صعوبة الاقرار بالخطأ / شمعون كوسا

بدء بواسطة برطلي دوت نت, ديسمبر 10, 2014, 05:17:07 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

صعوبة الاقرار بالخطأ

برطلي . نت / بريد الموقع


شمعون كوسا

كان قد اختلف صديقان في أمر جعلهما يبتعدان كثيرا عن بعضهما البعض . المقرّبون من هذين الشخصين حرصوا على ادامة شعلة الامل في رؤيتهما يوما عائدَين الى الودّ كما كانا  . حتى الشمس ، متشجعة بوقائع القائد ايشوع بن نون الذي كان قد امرها في في أحد اسفار العهد القديم بتأجيل غروبها من اجل انهاء معركته ، اعربت عن رغبتها في المساهمة في هذه المساعي والتمنيات ،  فكانت في بعض الايام تُرجئ غروبها لكي تتيح للمتخاصمَين ازالة غضبهما ونسيانه قبل الغروب ، استمرت على هذا المنوال لعدة ايام اعتقد فيها الناس بان النهار بدأ يطول قبل موسمه ،  ولكنها عادت أخيرا الى مواقيتها ، فاصبح الغروب يتمّ لسنوات عديدة دون زوال هذا الغضب .
  دارت الايام  ولم تتوقف الا في أمسية تواجد فيها هذان الشخصان في محفل يضمّ الاهل والاقارب من الفريقين . انتهز المقرّبون من الصديقين الغاضبَين مناسبة هذا الاحتفال لتقريبهما الى بعضهما . ففي منتصف الجلسة نهضت الجاهير وبدأت بالتصفيق والعيون شاخصة الى الخصمين ، وبعد حثّ وتحريض وتشجيع  وهتاف ونداء ، قام الصديقان وتعانقا وسط تصفيق الجميع . فرح الجميع بالمصالحة هذه واستأنفت الحفلة برامجها . بعد خمس وثلاثين دقيقة ، حيث كان قد باشر الصديقان بحديث عادي ، تطور قليلا فقليلا وافضى بهما الى موضوع خلافهما وتأريخه واسبابه . جاء العتاب هادئا عند بدايته، وما لبث أن احتدّ تدريجيا الى ان تعالت الاصوات وشرع كل واحد منهما يتّهم الاخر ويدّعي بصواب موقفه ، ولم يطل الجدال كثيرا حين قام الصديقان في اشتباك بالايدي وتبادل الضربات  والشتائم . توصل الحاضرون الى فكّ اشتباك الصديقين المتعاديين ،  وعاد الجميع الى مقاعدهم عدا الخصمين غير التائبين اللذين تركا القاعة.

