الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الثالث)/بقلم: نينوس اسعد صوما

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 27, 2017, 09:18:15 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الثالث)     
         
برطلي . نت / متابعة

بقلم: نينوس اسعد صوما


السلم السباعي والشعوب القديمة، أصل السلم الموسيقي السباعي الأبعاد:

لقد رافقت الموسيقا الإنسان منذ وجوده على الأرض، وأن جميع الشعوب القديمة، مهما بلغت من التقدم والحضارة أو الجهل والتخلف، كانت تملك نوعاً من الموسيقا الخاصة بها، ومعظمها استعملت إما السلم الموسيقي السباعي او السلم الموسيقي الخماسي، وهذا واضح من نتاجات الشعوب الموسيقية التي استمرت لغاية اليوم. إذ أن كل الشعوب كانت لها موسيقاها الخاصة بها واخترعت آلاتها الموسيقية وطورتها خلال مجرى تاريخها. والسلم الموسيقي السباعي لم يكن مقتصراً على أمة معينة كما أدعى البعض.



ومن الشعوب القديمة التي استعملت السلم الموسيقي السباعي نذكر: السومريين والآكاديين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والحوريين والأوغاريتيين والكنعانيين والآراميين (السريان) والعبرانيين والفراعنة والشعوب الهندية والفارسية والشعبين اليوناني والروماني، وغيرهم. ولازال قسم من هذه الشعوب التي لا زالت مستمرة في الوجود تستعمله في موسيقاها، كاليونان والفرس والمصريين والسريان.



للأسف لا نعلم شيئاً كثيراً بدقة وتفاصيل عن السلم السباعي القديم عند السومريين والآكاديين والآشوريين والحثيين والآموريين وغيرهم، لأن هذه الشعوب زالت من مسرح الوجود، وزال معها سلمها الموسيقي ولغتها وحضارتها، ولم يبق شيء منها سوى تلك الأطلال التي بقيت شاهدة على عظمة وحضارة هذه الشعوب ومدى تقدمها وازدهارها. لكن علماء الأثار أكدوا مؤخراً من خلال اكتشافاتهم في الحفريات بأن تلك الشعوب كانت متطورة جداً موسيقياً، وكانت لديها آلات موسيقية كثيرة ومتطورة، قسم منها استمر في الإستعمال ووصلت لنا كما كانت عليه لكن مع تغييرات طفيفة في شكلها وفي إمكانيات إستعمالها، مثل آلات العود والناي، وبعض الطبول. لكن أهم حدث مكتشف كان السلم الموسيقي السباعي الذي استعملته هذه الشعوب وعلى رأسها السومريين. وليس بالضرورة أن تتفق جميع السلالم الموسيقية السباعية لجميع هذه الشعوب بمسافاتها الصوتية.



إن أقدم السلالم الموسيقية التي وصلت إلينا عبر تداولها وإستمرارها دون انقطاع كان السلم الموسيقي السباعي اليوناني من القرن السادس قبل الميلاد. فإن كان هذا السلم متكاملاً ومنتظماً في حسابات أبعاده الصوتية في القرن السادس قبل الميلاد، فهذا يعني أن هذا السلم أستعمل في اليونان قبل ذلك الوقت ربما بفترة طويلة جداً، وتناقلته الأجيال شفهياً لغاية وصوله الى فلاسفة اليونان الأجلاء (كانت الموسيقا قديماً جزءاً من الفلسفة)، فأشتغلوا عليه بشكل علمي دقيق، وعملوا على تطويره وتنظيمه وحساب أبعاده الصوتية بدقة، لينتشر في المشرق القديم كله وفي الغرب أيضاً.



وبسبب العلاقات التجارية والقرب الجغرافي بين شعوب شاطىء البحر المتوسط والداخل السوري والأناضول وآسيا الصغرى واليونان، أثرت شعوب المنطقة على بعضها وأنتقلت بعض مظاهر الثقافة المشتركة بين بعضها كأنتقال الأبجدية الفينيقية/الآرامية إلى اليونانيين. وبفضل حركة التأثير الثقافي بين تلك الشعوب، نعتقد بأن السلم الموسيقي الأوغاريتي أنتقل بدوره إلى اليونانيين وأصبح الركن الأساسي الذي أسس عليه السلم الموسيقي اليوناني المتطور. إن السلم الموسيقي اليوناني إذاً وكما نعتقد قد تطور مباشرة من السلم الموسيقي الأوغاريتي وأستعمله أبناء اليونان فترة طويلة لغاية وصوله ليد الفلاسفة اليونان واشتغالهم عليه وتطويره وحساب وتحديد مسافات أبعاده الصوتية، ليعود بعدها الى الشرق سلماً موسيقياً متكاملاً.



وما يدعم الرأي بأن السلم اليوناني متطور عن السلم الأوغاريتي هي التأثيرات الفينيقية والكنعانية والآرامية الواضحة في معالم الحضارة اليونانية، وإستعارة اليونان الكثير من أركان ثقافتهم وحضارتهم منهم، وخاصة أبجدية الكتابة اليونانية.

ﻓﻔﻲ ﺳﻨﺔ 1948 اﻛﺘﺸﻔﺖ اﻟﺒﻌﺜﺔ اﻷﺛﺮﯾﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﯿﺔ أقدم نوطة موسيقية في العالم تعود لعام 1400 ق.م، في مدينة أوغاريت التاريخية في موقع رأس شمرا الواقعة على الساحل السوري وإﻟﻰ الشمال من ﻣﺪﯾﻨﺔ اﻟﻼذﻗﯿﺔ ﺑﺤﻮاﻟﻲ 9 ﻛﻢ، وتبين أن هذه النوطة مبنية على السلم الموسيقي السباعي الأبعاد.



وﻛﺎﻧﺖ أوﻟﻰ اﻟﺘﻔﺴﯿﺮات ﻧﺘﯿﺠﺔَ ﺑﺤﺚٍ ﻗﺎم ﺑﮫ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﺛﺮي اﻟﻔﺮﻧﺴﻲ "ﻋﻤﺎﻧﻮييل ﻻروش" وﻧﺸﺮھﺎ ﺑﺎﻟﻔﺮﻧﺴﯿﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺔ "أوﻏﺎرﺗﯿﻜﺎ" وﻗﺪ ﺟﺎء بنتيجة أن اﻟﺮﻗﯿﻢ الأوغاريتي ﯾﺤﻤﻞ أﻧﺸﻮدةً ﻣﻮﺟﮭﺔ إﻟﻰ إﺣﺪى آﻟﮭﺎت اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ.

إلا أن اﻟﻐﻤﻮض يكتنف ھﺬا "اﻟﺮﻗﯿﻢ اﻷوﻏﺎرﯾﺘﻲ" لأﻧﮫ ﻣﺪون ﺑﻠﻐﺘﯿﻦ وﻟﻐﺎﯾﺘﯿﻦ، اﻟﺠﺰء اﻟﻌﻠﻮي ﻛﺘﺐ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﺤﻮرﯾﺔ، وفيه ﻋﺒﺎرات ﺷﻌﺮﯾﺔ رﻗﯿﻘﺔ ﻣﻮﺟﮭﺔ ﻟـ ﻧﯿﻜﺎل زوﺟﺔ إﻟﮫ اﻟﻘﻤﺮ.. أﻣﺎ اﻟﺠﺰء اﻟﺴﻔﻠﻲ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﯿﻢ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻐﺮق ﺗﻔﺴﯿﺮُهُ وﻗﺘﺎً أطﻮل، واﺳﺘﻨتِج أﻧﮫ اﻟﻨﻮطﺔ اﻟﻤﻮﺳﯿﻘﯿﺔ ﻟﮭﺬه اﻷﻧﺸﻮدة، وھﺬه اﻟﻨﻮطﺔ ﻣﺪوﻧﺔ ﺑﺎﻟلغة الآﻛﺎدﯾﺔ ذات الكتابة اﻟﻤﻘﻄﻌﯿﺔ (المسمارية) اﻟﺘﻲ ﺳﺎدت ﻓﻲ ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻓﻲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ وكانت لغة الشرق الاوسط.



وعزف علماء الموسيقا في القرن العشرين هذه المقطوعة الموسيقية عدةِ مراتٍ وبمراحلٍ مختلفة، بعد أن تعمق علماء الآثار والموسيقا في تفسير الرموز الموسيقية الموجودة في الرقيم الأوغاريتي، وفي النص الشعري المكتوب عليه باللغة الحورية (نسبة الى الحوريين الذين حكموا مساحات واسعة من بلاد المشرق لمدة تجاوزت الاربعمائة عام)، وإجراء تعديلات جديدة على التدوين الموسيقي.

وللعلم كانت البعثة الأثرية الفرنسية قد اكتشفت 36 رقيماً تحوي أشعاراً لأغانٍ باللغة الحورية (أي 36 أنشودة)، لكن معظم هذه الرقيمات كانت تالفة ومتآكلة وغير متكاملة سوى الرقيم المصنف (H-6) الذي كان فقط بحالة سليمة، وهو الذي يحوي النص الشعري للأنشودة والنوطة الموسيقية.



وأغلب هذه الرقيمات تحوي أسماء شعراء (كتاب) نصوصها الشعرية، ما عدا الرقيم السادس المتكامل والذي ومع كل أسف لا يحوي اسم شاعره.

