من أجل أوربا قويةتواجه الغريم/لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, أغسطس 09, 2018, 10:26:35 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

من أجل أوربا قويةتواجه الغريم     
   

برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس
بغداد، في 20 تموز 2018



تمرّ العلاقات الأوربية الأمريكية في هذه الفترة من الزمن الصعب بهزّات عميقة وأزمة حادة أدّت إلى ردود أفعال كبيرة من الجانبين. ففي الوقت الذي عدّ فيه الرئيس الأمريكي ترامب مؤخرًا كلاً من روسيا والصين وأوربا أعداءَلبلاده، توجه الأوربيون شطر الصين واليابان للبحث عن شراكات تجارية واقتصادية متزنة في مواجهة تسلّط الإدارة الأميركية التي تنوي اللعب بموازين التجارة العالمية للمنظمة الدولية التي ستنهار لا محال في حال إصرار القرار الأميركي باللعب بالنار. وهذا التوجه الجديد الملفت للنظر من جانب دول الاتحاد الأوربي لن يكون قابلاً للتطبيق إلاّ عبر توافقات صلدة وقرارات قوية للوقوف بوجه الطاغوت الأمريكي، ما يستدعي مزيدًا من وحدة الكلمة والفعل واستراتيجية شاملة في تطبيق السياسة الأمنية والخارجية لدول الاتحاد موحدة.
لقد حققت دول الاتحاد الأوربي منذ تكوينه في عام 1992م بموجب معاهدة ماستريخت في هولاند مزيدًا من الرفاهة والأمن والتنمية والتقدّم لمواطنيها وغيرهم من القادمين إليها، إلى جانب تطبيقها لحرية الفرد في مفهومها الشامل والجوهري للديمقراطية التي تعطي للكائن البشري قيمته وتكفل له حقوقه من دون تمييز في اللون والعرق والدين.ولعلَّ السبب الأساس في هذا النجاح يكمن في منهجيتها الموحدة واستراتيجيتها الإنسانية ورؤيتها الشاملة للوقائع والأحداث،هذا إضافة إلى قبول إيوائها الملايين من طالبي اللجوء من كلٍّ من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وما سواها، من الذين ضاقت بهم بلدانُهم ذرعًا ولم تستوعب حكوماتُهم الفاسدة والموغلة في الدكتاتوريات وجودَهم على أراضيها. كما أصبحت أوربا قبلة طلاب العلم والمثقفين وأصحاب المهارات، بسبب إيمانها بحق الإنسان في العيش في المكان الذي يرتاح فيه ويجد فيه المأوى والمأكل والحرية في تنقله وحركته وفكره.
بموجب الأحداث، يبقى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنطقتين الأكثر تذبذبًا في استقرار مواطنيهما والأكثر نشاطًا في التوجه الفكري نحو التشدّد والعنف والإرهاب والأكثر تخلفًا في الركب العالمي. وهما ما يزالان يشكلان تحديًات كبيرة وجدالات كثيرة وتباين في طريقة تعاطي بعض دول الاتحاد الأوربي مع موجات الهجرة المكثفة التي لم تنقطع لغاية الساعة من أراضيهما الآيلة إلى التصحّر ليس في الأرض فحسب بل في الفكر والعلم والتنمية والتقدم واحترام البشر. من هنا، جاءت بعض التقاطعات في مسألة التعاطي مع هذه المشكلة التي تحولت إلى أزمة بين دول الاتحاد في فترات متلاحقة منذ بدء تلك الموجات غير الطبيعية من الهاربين إلى المجهول والعالقين بقشّة في مواجهة موجات البحر بكلّ عتوّه، أملاً بالوصول إلى برّ الأمان على أرض تعيد لهم الحياة من جديد وتمنحهم شكل الآدمية التي فقدوها في بلدانهم.
لقد دفعت أوربا شيئًا من فاتورة هذه الاستراتيجية في التعاطي مع مسألة الهجرة القانونية وغير القانونية على السواء، عندما انقلب بعضٌ من هؤلاء الأوباش المغالين في التشدّد الأعمى والتطرّف التافه على مَن آواهم وجعلهم في عداد البشر عندما تركوا أوطانهم وأرضَ آبائهم وأجدادهم طمعًا بشيء من الراحة والرفاهة والاحترام لآدميتهم التي فقدوها في بلدانهم الأصلية. ومع ذلك، جاءت قرارات السلطات السياسية والأمنية للاتحاد لتضغط على صانعي القرار بالتروّي والحكمة في معالجة أوضاع شاذة هنا وهناك. وقد تناسقت هذه الرؤية مع توفير الفرص الملائمة لخلق أجيال منفتحة تؤمن بالحقوق العامة وتكفل هذه الحقوق من دون تمييز، وذلك ضمن إطار عام يوفر شيئًا كثيرًا من التضامن والشراكة بين أبناء البلاد الأصليين والقادمين الجدد الذي شعروا بحياة مختلفة قابلة للانسجام والاندماج في المجتمع الجديد المختلف تمامًا عن مجتمعاتهم المتخلفة، إلاّ من فئات قليلة كانت لها أجنداتُها الخبيثة في العمل على فرط عقد دول الاتحاد وغزوه بحسب تصريحات وتعليقات صدرت على ألسنة هؤلاء ومَن يروّج لهم ويدفع ويدعم. لكنّ الكثرة الكثيرة استجابت للأوضاع الجديدة وانسجمت مع المجتمعات الجديدة حينما رأوا الاختلاف في التعامل اليومي وعاشوا الحركة الديناميكية والتقدم التكنلوجي والرفاهة والجدّية في البشر الأوربي وفي مجمل حياتهم اليومية.
مثل هذه السياسيات وغيرها كانت هي الأساس في التناغم بين المنافع والقيم الأصيلة التي سارت عليها أوربا مجتمعة في برامجها العامة وتوجهاتها نحو العالم الآخر. إذ حظيت مواضيع هامة كالأمن والاقتصاد والسلام والديمقراطية والرفاهة الاجتماعية بشيء كبير من الاهتمام والرهانات السياسية التي بسببها تغيرت حكومات وتراجعت أحزاب وسقطت شخصيات من الحسابات الوطنية بسبب انعكاسات تلك السياسات على الوضعين الداخلي والخارجي على السواء. وهذا ما جعل مسألة الحفاظ على الأمن الوطني الداخلي على كفّ عفريت في حقب متداخلة من التشنّج السياسي والرؤية الضبابية للوقائع والأحداث بسبب تداخل المعطيات والأجندات ومراكز القوى على السواء إضافة للتأثيرات الخارجية. بل تجاوزت هذه المسألة حدود الأمن الداخلي لبعض البلدان في أوربا إلى مناطق الصراع السياسي والاقتصادي والتجاري في العالم. فمسألة الأمن القومي لأي بلد مرتبط في الكثير من خطوطه وخيوطه مع الأمن الخارجي، ليس لدول الاتحاد مجتمعة فحسب، بل مع شركاء أقوياء لهذا الاتحاد في بلدان أخرى مثل أمريكا وروسيا والصين واليابان وكندا والهند بصورة خاصة. فالتنافس بين هؤلاء العمالقة اقتصاديًا وتكنلوجيًا يتطلب الكثير من الجهود من أجل الحفاظ على السلام العالمي واستقراره اللذين يعنيان بالتالي استقرارًا لهذا البلد وهذه المنطقة وسكانها وتنمية مستدامة في المشاريع والخطط التي تعني بالتالي النجاح والتقدم.
لذا تبدو محاولة أوربا اليوم في الخروج عن عصمة الإدارة الأمريكية التي كانت لغاية الساعة من الحلفاء الاستراتيجيين لها، تعني طلاقًا بين حليفين، لو حصل فعلاً ستكون له عواقب غير آمنة لكلا الطرفين. فهذا يعني أولاً خروجًا عن الطاعة الأمريكية التقليدية وثانيًا يتطلب البحث عن شركاء استراتيجيين جدد وفق مقاسات جديدة ومعايير قد تختلف عن الاتفاقات مع العمّ "سام". فأوربا القارة العجوز، ما تزال تمسك بناصية التقدم اقتصاديًا وسياسيًا وعلميًا وتجاريًا من حيث التعامل مع مختلف منتجاتها المرغوبة في دول العالم بالرغم من فارق الأسعار بين منتجاتها وما تطرحه دول متقدمة أخرى مثل الصين والهند وروسيا واليابان والكوريتين ودول شرق أوسطية حازت على بعض التقدم.
أمّا الحدث الأهمّ الذي بسببه وقع الشرخ بين الحليف الأوربي ونظيره الأمريكي، فلعلّه خروج أمريكا عن الاتفاق النووي مع إيران وطلبها من حلفائها الدوليين الالتزام بقواعد اللعبة وتطبيق نصوص الحظر مهما كانت عواقبه على حلفائها. فقد فشلت مساعي الاتحاد لاستثناء شركات كبرى أوربية لها مصالح استراتيجية من الحظر المفروض على هذه الدولة التي تُتَهم بتعريض أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط والعالم للخطر عبر دعمها للميليشيات والأحزاب المرتبطة في فلكها التشيّعي الواسع في المنطقة، ما يستوجب حجب كلّ مساعدة وتعاون وتبادل بسبب سياساتها التعسفية. كما أن رغبة الإدارة الأمريكية، المتمثلة بقرار الرئيس ترامب بفرض رسوم كمركية على منتجات أساسية مثل الحديد الصلب والألمنيوم بصورة خاصة، قد استحثت دول صناعية أخرى منافسة لاتخاذ إجراءات مماثلة، ما سينجم عنه اختلال في قانون التجارة العالمية الذي تتبناه منظمة التجارة العالمية وتسعى للإبقاء على توازنه بهدف دعم استقرار الإنتاج والدول المصنّعة بموجب قانون التجارة الحرّة المعمول به منذ حين.
إن الموقف الجديد المتأزم بين الحليفين التقليديين، أوربا وأمريكا، لا يمكن أن يُكتب له النجاح بغير وحدة هذه القارة مجتمعة، في عالم معقد يئنّ تحت وطأة المنافسة الشديدةفي التجارة والاقتصاد وفي عرض الإنتاج الذي أصبح يُصنَّعُ في بلدان تقلّ تكلفتها عن نظيره من المنتوج الوطني في داخل نفس البلد. وهذا من التحديات الجديدة التي يتسع نطاقُها يومًا بعد آخر.فالتعقيدات العالمية حيث التشتت الواضح في مركز الجاذبية في القدرات، تقتضي مثل هذه الوحدة في الموقف ضمانًا لوحدة الصف وحفاظًا على الموارد. وعندما تكون أوربا في اصطفاف جبهة موحدة، تستطيع فرض إرادتها وسياستها في سلّم الاقتصاد العالمي ليس حفاظًا على مصالح مواطنيها وشركاتها المنتجة فحسب، بل تعزيزًا لمنطقة اليورو من التباطؤ في الإنتاج وفي الاقتصاد المتهالك أصلاً بسبب متطلبات الهجرة المتواصلة التي تعني فرض ضرائب أكثر على الإنتاج والماكنة الصناعية،علاوة على وفرة المعروض من البضائع وتنوع درجات تصنيعها واختلاف التكاليف من بلد لآخر ومن منطقة لأخرى، ما يشكل تحديًا مضافًا للقارة ولصناعتها. وستبقى أوربا تحظى بفرص أكثر من غيرها في حالة بقاء اتحادها متماسكًا في مواجهة ما يعتري السياسة النقدية العالمية وسبل الإنتاج والتصنيع والتسويق من مشاكل ومنغصات لا تنتهي، طالما بقيت أميركا تتمادى في فرض سطوتها للبقاء شرطيًا دائميًا لمراقبة أدوات الإنتاج والصناعة والنقد.
قصارى الكلام، بقاء أوربا موحدة يعني من جملة ما يعنيه مواجهة الغريم الأمريكي، الحوت الأكبر عالميًا، وإلزامه باحترام خياراتها ولو في أدنى قوانينه. كما أنها تتمتع برهانات أخرى موازية مع كبار الصناعة العالميين. فموقفها الموحد مثلاً من خروج بريطانيا من الاتحاد ومن فرض ما يستلزم هذا الخروج من شروط قاسية على أصحاب مشروع "بريكست"، يعني اتسامها بقوة الفعل وفرض الشروط التي تمليه عليها قوانين الاتحاد. كما أنّ رفضها لمشروع طريق الحرير الذي ينوي تحقيقه العملاُق الاقتصادي المغمور، أي الصين بهدف الاستفادة من التعاريف الكمركية لصالح تجارته، يعني أيضًا فرض عزيمتها كقارة موحدة تتمتع بكلمة عالمية في ميزان التجارة العالمي. أمّا تقرّبها من عملاق الصناعة والتكنلوجيا الياباني، فهذا دليل آخر على حسن خياراتها وبحثها عن أهمّ الركائز التي تعزّز صناعتها وتجارتها مجتمعة مع العالم.
هكذا هي السياسة الصحيحة. وهي لم تكن يومًا خارجة عن أهداف البحث عن المصالح الوطنية والقومية للبلدان بما ينسجم عقلانيًا مع مصالح الغير من دون أن تقوى هذه الأخيرة على الأولى. فالدفاع عن مصالح أوربا والعمل على تحقيق المزيد منها لصالح بلدان الاتحاد وسكانه يعني في النهاية دفاعها عن حقوقِها مجتمعة بوجه أية تحديات خارجية، اقتصادية كانت أم أمنية أم بيئية أو غيرها. فهذه من الأشياء التي تحفظ نظامها الديمقراطي أيضًا وتتكفل بإدامة احترامها للمواثيق الدولية وبحرصها على بقاء حرية الفرد والرأي والتعبير مكفولةومصونة من دون تهريش ولا تقاطع ولا انتهاك.