودفتر الخدمة العسكرية وهو من الأوراق التي يجب عليك المحافظة عليه خشية ضياعه أو فقدانه مما سوف يعرضك لما لا تحمد عقباه ، تم أعلامنا بأنه علينا المباشرة بالتدريب في مركز ٍ للمشاة يقع في منطقة أبو غريب المعروفة بكثرة المنشآت العسكرية فيها وسجنها الذي طابقت شهرته فيما بعد الأفاق كلها

التحقنا بمركز المشاة وعرفنا بأننا يجب علينا تغير نمط حياتنا السابقة كلها فقد أصبحنا جنود وما علينا سوى الطاعة العمياء لما يقوله المدربون والضباط وتم تعريفنا بعدها على أركان المكان فهذه قاعة النوم وما تحتويه من تجهيزات ولنسمع بكلمة سوف ترافقنا طويلاً وهي ( اليطغ أو اليطق ) وهو عبارة عن بطانيات ووسائد النوم .

ثم هناك المشجب الذي توضع فيه الأسلحة والمطبخ وأيضا سمعنا بعبارة ترنيمتها لا تزال معنا أنها ( القصعة ) وهي عبارة عن صحن مستطيل سوف نتجمع عليه لاحقاً لنأكل ما فيه ويتقدمنا صمون الجيش الشهير والذي ما أن يبرد حتى يصبح كالحجارة تـُدمي من ترمى عليه ،  طبعاً تم تسليمنا ملابس جديدة ذات لون جديد هو اللون الخاكي مع الحذاء المعروف محلياً وعالمياً بـ ( البسطال ) وكان أكبر مشكلة لي هي كيف سأربط كل هذه الخيوط فيه ( عفواً اقصد القيطان ) وبعدها ستلاحقني مشكلة أخرى هي كيف أربط ( اليطغ ) في حلي وترحلي دون أن ينفتح وتتبعثر محتوياته على الأرض .
المهم قد بدأ لنا بان هناك حياة جديدة مختلفة في كل شيء عما عشناه قبلها ، فجأة سمعنا كلمة الاستعداد العسكري ( أستاعد ) صدرت من صوت جهوري من الممكن أن يسمعه حتى المارون بالشارع العام وعرفنا بان هذه الكلمة تعني الصمت التام نهائياً وعدم الحركة حتى لو ذبابة مزعجة غير ملتزمة بالقانون والأعراف قد أغارت على أنفك وتريد أن تزيحها ولا تستطيع إلى ذلك سبيلَ إلى أن يأتيك الفرج بكلمة أسترح ( أستاريح ) وهي أيضاً ليس طوق نجاة كامل لان هناك كلمة أخرى ممكن أن تنجد نهائياً وهي ( راحة ) والتي تسمح لك ببعض الحركة ثم تاتي كلمة السعادة الحقيقية ( تفرق ) فسبحان من جعل من الفرقة راحة لعباده المساكين جنوداً ومراتب .

اليوم عليك جلب القصعة وأن تغسلها بعد أن ينتهي زملاءك من الأكل ثم تضعها في مكانها المخصص قلت حاضر قال قول نعم عريفي قلت نعم عريفي ( وخليه يتدلل ) ،

قضينا أيام لا يعلم بحالنا إلا الله تعالى فيجب علينا أن نكون رجالاً قادرين على حمل السلاح وأن ننسى أيامنا السابقة وكنا نذهب إلى بيوتنا لننام بعد أن قدمت أمهاتنا ما لذ وطاب للعزيز الغالي أبنها المدلل الذي الله يعينه محروم من هذه الأكلات الطيبة ومن نوم الظهيرة والمساء . 

بعدها جاء آمرٌ بإرسالنا إلى أحدى المحافظات للتدريب على الصنف العسكري الذي سوف نكمل خدمتنا العسكرية فيه وهنا جاء أول وداع للأمهات حيث تم الزج بنا في قطار ٍ يقف على أهبة الاستعداد في المحطة العالمية ( في علاوي الحلة ) لكي ينقل فلذات الأكباد إلى هناك فترى دموع هذه السيدة وهي تبكي ولدها البكر وتلك التي تودع ابنها الثاني أو الثالث وأخرى تريد أن تصعد في العربة لترى مكان أبنها وهو يمنعها خشية أن يعيره زملاءه بأنه لا يزال طفل صغير .

وتحرك القطار وبدأ دخانه ينفث بالهواء وصفيره يصم آلاذان ونحن فرحون أو محزونون للفراق ،
ولم يختلف الحال في تدريب الصنف عن تدريب مركز المشاة فالضبط والربط والأوامر تصدر بكل لحظة وكل حين وأذكر أول تصادم لي مع العريف حينما أمرنا بان نركض خلف التلة البعيدة بسبب خطا أحد المراتب فقلت له لماذا علينا جميعا أن نركض لما لا تعاقب المسيء وحده أليس هذا هو العدل والحق والإنصاف ... فقال نعم نعم أعد ما قلته فأعدته وأنا أظن باني أمثل رأي الأغلبية المسحوقة من أقراني وبان هذا هو المنطق قال العريف طيب أكراماً لما قلت فان العقوبة أصبحت مضاعفة على الجميع ولثلاث مرات فبدأ التقريع من زملائي وهم يلقون اللوم علي وكأني أنا المخطئ .

