العراق - من القيود إلى علاقة طبيعية مع أميركا - طريق طويل

بدء بواسطة صائب خليل, أكتوبر 27, 2011, 10:48:00 صباحاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

صائب خليل

مر شعب العراق اليوم بمفترق الطرق الأخطر على مستقبله منذ احتلال بلاده عام 2003، متمثلاً بحسم مسألة بقاء القواعد العسكرية الأمريكية. من حق العراقيين أن يبتهجوا بهذا القرار، فهو لم يكن سهلاً، فلم يكن إخراج أية قاعدة أميركية من اية بلاد، أمراً سهلاً في التاريخ، إلا إذا قررت أميركا الإستغناء عنها بنفسها، كما سيرد في بقية هذه المقالة. ومن حق المالكي ان يحتفل به كرئيس حكومة وبشكل شخصي أيضاً، فقد أنقذ نفسه، إن تم القرار بلا تلاعب، من لطخة سيكون مستحيلاً إزالتها من تاريخه، لو لم يجر الأمر بهذا الشكل.

لكن الإحتفال بإخراج هذا الجسم الغريب الذي ارتكب أهوالاً من الجرائم، من العراق، لا ينبغي أن يطول كثيراً. فالموضوع مازال يحتمل المفاجآت، العنيفة منها والهادئة، ومازال هناك حديث عن "قوات ناتو" ومدربين لا يعرف عددهم وعن "حصانة غير تامة" ولا يعلم إلا الله والراسخون في الحكومتين العراقية والأمريكية ما هي الضغوط التي تجري وراء الستار، لكن علاماتها واضحة، ليس فقط في العراق، بل أيضاً من تصريحات الساسة الأمريكان الكبار مؤخراً حول قرار أوباما، كما أن احتمال تدبير أميركا لإنقلاب عسكري ليس مستحيلاً بما ثبتت وجوده من عملاء، يتيح لها أن تدير مثل هذه العملية دون دليل على علاقتها بها، بل أن تشير إلى أن ذلك ما كان يمكن أن يحدث لولا أن حكومة العراق رفضت تمديد بقاء قواتها.

وحتى بافتراض أن الأمر تم كما يرضي العراقيين وبلا ألاعيب، فالأمر لم ينته بعد، و سيكون طريق تحرر العراق من القبضة الأمريكية الإسرائيلة، طويلاً وشاقاً ومليئاً بالمخاطر. فقد دخل هذه الجسم الغريب في كل مفصل من مفاصل البلد، وبشكل خاص العسكرية والأمنية والمالية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، وله اليوم جيش من العملاء من كل نوع في كل مكان، وتجارب الآخرين في التاريخ تقول أن الأمر قد لا يكون سهلاً. فالمشكلة ليست في تمديد القوات وحدها، فهي ليست سوى واحد من القيود التي يجب أن لا "يمدد" بقاؤها وإن كان أوضحها.

من المفيد لفهم الموضوع أيضاً أن نضع مشكلة شعب العراق ضمن خارطة أمثالها في تاريخ شعوب العالم لنرى أين نقف.
(كتبت هذه المقالة قبل شهر من نشرها، ونشرت في "الأخبار" اللبنانية بشكل موجز، وهذه نسخة منقحة منها بعد قرار أوباما سحب القوات الأمريكية. ننشر المقالة اليوم رغم أن الكثير مما فيها قد عداه الزمن، لكنه مازال مفيداً لفهم موقف العراقيين في بلدهم بدون الإحتلال.)

