حيرة انسان هذا العصر بين الاستقامة والاعوجاج

بدء بواسطة simon kossa, أكتوبر 26, 2011, 04:02:14 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

simon kossa

حيرة إنسان هذا العصر بين الاستقامة والأعوجاج



شمعون كوسا

في كل ما كتبته لحدّ الان ، كنت استوحي افكاري من مظاهرالحياة ، في جوانبها السلبية أوالايجابية وزواياها المتنافرة أوالمتقاربة . والمواضيع كانت مقتبسة من صلب الحياة اليومية ، حتى ان بعض اقوالي الصريحة اعتُبِرت أحيانا تجاوزا او جسارة او مبالغة ، ولكنّ ما كتبته لم يكن سوى سطور تكشف للعيان ما يفكر فيه الكثيرون .

تواصُلاً إذن ، مع هذا السياق ، فقد نويت اليوم التطرّقَ الى موضوع طالما راودني أيام كنت اعاني من شحّة الافكار ، موضوع كنت أُرجئ الخوض فيه لِما يثيره من حساسية لدى البعض ، غير أنّ تكراره في مئات الحالات أو آلافها ، أفقده صفته المُربكة هذه ، وحوّله الى شأن عاديّ .
فحيثيات المقال هنا مُبتكرة وتستقي فصولها من ألاف الروايات التي سمعناها، وتبدأ كما يلي :

يُروى عن صديقين عقدا العزم على الهجرة ، فتركا البلد في نفس اليوم . كان أول توجههما الى أقرب بلد مجاور ، حيث امضيا فترة شهر ونصف في غرفة صغيرة الى ان تعرّفا على شخص قال عن نفسه بانه لم يُفلح الا في مهنة التهريب . إتفق الصديقان معه على مبلغ معين من المال لقاء إيصالهما الى بلد اوربي . قام المهرب بتهيئة كل ما يلزم لسفر الصديقين من اوراق وجوازات ، وفي اليوم المحدّد للسفر ، قبض المبلغ المتفق عليه ورافقهما الى المطار الى ان إستقلاّ الطائرة واستقرا في مقعديهما ، فودّعهما مؤكّداً بان هناك معتمد من قبله بالاوصاف الفلانية سيستقبلهما لدى الوصول .
بعد هبوط الطائرة في المحطة الاولى من الرحلة ، أجال الصديقان بنظريهما فلم يعثرا على المعتمد المزعوم أو أي عنصر آخر مكلف بالمهمة ، فقرّرا التوجه الى بوابة الخروج . لاحظ شرطي الجوازات ارتباكهما ،  ففحص اوراقهما ، ولم يُطِل في التدقيق كثيرا كي يكشف الخلل في وضعهما ، فتمّ حجزهما ومن ثمّ اعادتهما الى البلد الذي قدِما منه .
غداة  رجوعهما ، هَمّا بالبحث عن المهرّب ،  ولكن محاولاتهما باءت بالفشل لان هذا الاخير كان مؤمنا بان الاختفاء  بعد كل عملية هو واجب تمليه عليه الفقرة (أ) من البند الخامس من قانون التهريب !!
بعد اسبوع من عودتهما ، عثرا على مهرّب آخر اسمه شريف ويرفض مناداته باسم المهرب .  ولكي أجنـّبكم مشقة الولوج في مسالك قصة طويلة أقول بان هذا الاخير نفـّذ العملية . أخفق في بعض مساعيه غير انه كان يعالج المشاكل عن بُعد ، وهكذا من محطة الى محطة ، الى ان استقرّ بهما المقام في البلد الخامس ، حيث كانت خاتمة رحلتهما .
حال وصولهما تقدّما بطلب اللجوء ، وبعد اربعة اشهر من الانتظار ، ظهرت النتيجة ، فكانت ايجابية للاول وسلبية للثاني . كان الاول قد اختلق قصة تتماشى وشروط قبول اللاجئين وهيّأ اجوبة تتلاءم مع اسئلة لا تحتمل الخطأ بغضّ النظر عن الحقيقة ، أمّا الثاني ، فانه معتمداً على قوة مساره الشاق ، سرد قصته كما هي دون اي تحوير ، ورَدّ على اسئلة المحققين بموجب القصة التي عاشها والطريق الذي سلكه .   صدّقت اللجنة كلام الاول وكذّبت الثاني . عند اكتشاف حظـّه العاثر ، تقدّم الصديق الثاني بقصة مشابهة لصديقه ، ولكنها رُفضت وقيل له بان هذه الحقيقة كان يجب الادلاء بها منذ البداية !!

وفي نفس السياق ، سمعتُ عن شخصين آخرين تقدما بطلب الى لجنة طبية لتثبيت عدم اهليتهما للعمل ومن ثمّ اكتساب درجة إعاقة أوالحصول على امتيازات اخرى كتقاعد مبكر أوغيره . كان الاول لا يعاني من عوق او مرض يذكر ، ولكنه بفضل تقارير صادرة من طبيب صديق ومعززة بردود فعل وحركات  تمثيلية تدرّب عليها لعدة ايام في دورة تعليمية عن فنون  إصدار آهات الوجع ونداءات الاستغاثة والاسترحام  والبكاء ، أولعب ادوار الكآبة وحتى الاغماء ، استطاع المتمارض إقناع اللجنة والحصول على ما يصبو اليه ، أما الشخص الثاني الذي كان يعاني من مرض حقيقى ، فانه معتمداً على حالته الصحية الموضوعية ، لم يبحث عن اية وسيلة أو حيلة ، فخرج بنتيجة سلبية ورفض طلبه . بدأ المريض يندب حظّه ويقول ، يا ليتني لجأت الى نفس اساليب الاخ الذي سبقني في التحايل والالتواء !!