أذكر حينها أن شهر رمضان المبارك قد حل بيننا فكانت مشقة الصوم كبيرة جداً وقتها ولكن الله يسر الأمور وتعرفنا على وجوه ٍ جديدة من كل أبناء العراق الحبيب ومن كل الأعمار والمهن فهذا المهندس الزراعي أبن الموصل وذاك حامل الماجستير في تخطيط المدن ( طبعاً بعدها بفترة صدر قرار باعفاءه من الخدمة العسكرية ) وهو من أبناء سامراء  ومجموعة طيبة من السلك التعليمي والتربوي قادمين ديالى  والعمارة والبصرة والانبار  كما كان معنا من أبناء واسط الكرام والحقيقة من كل العراق قدموا إلى هنا ثم إلى كل مناطق الصراع وهم أخوة متحابين يأكلون في القصعة الواحدة وينامون في ملجئ ٍ واحد حفرته سواعدهم تحت الأرض ولا أنسى أبن النعمانية الكريم الذي كان يحفر الموضع الشخصي وهو شق بالأرض لتحمي نفسك من القصف أو للقتال لا أنساه وهو يأخذ دوري بالحفر ويترك لي أبسط الأعمال ، أما الشهيد فاضل أبن المسيب فأرجو الله أن يتغمده بواسع رحمته  لما لمسناه من هذا الرجل الكريم من خلق ورحمة وتعامل إنساني قل نضيره ، كذلك الشهيد عصام رفو بهنام من أبناء برطلة وهو ثالث شهيد تقدمه عائلته التي أرجو أن يكونوا بخير ولا أعرف أخبارهم ولم التقي بهم سابقاً حالهم حال الشهداء جعفر وكريم من أبناء منطقة الشجيرية / واسط  والمرحوم الفتى نوفل الذي انقلبت حاملة المدرعات في الاهوار ومات غريقاً وغيرهم رحمهم الله جميعاً . وهكذا تمضي السنين بين ذهاب ٍ وأياب سمحت لنا بالتجول في محافظات العراق ومعرفة أبناءها الكرام ،
بين شهيد ومفقود وأسير ومعاق ومشرد ٍ  تستمر فصول المأساة لأبناء جيلي ومن سبقهم من جيل الخمسينيات والأربعينيات وصولاً لأجيال ٍ لاحقة ٍ لا يعرف عددها ومتى تتوقف مأساتها الإنسانية إلا الله . 

لذا أذا أراد أي شخص من أبناء جيلي والأجيال التي عاشت فصول تلك الحروب والإحداث أن يكتب سوف يقع في مطب كبير وهو عن ماذا يكتب وكيف يكتب ولمن يكتب ؟؟؟

ماذا يكتب وفصول الأحداث كلها تتماثل للعين وشريط ذكرياتها راسخاً في الوجدان ، قد لا يستطيع ذكر كل الأسماء والمواقف على الورق ولكنه يحدثهم حتى ولو بالطيف والأحلام ويرسل لهم الدعوات بالمغفرة والرحمة لمن فارق الحياة والسلامة لمن بقي منهم على قيد الحياة .

أما كيف يكتب وهو لا يريد ُ أن ينكأ الجراح التي يحاول الجميع نسيانها واستذكار أفضل الذكريات هروباً من واقع ٍ عاشه شعب ٌ كامل ٌ بكل أطيافه وقومياتهم ونزفت دماءه بكل بقعة في وطن ٍ أتشح بالسواد ، كيف يكتب والصورة لا تزال لدى البعض رمادية الألوان فمنهم من يرى أنها حروب ٍ عبثية ومنهم من يرى أنها أمجاد ٌ حقيقية ومنهم من يرى المقابر والمنافي القسرية نتيجة حتمية لهذه الحروب ومنهم من يرى أنها واقعة قدرية فلماذا الكتابة وقد جفت الأقلام ورفعت الصحف .

أما لمن يكتب فأولا :ـ

لنفسه معزياً مستذكرا معتبراً .

لغيره عسى أن يعينه على جوابٍ أو يسعفه بذكرى أو توضيح أو يُحيى لديه أمل ٌيكاد يندثر.

للعراق الذي من حقه أن نكتب حتى تعرف أجياله الحقيقة المجردة ونترك لها الحكم والتقدير.

للحاضر الذي نحياه بين رجاء ٍ وأمل وبين يأس ٍ وحزن َ.

للمستقبل الذي نحلم به لوطن ٍ يجمعنا بين أحضانه عزيزاً كريماً بعدما أكرم أبناءه وأعزهم بحياة كريمة تليق بالإنسان العراقي أبن الجنوب والوسط والشمال وكالعهد بهم أخوة وأخوات أعمام وأخوال . 

هذه خيوط الأيام البعيدة مهما نظن أنها أمست بعيدة فإنها تذكرنا أنها قريبة .. قريبة .. قريبة ومهما توقعنا بان خيوطها قد تهرأت وتقطعت فإنها تشدنا وتشتدُ حول أرواحنا وعقولنا  لتقول لنا بان خيوطي ليست أوهن ُ من خيط العنكبوت، أنما هي قوية ٌ...  قوية ...  قوية

وللحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذنه تعالى

http://www.algardenia.com/maqalat/1101-4.html
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة