منتديات برطلي

المنتدى السرياني .... => مقالات.... => الموضوع حرر بواسطة: برطلي دوت نت في سبتمبر 02, 2018, 06:22:17 صباحاً

العنوان: الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء العشرون)تعريف بأساليب إنشاد الألحان الكنسية (2
أرسل بواسطة: برطلي دوت نت في سبتمبر 02, 2018, 06:22:17 صباحاً
الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء العشرون)     

تعريف بأساليب إنشاد الألحان الكنسية (2)
   
      
برطلي . نت / متابعة
(http://thevoiceofreason.de/user_files/news/authors/a146.png)
بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم


عَرّفنا في مقالنا السابق عن قسم من الأساليب المشهورة في الإنشاد الكنسي السرياني التي لا زالت مستعملة في كنائسنا لليوم مع تلك التي اختفت خلال المائة سنة الأخيرة أو في طريقها إلى الإختفاء، وشرحنا اسباب تكوينها وتعددّها وإختلافها، واستعملنا مصطلحات جديدة لها في السريانية والعربية لتدارك الأخطاء المتراكمة في تراثنا الموسيقي الكنسي.
أما في مقالنا هذا سنقوم بتعريف عن الأسلوبين الرهاوي والمارديني  بشكل اكثر تفصيلاً، ثم سنعرج بمقالنا القادم على بعض أسباب الإختلاف بينهما، وبتعريف عن أسلوب البطريرك يعقوب الثالث لمدى أهميته كمرجعية اساسية في الحفاظ على تراثنا الموسيقي الكنسي.

أولاً: الأسلوب الرهاوي:
"الأسلوب الرهاوي" ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܐܘܪܗܳܝ في إنشاد الألحان السريانية الكنسية، هو أسلوب أهل مدينة الرها التاريخية الواقعة في تركيا الحالية وتسمى بالسريانية "اورهوي" وفي التركية تسمّى "أورفا". وكانت هذه المدينة مملكة آرامية عريقة ومدينة عظيمة تتبع نظام حكم يسمى "المدينة الدولة"، استمرت لعصور طويلة تحوي مدارس فكرية كبيرة وكاتدرائيات ضخمة وكنائس وأديرة كثيرة، وكانت عاصمة لمنطقة سريانية واسعة الاطراف، ولعبت دوراً ريادياً غاية في الأهمية في تاريخ السريان المدني والكنسي.

أهمية مدينة الرها
1- الرقي والمدنية
كانت المدنيّة المتمثلة في طبائع واخلاق وتقاليد أهلها من سماتها البارزة، وإنتشار الفلسفة وبقية العلوم بين عموم أبنائها من ضروريات حياة شعبها الثقافية. مما جعلها مركزاً استقطب كبار علماء وادباء السريان.
2- اللغة الآرامية السريانية
إن اللغة الآرامية الأدبية (السريانية الكلاسيكية)، الحاوية على ثقافة عالية وعلوم وآداب وفلسفة، ففي الرها تسمت باللغة السريانية ومنها انتشرت في كل بلاد السريان والبلاد المشرقية مجاورة لهم، واصبحت لغة التأليف والترجمات ولغة مدارس السريان الفكرية والعلمية والأدبية ولغة خزائن مكتباتهم العامرة بكتب العلوم المختلفة، ولغة أديرتهم الدينية المشهورة وكنائسهم المنتشرة في كل المشرق وحتى الهند. وكانت الوعاء الفكري لكل سريان المشرق لغاية بداية القرن العشرين حيث سياسات التعريب والتتريك والتكريد العنصرية غيّرت المعادلة ففقدت دورها الريادي وتراجعت لتتقوقع في الكنائس والاديرة وفي بعض القرى العاصية على تلك السياسات العنصرية.
3- الدين واللاهوت
وأما دينياً فكانت مركزاً كنسياً عظيماً وقطباً رئيسياً مثل مدينة انطاكيا في بلورة وتطوير الفكر اللاهوتي المسيحي، وفي نشأة وتطور الكنيسة الناطقة بالسريانية. فمدارسها اللاهوتية المؤسسة للمسيحية والمناهضة للهرطقات المسيحية وشخصياتها التاريخية اللاهوتية  تشهد لهذا الدور العظيم.
4- الادب الديني والموسيقا
كانت الرها مركزاً ذائع الصيت في تأليف نصوص الطقوس البيعية والأناشيد الدينية ينافس مدينة انطاكية، ومصنع كبير لصياغة ألحان الأناشيد الكنسية السريانية، بل أن الموسيقا فيها كعامل ثقافي متحرك كانت متطورة جداً.
إن جميع هذه الميّزات كانت نتيجة حتمية لإستمرارية دورها الثقافي الآرامي الفعال في المنطقة منذ ما قبل مجئ السيد المسيح ولقرون كثيرة بعده، وهذا الدور يَشهَد على مدى عظمتها وعلى مدى رقي مدنيّتها وتطور اهلها، وأكسبها الاهمية الكبرى والفريدة في تاريخ السريان.
لهذا فإن طريقتي التلحين والإنشاد عند أهل الرها تميلان إلى المدنيّة والرقي، وعصرنة اللحن والآداء أكثر من مدن سريانية اخرى.

تأثير يوناني بيزنطي
سبب وجود مسحة يونانية على الفكر الرهاوي المدني والكنسي، ومسحة موسيقية بيزنطية بسيطة على ألحانها وعلى وإنشادها الكنسي.
فبعد سيطرة اليونان والرومان لعقود طويلة على منطقة المشرق القديم بأكمله وفرض ثقافتهم البيزنطية عليه، وما حصل من تعاون وتلاقح ثقافي بين السريان واليونان في المنطقة وخاصة في مدينة الرها، فلابد أن تتأثرالثقافة الرهاوية بشكل خاص والسريانية بشكل عام في عمقها باليونانية. ثم سيطرة الفرنجة والأرمن ذوو الموسيقا والإنشاد الكنسي الغريغوري على المدينة في مراحل متوسطة، وبعدهم الأتراك في مراحل متأخرة الذين تبنّوا لاحقاً الكثيرمن الموسيقا البيزنطية الشرقية كجزء هام من موسيقاهم المدنية. ففُرِضَ الاسلوب البيزنطي الغريغوري على الإنشاد الكنسي السرياني الرهاوي بفعالية أكبر وخاصة بعد تقلص عدد السريان وفقدانهم لدورهم الثقافي في المنطقة، فأصبح للرها أسلوبها الخاص الحديث في الإنشاد الذي يعرف اليوم بالأسلوب الرهاوي "ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܐܘܪܗܳܝ". وتشترك أغلب المناطق التابعة لمدينة الرها معها في الأسلوب الإنشادي الكنسي وكذلك المدن المجاورة لها رغم الفروقات الطفيفة بينها.
وتبدّل الأسلوب الرهاوي الكنسي قليلاً نتيجة التقلبات والظروف التاريخية التي طرأت على مدينة الرها، وقسم من الألحان أخذ منحى غير قالبه الأصلي وأصبح يحوي أكثر من غيره تأثير بيزنطي، هذا واضح للسامع في بعض الألحان الكنسية خاصة في ألحان التخشفتات التي هي مثل صارخ على هذا التأثير.
كما لحنت في عصور متوسطة أو متأخرة أناشيد إضافية خاصة بالرهاويين، ولا وجود لها في كنائس المناطق السريانية الأخرى، وهي ذات قوالب لحنية جديدة من غير المطروقة سابقاً، وأخذت أيضاً هذه الأناشيد الطابع البيزنطي في تركيب سلالم ألحانها الموسيقية وكذلك في طُرق إنشادها أكثر بكثير من الأناشيد القديمة.
كما وصل إلينا اناشيد حديثة العهد نسبياً قياساً لعمر الكنيسة وهي باللغة التركية، حيث أُلِفَت ولُحِنَت بطريقة حِرَفيّة عالية جداً بعد بسط سيطرة الأتراك على المنطقة، وهذه الأناشيد قلَّ مثيلتها في تراثنا السرياني. وتعتمد أغلبها في تركيبها اللحني على سلم موسيقي كامل أو أكثر، وتحوي بين طيّاتها جمل موسيقية بيزنطية كثيرة، كما أن طريقة إنشادها أيضاً هي بيزنطية، لكن يغلب عليه طابع التطريب. ومن هذه الاناشيد: رَبطان مَوعود، اِي سِفيل جان، هاني غَيرتِن إنسان، توُبا سوُيلا. وغيرها.
وكان الموسيقار السرياني الكبير نوري اسكندر قد سجل قسم من هذه الأناشيد بشكل كورالي جماعي موشحاتي مع بعض الأناشيد السريانية الرهاوية القديمة، وأعتُبِرَ هذا العمل من أهم أعماله الموسيقية الكنسية.
كما أن هذا الموسيقار كان قد نوّط ألحان البيث كازو بحسب الأسلوب الرهاوي لكنه لم ينشره في كتاب، وكان قد قام بتنويطه قبل أن ينوّط تسجيلات البطريرك يعقوب الثالث الذي طبعه ونشره المطران مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم.
وفي مقابلات متلفزة له أكّدَ على رغبته بتنويط ما تبقى من ألحان كنسية موجودة في كتب كنسية أخرى غير كتاب البيث كازو. فنتمنّى له العمر المديد لإكمال مشروعه الغاية في الأهمية وهو تنويط ما تبقى من هذه الألحان وبالسرعة الممكنة قبل ان يسبقنا الزمن فيرحل متّقنوها وتختفي.

ثانياً: الأسلوب المارديني:
"الأسلوب المارديني" ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܡܶܪܕܳܐ في إنشاد الألحان السريانية الكنسية، هو أسلوب أهل مدينة ماردين التاريخية الواقعة في تركيا الحالية، والتي كانت لها أهمية تاريخية كبرى في تاريخنا السرياني، حيث لعبت دوراً كنسياّ عظيماً استمر حتى بدايات القرن الماضي، وكانت مركزاّ للكرسي البطريركي في فترات محددة، وهي لا زالت مشهورة بأديرتها وكنائسها التي توزعت على مساحات جغرافية كبيرة.
وأما اسلوب إنشاد الألحان الكنسية في هذه المنطقة ترعرع وأخذ قالبه العام في دير مار حنانيا المشهور بدير الزعفران "ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܕܝܪܐ ܕܡܳܪܝ ܚܢܰܢܝܳܐ". ولكونه قريب جداً من مدينة ماردين لهذا سميً بالاسلوب المارديني. واليوم فقد دير الزعفران دوره الريادي وانتقل هذا الدور بثقله لدير مار كبرييل القريب من مدينة مديات التابعة لولاية ماردين.

أهمية مدينة ماردين
1- جغرافية المنطقة:
إن جغرافية منطقة ماردين كبيرة نسبياً، تضم كل منطقة جبال طورعبدين حتى تخوم مدينة الموصل بالإضافة لمناطق أخرى في شمالها وغربها، وكل هذه المنطقة الجغرافية ساهمت بإستمرارية الأسلوب الإنشادي المارديني، ليحتل المكانة الأولى في الإستعمال من حيث التعداد البشري في عصرنا.
2- الاديرة ومراكز التعليم
إن وجود عدد كبير من الاديرة الصغيرة والكبيرة ومراكز التعليم الكثيرة ضمن جغرافية منطقة ماردين، وككونها كانت مركزاً للبطريركية السريانية لمدة تجاوزت الخمسمائة عام، أعطاها الكثير من الأهمية في التاريخ الكنسي السرياني.
فما ديري مار كبرييل وحنانيا (الزعفران) اللذين استمرا حتى الساعة مع بعض أديرة كنائس قرى طورعبدين الأخرى سوى شهود حيًة على عظمة هذه المدينة وعلى دورها القيادي الكبير التي لعبته في التاريخين السريانيين المدني والكنسي.
3- الأدب الديني والموسيقا
يؤكد التاريخ السرياني على دور ماردين في تأليف الصلوات الكنسية ونصوص الاناشيد الدينية وتلحينها، فلو علمنا بأن لا وجود لقراءات نصيّة كنسية عند أهل ماردين وتوابعها إنما كل النصوص عندهم مغناة من قراءة الانجيل المقدس الى الحسايات والفناقيث وصلوات الطقوس جميعها، سنعلم مدى إهتمام اهل ماردين في الحفاظ على النصوص البيعية والألحان الكنسية لكن باسلوب إنشادي خاص بهم يدعى الاسلوب المارديني بالرغم من موقعهم الجغرافي القريب من مدينة الرها ومن أسلوبها الإنشادي.
4- مجازر وهجرة
لقد حافظ أسلوب دير الزعفران في الإنشاد على نفسه، بسبب لجوئه إلى قرى الجبال المجاورة له إثر النكبات والمجازر المتعددة التي حصلت في تلك المنطقة، ولهذا نسمع اليوم هذا الأسلوب بنغمة روحية حزينة بكائية فيها الكثير من الخشوع والمسكنة والتذلل والفقر الروحي لأنها نغمة زاهدة نشأت وتررعرت في كنائس وأديرة بسيطة وفقيرة وسط رهبان ونساك عابدين اعطوا حياتهم للرب، وجاءت هذه النغمة معبرة عن المآسي والنكبات والمجازر والتهجير التي مر بها سريان تلك المنطقة خلال مراحل التاريخ، وكانت أبشعها فظاعة مجموعة من  المجازر وقعت بين عامي 1800م و 1900م، ثم توّجت في عام 1915م بأضخم مجزرة عرفتها المنطقة فقضت على أغلبية سريان المنطقة وعلى مسيحييها، وَعُرِفَت بالفرمان التركي او سيفو "ܣܰܝܦܳܐ"، وصادفت ذكراها المئوية هذه السنة 2015م.

التأثير البيزنطي والكردي
إن أسلوب دير الزعفران "المارديني" في إنشاد الالحان الكنسية هو أسلوب خاص بتلك المنطقة، يحوي شيئاً من التأثير البيزنطي مثله مثل الأسلوب الرهاوي ولكن بحجم أقل منه، فمجموعة التخشفتات تحوي في إنشادها هذا التأثير البيزنطي بسبب تراكيب ألحانها والمدّات النغمية التي تحويها. وبالرغم من بُعد ماردين عن المناطق اليونانية البيزنطية لكنها حافظت على ألحان التخشفتات كما ورثتها بآمانة مقبولة مع ألحان أخرى دون المساس في في جوهرها اللحني، إنما التغييرات التي طرأت في طريقة إنشادها كانت بسبب تأثرها بالمزاج الموسيقي العام للمنطقة.
واليوم يحوي الأسلوب المارديني الكثير من البساطة والعفوية في إطاره العام، وتسيطر عليه الروح القروية بسبب إنتقاله إلى المناطق الجبلية.
وأما التأثيرات التي لحقت عليه ليست بكثيرة سوى تأثيرات الموجة الكردية التي سيطرت على المنطقة في القرنين الأخيرين حيث بدأت تبرز الروح الكردية بقوة ووضوح ومسيطرة على هذا الاسلوب نتيجة التغيير الديموغرافي الذي حصل في المنطقة وسيطرة الأكراد سكانياً عليها.
اشتهر كثيراُ هذا الأسلوب وأنتشر عالمياُ في المشرق والمغرب نتيجة هجرات أهله المتواصلة، وتم تسجيله مرات عديدة على أيدي رهبان وكهنة وشمامسة قديرين، وهناك من قام بتنويطه بشكل جيد ومعقول مثل الأب الموسيقار جورج شاشان كاهن كنيستنا السريانية في منطقة بوتشيركا ستوكهولم قبل أن يرسم كاهناً منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماُ لأجل المحافظة عليه، لكنه للأسف لم يطبع هذا المشروع في كتاب للإستفادة منه.
وكان الأب شاشان قد قام بتنويط تسجيلات لألحان الاسلوب المارديني بصوت الخوري كبرييل القس آحو كاهن كنيسة العذراء للسريان في القامشلي الذي توفي في الحسكة- سوريا 1987م، وتسجيلات بصوت الشماس القدير الارخدياقون إيليا القس كورية الذي خدم كنائس القامشلي وتوفي في سودرتاليه-السويد سنة 2010م، بعد مقارنتهما مع بعضهما ومع المتداول في كنيستنا السريانية في القامشلي في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي. كما أنه كان قد نوّط أيضاً تسجيلات البطريرك يعقوب الثالث لألحان البيث كازو قبل أن ينوط اسلوب ماردين ومن المحزن لم يطبع هذا المشروع ايضاً في كتاب.

ولن ننسى بأن كنيسة السريان الكاثوليك تعتمد في أغلب طقوسها الأسلوب المارديني أكثر من الاسلوبين الرهاوي والمصلاوي. لكن إنتقال مركز بطريركيتها من ماردين وإقامتها مع رهبنتها ومدرستها في لبنان أدى تتدريجياُ نتيجة تأثّرها في المزاج الموسيقي العام اللبناني وفي الإنشاد الكنسي اللبناني لدى معظم الطوائف، إلى لبننة إنشادها الكنسي وميله نحو البيزنطية والأوروبية.

يتبع في الجزء الحادي والعشرين