تجربة العراق مع الدكتاتورية  والإحتلال

لعل أكبر عامل اسهم في سوء الفهم بين العراقيين من جهة، وبقية العرب من الجهة الأخرى، في موضوع الإحتلال هو الموقف من الدكتاتورية الصدامية، التي كانت تمثل أسوأ ما في الحياة بالنسبة للعراقيين، وتمثل "بطلاً" بالنسبة للكثير من بقية العرب، وهو موقف يشعر العراقيون بأنه ليس خطأً ضالماً فقط، بل ايضاً مؤسف أخلاقياً. أما موقف العراقيين من الإحتلال فهو غير ما يصوره الإعلام العربي والعراقي ايضاً ، فهو كما تدل عليه مختلف المؤشرات، موقف رافض ومقاوم بشدة أحياناً. ولكن من المفيد الإعتراف بأن الأمريكان نجحوا بالقضاء على المقاومة المسلحة ضدهم، باستخدام كفوء متناغم للقوة العسكرية والإعلامية، حيث تكفلت القوة العسكرية بالقضاء على المقاومة في مجازر الفلوجة وغيرها، وكذلك على قوات الصدريين في مناطق مختلفة من العراق. ونجح الإعلام الذي أسسه الأمريكان في العراق بأموال طائلة سراً وعلناً، بإلصاق صفة الإرهاب بالمقاومة وربط  بها كل عملية إنتحارية أو إرهابية، والتي كان يدير اغلبيتها الساحقة بنفسه حسب مؤشرات كثيرة، وبضعة ادلة قاطعة.
وحين أدركت المقاومة (مهما كانت هذه العبارة تعني الآن في العراق) المؤامرة، وحاولت أن تميز نفسها عن الأعمال الإرهابية، وأسمت نفسها "المقاومة الشريفة"، حول الإعلام تلك العبارة إلى مسخرة، وأصر على أنها تعني قتل الناس.
ومما لا شك فيه أن "المقاومة" نفسها ساعدت الأمريكان كثيراَ في صورتها المشوهة من خلال مواقفها المتخلفة وخطاباتها الحمقاء وضمها لكل من هب ودب، والسماح بتقديم السيئين من بقايا البعث على أنهم ممثليها، وأغلبهم من المجرمين والرجعيين الذين يرفض بعضهم حتى الكلام عن الديمقراطية، ويريد صراحة "إعادة العراق إلى ما كان عليه". هذا إضافة إلى اختراقها بشدة من قبل الأمريكان، وقدرتهم على تحديد قياداتها من خلال دعم من يريدوهم وتصفية الآخرين. وبالنتيجة فأن هؤلاء القادة لعبوا دوراً اساسياً في محاولة إقناع الشعب بضرورة بقاء الأمريكان، ليس فقط بتصريحاتهم، وأنما أيضاً بزيادة نشاطهم كلما جاء موعد الحديث عن انسحاب القوات الأمريكية، وهو مؤشر قوي على ارتباطهم.
أما كيف توصل الأحتلال إلى تحقيق ذلك، فلقد كان الفرق بين الجهتين هائلاً، فأمام هذا التقدم التكنولوجي والإستخباراتي، يتحدث الناس أن بعض "المقاومة" كانوا يتحدثون بالموبايل بشكل مكشوف مع بعضهم البعض دون أن يخطر ببالهم أنه قد يتم التنصت عليهم!
النتيجة النهائية لكل ذلك، أن "المقاومة" ا لعراقية المسلحة فشلت فشلاً ذريعاً في معركة البقاء، وصارت شيئاً كريهاً في نفوس أغلبية العراقيين، ولم تضع جهودها وتضحياتها فقط، بل أن اسمها ارتبط بالإرهاب والإجرام، وكان السبب الرئيسي في ذلك مواقف حمقاء ولا أخلاقية – براغماتية – غير مدروسة وغير مبدئية، ولم تنجح في كسب أي تعاطف يذكر من الشعب، رغم كرهه للإحتلال.

الآن، وقوات الإحتلال على وشك الرحيل، بافتراض أنه سيحدث حقاً، يواجه العراقيون وضعاً جديداً: يستلموا بلادهم ومسؤوليتها كاملة، وتتحمل الحكومات نتيجة قراراتها كاملة، ولا بأس من نظرة إلى الوراء، لنرى ما الذي يعنيه ذلك "الفراغ" الذي سيتركه الإحتلال، والذي يقلق الكثيرين. علينا أن نفهم تلك المرحلة وتأثيرات ذلك الجسم الغريب السلبية والإيجابية لنفهم حال بلدنا بدونه ونقدر خطواتنا التالية بشكل سليم. ودراسة تاريخ القوات الأمريكية في بلدان مختلفة سيكون مفيداً بشكل خاص لهذا الأمر.

الشعوب والقواعد: في العراق ودول أخرى

تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في 130 من دول العالم بغير رضا شعوبها. فالإحصاءات تشير إلى تزايد كراهية تلك الشعوب لأميركا وسياستها، خاصة بعد عام 2001، حين تحولت الولايات المتحدة إلى "بلطجي" العالم المنفلت من أي قيد، وتكاثرت جرائمها وسجونها السرية وفضائحها في كل العالم.

وفي العراق تبخرت مع السنين تدريجياً، السعادة والامتنان لهذه القوات لتخليصهم من الدكتاتور الذي سبق أن دعمته نفس تلك القوات أكثر من مرة في الماضي، وحلت محلها مناظر سجن "أبو غريب" وغيرها من الجرائم المقززة التي ارتكبها الجيش الأمريكي ولواحقه في العراق، مازال الناس يطالبون بملاحقته عليها، (1) إضافة إلى دوام العنف والإرهاب في البلاد، والذي يتزايد عدد المؤمنين بأن الجيش الأمريكي يتعمد إبقاءه، إن لم يكن يديره كله..

خلال جدل البقاء، كرر دعاة بقاء الاحتلال في العراق ثيمات بسيطة واضحة يسهل حفظها، كما تنصح مدارس الإعلام منذ النازية، وكأنها لتكرارها توحي بأنها صدرت من مصدر مركزي واحد.
فالاحتلال،  "ضروري لحماية الديمقراطية"..و" قواتنا لم تكتمل بعد".. ."ليست لدينا حماية لسمائنا"... نحتاج إلى "الدعم اللوجستي" ، محاربة " تنظيم القاعدة" و "الإرهاب"...حمايتنا من أخطار "البعث" و"جيش المهدي" و"دول الجوار"، وهي أيضاً ضرورية لدعمنا إيجابياً من الأمم المتحدة "الشريرة" التي تريد أن تبقي علينا أحكام "الفصل السابع"  كما انها "ضمان ضد الاحتقان الطائفي" ، و"صداقة أميركا ضرورية لنا" و لـ  "الاقتصاد"..والتقدم العلمي.. الخ.

لاتحتاج تلك الحجج لدحضها إلى الكثير من الجهد، فادعاء حماية الديمقراطية (في العراق)، وحماية العراق من "البعث"، يفنده تدخل السفارة الأمريكية المتكرر وخاصة في الانتخابات العراقية الأخيرة وضغطها على المؤسسات الانتخابية والدستورية وحتى القضائية لفرض مرشحين للانتخابات من بقايا البعث الذي قالت أنها جاءت "لتحرر" العراق منه، مما حدا برئيس الوزراء لأول مرة أن يهدد بطرد السفير الأمريكي. وفي التحقيقات الأخيرة التي جرت بشأن المفوضية العليا للانتخابات، الشديدة الفساد، كشفت النائبة حنان الفتلاوي أن المفوضية كانت تسلم الجيش الأمريكي صناديق الاقتراع سراً!
أما "الحاجة لحماية السماء" و "الدعم اللوجستي" وعدم "اكتمال القوات العراقية" فهي حجج فارغة فلا يوجد شيء اسمه "اكتمال القوات"، وتطمح الدول باستمرار إلى زيادة قواتها وأولها الولايات المتحدة نفسها التي تمتلك جيشاً يعادل جيوش العالم مجتمعة وهي مستمرة بـ "إكماله"..كما أن هذه الحاجات تحدد على أساس تقدير حجم التهديدات التي يتعرض لها البلد، ويتفق الساسة العراقيون أن ذلك الحجم في هذه اللحظة يساوي "صفراً". فلم يعد أحد يتحدث عن "التهديد الإيراني"، فلا يبقى من تهديد إلا اللهم من الجهات الصديقة لأميركا، والتي تبين التجربة مع الكرد خاصة، أن القوات الأمريكية لن تمنعها، كما لن تساعد على استعادة ما استقطعه ويستقطعه أصدقائها - الكويت أو السعودية أو الأردن، من أراض وثروات عراقية نظمت بإدارة أمريكية واضحة. إضافة إلى كل ذلك، اتهم العديد من السياسيين الولايات المتحدة بـ "عرقلة حصول العراق على أسلحة" لإبقاء جيشه ضعيفاً، وليس العكس.(2) (3) (4) 

أما ميليشيات "جيش المهدي" فقد تعهد الصدريون بعدم إعادته إلا في حالة بقاء الاحتلال، وهم يتفقون اليوم مع رئيس الحكومة بأنه لم يعد هناك مبرر لذلك ووعدوا بدعم الحكومة في حالة تنفيذ خروج ا لقوات، وهذه من أول المكاسب الهامة لخروج قوات الإحتلال. وأما الفصل ا لسابع فقد وعدنا دعاة بقاء أميركا بالخروج منه عند توقيعنا على المعاهدة قبل سنتين، لكنه بقي كورقة ابتزاز أمريكية صريحة لشعب العراق، وليس هناك ما يشير إلى أنها ستتخلى عنها، سواء بقيت قواتها او خرجت، إلا لظروف خارج هذا الموضوع، أو لعدم قدرتها على استخدام تلك الورقة بعد أن اهترأت كثيراً. وأما القاعدة و "العفاريت" والقراصنة الصوماليين الذين هددنا وزير دفاعنا السابق بلا خجل بأنهم سيهاجموننا في حالة خروج أميركا، فهي أسباب أقل ما يقال عنها انها مخجلة.

وبما أن الإقناع بهذه الحجج أمر مستحيل، لم يبق للاحتلال إلا أن يفرض نفسه بالقوة المدعومة بالإعلام والعملاء. وهو يعلم أن تأثير الإعلام ليس أبدياً، ولا يأمل أن تدعمه الأكاذيب إلى الأبد، بل يأمل أن تدعمه إلى أن يصبح اكتشافها أمراً متأخراً بالنسبة للشعب. لذلك سعى إلى استغلال الوقت للسيطرة على المؤسسات المالية والسياسية على البلاد، وإحكام الخناق على المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتخريب أية محاولات لنهضة البلاد وإرغامها على صرف أية أموال إضافية قد تحصل عليها في شراء الأسلحة وغيرها، كما يحدث دائماً مع "أصدقاء أميركا"، غالباً بأضعاف أسعارها البديلة في مناطق أخرى، وفي عقود أشبه بالفخاخ تكبل البلاد أكثر وأكثر، وتتزايد تكاليفها بمراحل دون أن يكون هناك فرصة للتراجع، حتى إن جاءت حكومات تعترض على ذلك مستقبلاً.

وبالرغم من وجود نسبة مقتنعة بفائدة بقاء الأمريكان، فيمكن أن تكتشف شعوراً متزايداً داخل القابلين للوجود الأمريكي قبل قرار الرحيل، بأنهم إنما يقبلون خوفاً من بطش الأمريكان وليس قناعتهم بهم. أحد المدافعين عن إبقاء القوات الأمريكية يصف الأمر بالشكل التالي:
"وجود القوات الأمريكية في العراق قد يؤدي إلى مزيد من الاستقرار، ويعزز العملية السياسية، عندما تشعر الولايات المتحدة بالاطمئنان إلى توجه العراق نحو علاقة إستراتيجية معها. "
وهو يكشف ان الموضوع هو ليس لحماية العراق من أخطار ما، وإنما الهدف هو طمأنة أميركا أننا سنكون "لطفاء" دائماً ومرتبطين بـ "علاقة إستراتيجية" معها، "علاقة" تقدر هي أنها لا يمكنها أن تقنعنا بها إلا بوجود قوات عسكرية تخيفنا بها إن رفضنا تلك العلاقة يوماً أو طلبنا تغييرها أو قلنا أنها لم تكن ما اتفقنا عليه! قوات تستطيع ان تحدد بواسطتها تفسيرها للبنود وشروط تنفيذها وكل ما ترك غامضاً في المنطقة الرمادية في الاتفاقات.