هذه قصة حقيقية عن شخصين بقيا على خصام لفترة طويلة ، ولكن عودتَهما لم تكن موفّقة ، لان أيّاً منهما  لم يقرّ بتقصيره واكتفيا بمعانقة اسعدت الحاضرين . صَعُب عليهما الاقرار بالخطأ . كيف يرضيان التنازل لبعضهما ، والحديث الذي دار بينهما في النهاية لم يردّد غير عبارات  تقول  : انت الذي كنت على خطأ ، وكل هذا حدث بسوء تصرفك ، والثاني يأتي بنفس الردّ وبمفردات مختلفة فيقول : ولما لا تكون انت المخطئ ، الم تكن انت الذي قلت كذا وكذا ، لم يكن لك أي حقّ بالتصرف كما فعلت . لقد تمّ تسوية خلاف متجذّر في قاعة الاحتفالات بمعانقة صفّق لها الجميع ، من دون تهيئة الاجواء والاستعداد بصورة جدّية للمصالحة ، بحيث يقر كل طرف بخطإه . لم تأتِ المعانقة بصدق لانها جاءت لارضاء الناس ، كانت صُورية وظاهرية دون ان يكون لها أي رابط مع الاستعداد النفسي الحقيقي .
الاختلاف والخطأ ظاهرتان طبيعيتان ، والغضب والابتعاد والتنافر والانفصال والانقطاع ، في هذه الحالات ولمثل هذه الاسباب ، هي من ضمن حياة المجتمع وتحدث بين اقرب الناس ، غير انه مهما طال امدها لا مفرّ من العودة لاستمرار الحياة ، قد يتمّ ذلك من خلال النسيان او عند فقدان الخلاف لحدّته وطأته الاولى ، او عبر تدخل طرف ثالث ، ولكنه في كل الحالات يجب توفير جوّ داخلي لذلك . 
باعتقادي الشخصي ، اذا توصل المرء الى قناعة داخلية للاقرار بذنبه ، يغدو الامر في غاية البساطة ولا يحتاج الى سنوات دراسة أو بذل جهد خارجي أو صرف مبالغ طائلة. كل ما يحتاجه المرء في اقرار هفوته هو تَوَفّر قسطٍ من التواضع وقدر من إنكار الذات . اقول هذا لانه في مجتمعنا ، لاسيما المجتمع الشرقي ، يُعتبر الاعتذار ضعفا ، والانكسار لا يليق بالرجل الذي هو رمز الانفة والقوة والبطش .  والاعتراف بالذنب يتطلب إنكار الذات ، لان الانسان بطبيعته ميّال الى التباهي بانه محق في كل شئ ، وميّال لوضع اللوم على الغير ، ولاجل هذا نسمع كثيرا: ألم اقل لكم هكذا ؟ ماذا قلت لكم ، هل رأيتم انا كنت على حقّ في الموضوع ، انكم لا تسمعون كلامي واني لم اخطئ ابدا. وحتى اذا وجدنا انفسنا مخطئين نفتش لانفسنا عن اعذارا واسباب تكون قد صدرت من الغير. المَثل الشعبي الشائع جدا ، والذي هو على فم ابسط الناس ، لم ينطق بغير الحق ، فنسمع الناس كثيرا يختمون كلامهم به قائلين : وهل هناك من يقرّ بان لبَنَه حامض ؟!! انه مثل شعبي يعبّر عن حقيقة نعيشها جميعا وفي كل يوم ، لانه حتى من كان لَبَنُه حامضا بحموضة الليمون لا يقرّ بحموضته !!
الإقرار بذنب ارتُكِب تجاه الغير صعب لانه تراجع الى الخلف. انه صعب لانه على الانسان الاختفاء من اجل ابراز الطرف الاخر ، وهذا يعني الاعتراف باهمية الطرف الاخر وتفضيله على النفس . انه من الصعب على المرء انكار ذاته ونبذ نرجسيته امام الاخرين ، لاسيما اذا أتى هذا القرار بعد سنوات طويلة من الخلاف والابتعاد .
هناك من خلقهم الله خيّرين بطبيعتهم ، هؤلاء لايمكنهم الاستمرار في غيّهم  ،  ولمجرد حاجتهم الى الهدوء والسلام الداخليين ، يجنحون الى هذا الاقرار بسهولة بالرغم من الانكسار الذي يتطلبه اعترافهم . هؤلاء أناس متصالحون مع انفسهم ويسيرون بثقة عالية في حياتهم. انهم يرغبون في العيش بتوافق مع طبيعتهم الخيّرة  ولاينتظرون حتى تجاوبا من الطرف الاخر . انه استعداد لا يمكن تصوره لدى المصابين بداء الهذيان والعضمة  ، لان هؤلاء  لا سبيل لحملهم على الاقرار بالذنب حتى اذا ضُبطوا في الجرم المشهود ، هؤلاء حمقى وجبناء ولا يتورّعون عن  تبرير اخطائهم  .
الاعتذار يحتاج الى شجاعة ولاجله يجب على الانسان ان يتجنب الزلّة لكي لا يحتاج الى هذه الشجاعة .
حديثنا كلام عادي جدا عن الاقرار بالذنب والتقصير تجاه الاخرين ولم يغص في الاعماق والتفاصيل الاخرى ، ولم نتطرق فيه الى الجرائم والذنوب التي يتم الاقرار فيها أمام المحاكم او الاعتراف روحيا بها امام الله ، وهذه الاخيرة سهلة  لانها لا تكلف إلا من احسّ بتبكيت الضمير.
ختاما نقول :اذا اردنا ان نحس بالرقي والسموّ ونكون اصحاب مثل سامية وفاضلين ، يجب علينا الاقرار بأخطائنا . الم يقل المثل : الاعتراف بالذنب فضيلة ، وان من اعترف بذنبه لا ذنب له  ؟