والظاهرة الاخرى التي نسمع عنها يوميا في عالم القضاء والعدالة ، تتعلق بشخصين يُقبض عليهما في ساحة الجريمة ، الاول مجرم حقيقي والثاني برئ . يتمّ الحكم على البرئ ، ويتوصل المجرم الحقيقي الى الافلات عن الحكم . الاول أستند على براءته ونظافة يديه ، والثاني إتـّكأ على مدافعين ، خبراء في تحوير القانون وتفسيره وإيجاد ثغرات تضع الحاكم أمام حالة لا يمكنه إلاّ النطق بحكم بعيد عن الحقيقة ، وهكذا يخرج البرئ مكبّل اليدين والمجرم حرّا طليقا ، محاطا بهالة من النور فوق هامته !!

نبتدأ بالايضاح بان كلامنا هنا لا يشمل المجتمع باكمله ، لانه ليس كلّ المجتمع لاجئا ولا كلّ المجتمع خاضعا للجنة طبية ولا كلّ المجتمع ماثلا امام المحاكم ، وحتى من بين اللاجئين وطالبي اللجان الطبية والماثلين امام المحاكم ، لم يلجأوا كلهم الى هذه الاساليب ، غير انه وبصورة عامة قد شاعت هذه الاساليب في مثل هذه الحالات التي ذكرتها ، ونستطيع القول بانها قد شاعت حتى  في الحياة اليومية بمستويات ادنى وفي حالات اقل اهمية.
فالانسان ينقاد بسهولة الى كذب صغير او إنكار بسيط أو تحوير خفيف ، او صمت بليغ ، او تأكيد بواسطة هزة رأس أو غمزة عين لا يفقه معناها غير من يعنيه الامر أو وسائل اخرى تقود الى الفوز بمكسب سريع ، دون استحقاق، كالحصول مثلا على ارض او بيت او منصب او لقب او امتياز خاص، لانها فضلا عن سهولتها ، فانها تتمّ بعيدا عن الانظار حيث لا شاهد عليها غير الضمير.

لقد غدت اساليب التحايل والاعوجاج فعلاً ظاهرة عادية جدا ، بل يعتبرها بعض مشجعيها ضرورة لا بد منها للحياة في هذا العصر الذي لم يعد يُبصر الا مصلحته الذاتية . عصرٍ تنكّر للمبادئ ، عصر اصبحت المادة تتحكم في كل شئ، فأمسى كل ما لا يتماشى مع هذه المصلحة مرفوضا .
بات الكثيرون يعتبرون العقائد شأنا باليا لا يفيد الا العجائز وبسطاء العقل ، لان الشاطر عندهم هو من يدبّر امره ويحقق مكسبا مباشرا، ويعبّرون عن قناعتهم هذه قائلين : أين الضرر إذا كان ثمن هذا المكسب ، الذي لا يتكرر يوميا ، اكذوبة بيضاء ام صفراء ؟
إنه مجتمع يذهب فيه البعض حدّ توجيه اللوم لمن لم يجرأ على إتّباع هذه الاسلوب ، وقد نسمع ايضا نماذج من هؤلاء اللائمين يصرّحون قائلين : إن  فلانَاً رجل فاشل وساذج العقل ، هل كان يعلم احد بما سيقوله او لا يقوله ؟ لماذا اضاع من يده هذه الصفقة او تلك المبالغ ؟
وكم زوجة نسمعها تعاتب زوجها لانه لم يفعل كما فعل الشخص الفلاني قائلة : ستبقى طوال حياتك شحّاذا ، ومن كان سيعاتبك لو فعلت مثله ، وهل جميع من فعلوا ذلك اشرار ؟ اذهب وحوّل المبادئ التي تحملها  الى عصير تروي فيها عطشك !!
ونسمع ايضا أنفاراً ينعتون اصحابهم بالحمير لانهم خسروا الكثير بسبب امتناعهم عن كذب صغير كان سيتمّ بصمت، في منأى عن الانظار والاسماع !!

لم يبقَ الانسان كما كان في السابق ، حيث الحقيقة كانت مقياس التصرف في الحياة ، حقيقة مقدسة لا يحيد عنها أحد قيد انملة حتى ولو بقطع الرقاب . كانت كل ذرّة من الحقيقة آنذاك تعادل مثاقيل ذهب ، ولكن الان مثاقيل الحقيقة لا تعادل شيئا.

إني ارى البعض قد نفذ صبرهم وبودّهم القول : الى متي سيطوف بنا الاخ في جولات لا تنتهي من تكرار وحشو ، وهل يريدنا  أن نعيد عليه ما قيل لبولس الرسول في زمانه : ستكلمنا عن هذا الموضوع غدا أو في وقت لاحق؟
تأكدوا باني ارى نفسي متورطا في موضوع لا اهتدي الى كيفية إنهائه لان الظاهرة قد تأصلت في حياة الاغلبية من الناس. ولكني ، انطلاقا من المنطق ، اجزم بانه لابدّ أن يأتي اليوم الذي سيملّ فيه الانسان ويشمئزّ من العيش في مجتمع يفتقر الى الصدق والنزاهة ، مجتمع لا يأتمن الناس على بعضهم البعض ، مجتمع قد تحوّل الكثيرون فيه الى ذئاب مفترسة.
إني ألمح خيال بصيص بعيد جدا ، فاذا لم يكن سرابا ، أرى فيه بداية أمل للاجيال القادمة ، وبقليل من التفاؤل أتمناه نصيبا لاحفاد أحفادنا !!




ماهر سعيد متي

لقد نقلت الحقيقة .. رغم مرارتها ... شكرا لك .. تحياتي
مقولة جميلة : بدلا من ان تلعن الظلام .. اشعل شمعة