بشكل عام، يتبع الاحتلال مبدأ مكيافللي في إعادة عناصر النظام السابق إلى مناصبهم حيثما أمكن، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أعاد الأمريكان الكثير من النازيين والفاشيين إلى المواقع الأمنية في الحكومات التي تأسست بإشرافهم، وذلك لمحاربة الحركة الشيوعية في الدول التي حرروها من النازية، خاصة اليابان وإيطاليا واليونان وألمانيا، بل وأسسوا منهم منظمات سرية تعمل على إسقاط النظام في حالة فوز الشيوعيين في الإنتخابات في أي بلد من بلدان حلف الأطلسي وبعض الدول المحايدة ايضاً ، ودعيت شبكة المنظمات هذه بأسم "غلاديو".(5).
وبشكل عام عمل الأمريكان على إعادة الجلادين في البلدان التي "يحررونها" من حكوماتها السيئة، أو سلموها إلى عصابات جديدة إن كانت الحكومة التي تم إسقاطها حكومة شعبية أمينة. (6) ذلك لأنهم اكتشفوا أن هؤلاء هم خير من يخدمهم في النهاية. وقد عملوا بجد واحتهاد في العراق على إعادة بقايا الصداميين إلى الحكم، (7) وخاصة في الجيش والأمن. وبلغ اشمئزاز الناس من ما فاح من فضائح في هذا الأمر، أن أضطر السفير الأمريكي في العراق إلى التأكيد بأنهم لا يعملون على إعادة البعث! (8)

هذا ما حدث في العراق وهو لايختلف عموماً عن ما يحدث مع جميع "الأصدقاء" من "الدول السعيدة"بالقواعد الأجنبية. ولنأخذ ثلاثة أمثلة على الدول "السعيدة" بتكرم أميركا ببناء قواعد فيها، ولنأخذ دولة عظمى هي اليابان، ومتوسطة هي أستراليا، وصغيرة هي سيشيل ولنر ما حدث ويحدث فيها.
يضرب دعاة القواعد الأمريكية في العراق المثل باليابان وتعايش شعبها مع تلك القواعد وعدم شعوره بالإهانة. لكن خير تعبير عن حقيقة شعور اليابانيين، هو انتخابهم مؤخراً للمرشح الذي وعدهم بإزالة القواعد الأمريكية! لكن الرجل فشل في ذلك عندما صار رئيساً لوزراء اليابان، فسارت تظاهرات عارمة تطالبه بالوفاء بوعده الأمريكان من أوكيناوا، (9) فقدم اعتذاره واستقال، وهي نهاية محزنة تكشف لنا حقائق أخرى أكثر خطورة عن مستقبلنا. (10)

في استراليا، أرادت حكومة غوف ويتلام (Gough Whitlam) الإشتراكية التي فازت بالانتخابات عام 1972  ، أن تعرف ما يجري في بلادها ونوع ومدى نشاط قواعد السي آي أي فيها، فلم تستطع شيئاً بل تمت إقالتها !! (11)

أما جزر سيشيل الصغيرة التي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية ، فلم تتسع البلاد فيها للقواعد وللشعب، فقرروا إجلاء الشعب الصغير من بلاده ليفسح المكان للقواعد! (12)

في العراق كان خيار أميركا لأول سفير لها فيه  ذا معنى عميق، فلم يتم اختيار خبير في "الإعمار" كما يفترض ان يستنتج من الخطاب الأمريكي ، بل خبير في صنع خلايا الإرهاب، يطارد حيثما حل من قبل الناشطين في العالم، جون نيغروبونتي (13)  الذي تدرب على صناعة الإرهاب أثناء توليه لسفارة بلاده في هندوراس، فأغرقت شوارع العراق بعد احتلاله بحوادث لا تشبه في وحشيتها إلا ما عرفته دول أميركا الوسطى في ذلك الوقت. ولقد كان هناك العديد من الدلائل والمؤشرات على العلاقة الوطيدة بين الإرهاب والجيش الأمريكي. ومثل العديد من العمليات الإجرامية السابقة فأنه تبين أن إرهابيي جريمة النخيب الأخيرة كانوا ا قد أطلق سراحهم مؤخراً من سجن أمريكي يبدو أنه عبارة عن مركز لتدريب الإرهابيين.  (14)
أما انصع الأدلة قوة فلم يكن أقل من إلقاء القبض على عسكريين بريطانيين متلبسين بتنفيذ عملية "انتحارية" بتفجير شخص بأجهزة إطلاق عن بعد، تم ضبطها معهما، وقتلهما شرطيين قبل القبض عليهما، ثم تم إنقاذهما بالدبابات البريطانية التي حطمت السجن الذي كانا فيه، وفيما بعد تكفل التجاهل الإعلامي بأن يجعلنا ننسى أن البريطانيان كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد! (15).

وسعى الأمريكان إلى إحكام القبضة على الجيش والأمن من خلال محاولة فرض "أصدقائهم" لاستلام الوزارات الأمنية والعسكرية، وكذلك تم خلسة وبشكل مشبوه تمرير اتفاقيات بين العراق وحلف الناتو،(16) وبدون أن يثير الإعلام في العراق أية أسئلة حول الموضوع أو ينبه الشعب إلى ما يجري وراء الكواليس، واستمرت علاقات السياسيين من أصدقاء أميركا، المشبوهة بتلك المنظمة. (17)

كذلك إكتشف العراقيون مع الأيام كيف أن دستورهم كتب بشكل يجعل الحكومة مقيدة ومشلولة ومعتمدة على الإرادة  الأمريكية، كما اكتشفوا شدة وحدة وكلفة القيود الإقتصادية التي تم تكبيلهم بها. فالأجندة الأمريكية للإقتصاد العراقي جعلت لنفسها هدفاً مركزيا هو تحطيم القطاع العام وخلق طبقة مستثمرين ثرية تكون حليفاً طبيعياً للوجود الأمريكي، حتى بدون القوات. تخبرهم بذلك تجاربهم في مختلف الدول التي سبق أن سيطروا عليها ولو لفترة، وتم نهبها وتحطيم قاعدتها للقطاع العام وعرضه للصوص السوق الحر، كما حدث في روسيا يلتسين مثلاً. وتعمل أميركا جاهدة على تثبيت هذا الطريق بمشاريع لتدريب رجال أعمال وغيرها (18) فارضة على العراق نفس الأسلوب الأمريكي الذي أدى إلى حدة الفارق الطبقي وتدمير المجتمع وجعل من أميركا أكبر سجان لشعبه في العالم. (19)

أما مشاريع "المساعدات" الأمريكية فلم تكن إلا وسيلة لتحويل أموال دافع الضرائب الأمريكي إلى الشركات الأمريكية وبدون أية فائدة تذكر للعراق التي يفترض أنها مخصصة لمساعدته (20) بل على العكس ثبت مسؤولية الولايات المتحدة عن اختفاء مليارات كشفتها لجنة النزاهة في البرلمان العراقي (21) ومليارات أخرى إعترفت بها لوس انجلس تايمز (22). ويذكرنا هذا الخنق والتدمير لإقتصاد البلاد بما عرف عن الأجندة الأمريكية للدول النامية من خلال كتاب رجال الضربة الإقتصادية  (23) وكتب كثيرة أخرى.

إضافة إلى ذلك أسست الإدارة الأمريكية مصارف عراقية ترتبط بشكل لا فكاك منه بالنظام المصرفي الأمريكي الذي تسيطر عليه الشركات، وقد كشفت عملية إقالة وزير الكهرباء العراقي السابق مدى خطورة المخطط الأمريكي لخنق الإقتصاد العراقي وأن بنك جي بي موركان، يملك اليوم فيتو على قرارات العراق الإقتصادية ويقرر من أين يسمح للعراق ان يشتري ما يريد شراءه و أين لا يسمح له. كما كشف حديث الوزير المستقيل في مجلس النواب (24) (فيديو على الرابط) مدى بشاعة الإستثمار الذي تضغط أميركا من أجل تمليكه السلطة على الإقتصاد العراقي،  وبين الوزير في خطابه كيف أن مشروعاً للكهرباء في القطاع  الخاص الإستثماري كان سيكلف البلاد 12 مليار دولار ، بينما كلف البديل في القطاع العام بحدود 800 الف دولار، مع افضليات أخرى للقطاع العام. إضافة إلى تبعية العراق بشكل مهين للتحديدات الأمريكية في من يسمح له ان يتعامل معه تجارياً ومن لا يسمح له، وجعلت لبنك جي بي موركان الأمريكي فيتو على القرار الإقتصادي العراقي.

خاتمة: الشعوب مدعوة للتواصل أكثر وتبادل التجارب

القواعد العسكرية الأجنبية في أي بلد خطر كامن، وما لم تكن هناك ظروف حرب فوق طاقة البلد، فلا مبرر لتحمل ذلك الخطر حتى من دول صديقة. أما إبقاؤها بشكل طويل أو ثابت، ومن دول مشكوك بأجندتها، إن لم نقل أن لها أجندة معادية، فهو أما حماقة كبرى أو استسلام وفقدان للإرادة. وتدل تجارب الشعوب المختلفة وتاريخها مع السلطة الأمريكية، أن خير طريقة للتعامل مع مثل هذا الأمر هو بالرفض الصريح والواضح لاية سلطة أمريكية، وتحمل المخاطرة بذلك، فالأخطار التي تأتي بها المجاملات غالباً ما تكون أكبر بكثير، ولم تستخدم السفارات الأمريكية لدى الحكومات التي حاولت "مجاملتها" إلا لإسقاطها بدكتاتوريات وحشية تنشر الموت في البلاد، كما حدث في العراق عام 63 وشيلي عام 73 وغيرها كثير(25).

ربما كان من حسن حظ العراق، وهي حالة نادرة، أن يمر بهذه الأزمة في وقت يتواجد فيه رئيس معتدل بالقياس الامريكي، على الولايات المتحدة. فرغم كل ما قيل عن أوباما بحق، فهو يبقى أقل استعداداً للجريمة من الجمهوريين من أمثال ريكان وبوش الأب والإبن وما أنزل به هؤلاء العالم من ويلات. لقد استغل رئيس بنما الوطني توريخوس وجود كارتر على رأس الحكومة الأمريكية لتوقيع اتفاقية تحرير قناتها من سلطة أميركا، وبدأنا فعلاً بالتخلص من القواعد الأمريكية، وعلينا أن نسعى لتحرير البلاد من أية قيود أمريكية على العراق، عسكرية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية او غيرها، فقد لا تأت الفرصة المواتية الثانية إلا بعد زمن طويل من القهر والخسائر.