يعود الفضل في القراءة الجديدة والموضوعية للرقيم السادس للباحث في علوم الآثار وأصول الموسيقا العالم السوري "راوول غريغوري فيتالي" (1927 – 2003) الإيطالي الأصل والسوري المولد في مدينة اللاذقية، صاحب الدراسات العديدة في التاريخ والموسيقا، ومن أهمها: "التناظر الشكلي للأحرف الأوغاريتية"، و "أوغاريت لا كنعانية ولا فينيقية"، و "الرقم عبر التاريخ – اختراع وتطور كتابة الأعداد"، "الكنعانيون"، وغيرها. وقد نشر دراسة قيمة سنة 1979 منشورة في عدة مجلات عالمية مختصة بعلم الموسيقا حول الرقيم الأوغاريتي المصنف تحت اسم (H – 6) الذي يضم أنشودة العبادة الأوغاريتية، ويُعد أقدم تدوين موسيقي في العالم أجمع. حيث قدم فيها قراءة جديدة للتدوين الموسيقي لا تعتمد على فكرة تعدد الأصوات، إنما على ترجمة بعض الرموز المتواجدة في الرقيم الى أزمنة موسيقية، وعلى عدم وجود إشارات تحويل موسيقية ( بيمول و دييز)، وعلى عدم وجود ثلاثة أرباع المسافات الصوتية (ربع الصوت)، ليتم عزفها من جديد على درجة مي ومن مقام الكرد الذي لا يحوي إشارات تحويل من هذه الدرجة، وبشكل مغايير للمرات الثلاث السابقة التي قُرأت وعُزفت، لتصبح المقطوعة متطابقة مع أوزان نصها الأدبي، وليس كما قدمها غيره من الموسيقيين حيث إعتمدوا على فكرة تعدد الأصوات، وكانت قراءة يغلب عليها الرأي الشخصي.



ولكن السؤال المهم هو: هل هذا السلم الموسيقي السباعي هو "حوري" لأن لغة الأنشودة "حورية"، أم أنه "أوغاريتي" الإختراع؟

إن مجموعة الرقيمات ال 36 الأوغاريتية المكتوبة باللغة الحورية فتحت أبواباً جديدة للمناقشات والأبحاث حول أصول السلم الموسيقي المستعمل في هذا الرقيم (H-6).

ومن المعروف بأن الحوريين حكموا مساحات واسعة من بلاد المشرق ومنها شمال سوريا، لكن بعد قرون عديدة اختفوا من مسرح الوجود بعد أن ذابوا بغيرهم من الشعوب ومنهم الآراميين. وورث الآراميون بدورهم شيئاً من الحضارة الحورية والكثير من الأماكن والمدن الحورية فطبعوها بطابعهم وأصبحت آرامية مع الزمن.



تؤكد الرقيمات المكتشفة في أوغاريت السورية ما للحوريين من مدنية راقية وانتشاراً واسعاً للغتهم الأدبية، بحيث كتبت فيها أشعار لأغاني "موسيقا أوغاريت"، ولكن هذا لا يعني أن المقطوعة الموسيقية الأوغاريتية هي حورية المنشأ، إنما هي أوغاريتية الإختراع رغم لغتها الحورية.



إن كون لغة الأنشودة في الرقيم (H-6) باللغة الحورية وكون تدوينها الموسيقي باللغة الآكادية لا يجعلها حورية أو آكادية، بل هي أوغاريتية الإنتاج والهوية والإبداع كما يصرح العلماء.

إن السلم الموسيقي المستعمل في المقطوعة الأوغاريتية هو السلم السباعي المشترك بين شعوب المنطقة كافة ولربما يكون حوري الإختراع أو التطوير، وإلا لما كتبت كل هذه الرُقم باللغة الحورية إن لم يكن السلم الموسيقي حوري المنشأ.

ان أصل السلم الموسيقي السباعي لدى الآراميين واليونانيين هو من الحوريين، وقد عملوا بدورهم على تطويره بما يناسب شخصية موسيقا كل منهما.

فالسلم الموسيقي الآرامي (السرياني) واليوناني جذرهما إذاً واحد، وهو السلم الموسيقي الحوري لأن المنطق وتسلسل التاريخ يقولان هكذا.

وقد ورث الآراميون هذا السلم مباشرة من الحوريين لإحتكاكهم المباشر فيهم، أما اليونان فيبدو انهم أخذوه عن الكنعانيين والفينيقيين بواسطة الأوغاريتيين الذين أخذوه بدورهم من الحوريين.



إن هذا الأمر يقلب الطاولة على مفاهيم كثيرة كانت قد خدمت العلم لفترة معينة لكنها شاخت الآن ولم تعد تصمد أمام الدراسات الحديثة.

أما الأفكار غير العلمية المتدالة بين الناس العاديين والتي لا تصمد أمام إثباتات البحوث العلمية واللغوية فليست جديرة بالذكر. ففي عصرنا هذا فإن العلوم تتطور والأفكار تتجدد، وصاحب الإختصاص اليوم لا يتقبل الكلام الإنشائي الذي يدغدغ فقط أحاسيس الإنسان وليس عقله، إنما يبحث عن الحقيقة العلمية، ويتابع الأبحاث العلمية الجديدة ويتبنى نتائجها أكانت لمصلحته أو ضده، لأن الحقيقة العلمية هي فوق كل إعتبار.