لقد جاء القرار بخروج القوات، وفرح أغلب الشعب وعبر عن ذلك بالتظاهرات وغيرها، إلا أن ذلك لا يعني أن لم يكن هناك من كتب بحزن حقيقي لرحيل تلك القوات. ولكن الحقيقة هي أن الذين يرون في العلاقة مع أميركا فائدة وضرورة استراتيجية يفترض بهم أن يكونوا أول الداعين إلى خروج قواتها من العراق، فوجود تلك القوات هو أكبر العراقيل أمام مشاعر الناس تجاه العلاقة مع أميركا، وتصويرها بشكل عسكري عدائي، فلا يوجد في العراق من يتصور أن هذه القوات وجدت لحمايته، بل لفرض نفسها عليه. والآن، إن تم تنفيذ الإنسحاب بلا مؤامرات ولا ألاعيب، فالفرصة متاحة أمام هؤلاء والأمريكان ان يبرهنوا – رغم شكوكنا -  أنهم يعنون شيئاً إيجابياً للعراق، وليس تحويله إلى مكب لإسلحة يشتريها بأغلى الأثمان وعقود تكبيلية وحكومات تابعة مكروهة من شعبها ومفروضة عليه، كما هي الحال في الغالبية الساحقة مع دول العالم الثالث ذات العلاقة الجيدة مع الإدارة الأمريكية. لا شك عندي أن هذا القرار سينعكس إيجابياً على المشاعر العراقية من أميركا، وأن هناك العديد من الخطوات التالية اللازمة لبناء علاقة حقيقية وجميلة ومفيدة معها وتتمثل بتحرر العراق من كل القيود الأمريكية الأخرى ومن أشكال الهيمنة الأمريكية، مثل السفارة العملاقة وارتباط بنك التجارة العراقي بالفيتو من بنك جي بي موركان الأمريكي، وأمثالها من الأمور غير الطبيعية في علاقة اي بلدين في العالم.
من أجل هذا فأن على الشعب العراقي أن يؤمن أولاً حريته الأكيدة في تعميق علاقته مع شعوب ودول المنطقة، بدون أية قيود أمريكية، وأن يسعى ايضاً إلى التعاون قدر الإمكان مع الشعب الأمريكي بعيداً عن أطماع ومشاريع شركات البلاد الخطرة وارتباطات إدارته السياسية بإسرائيل، فأن هذه العلاقة خير ما يؤمن البلاد من شرور تلك الشركات ومؤامراتها، لكنه بالتاكيد سيكون طريقاً طويلاً وشاقاً ومحفوفاً بالمخاطر.

(1) http://www.aljazeera.net/NR/exeres/32251A8A-EE96-4F02-AE3D-573328DAC5F4.htm
(2) http://www.iraqcenter.net/vb/35172.html
(3) http://www.alkufanews.com/news.php?action=view&id=5389
(4) http://old.moheet.com/show_news.aspx?nid=334566&pg=31
(5) http://en.wikipedia.org/wiki/Operation_Gladio
(6) http://www.doroob.com/archives/?p=20611
(7) http://almalafpress.net/index.php?d=168&id=92481
(8) http://www.yanabeealiraq.com/articles/saeb-khalil250809.htm
(9) http://www.wsws.org/articles/2010/apr2010/japa-a29.shtml
(10) http://www.wsws.org/articles/2011/sep2011/japa-s07.shtml
(11) http://www.thawabitna.com/Article/article09-09-08/Article323.htm
(12) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=145683
(13) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=20653
(14) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=7539
(15)http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=46809
(16) http://www.imn.iq/news/view.3908
(17) http://www.alliraqnews.com/index.php?option=com_content&task=view&id=6088&Itemid=86
(18) http://www.nasiriyahnews.com/news.php?action=view&id=1018
(19) http://www.aljazeera.net/news/archive/archive?ArchiveId=1092467
(20) http://www.almawsil.com/vb/showthread.php?t=84624
(21) http://www.alkufanews.com/news.php?action=view&id=5298
(22) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=4988
(23) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=100627
(24) Iraqi ousted minister: J.P. Morgan chockes our economy and controls it
(25) Be nice to America. Or we'll bring democracy to your country!