ما بعد داعش، صورة للزمان وأخرى للمكان/لويس إقليمس

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يوليو 11, 2017, 09:45:02 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

ما بعد داعش، صورة للزمان وأخرى للمكان     
   


برطلي . نت / بريد الموقع

لويس إقليمس
بغداد، في 10 تموز 2017


سويعات ويُعلن النصر الناجز بتحرير ما تبقى من جيوب البغاء لدولة "الخرافة" المزعومة في الموصل، التي منها انطلق إعلان هذه الدولة المجنونة التي أرادت العودة بالإنسان والإنسانية إلى تخلّف عاشته البشرية قبل أكثر من 14 قرنًا خلت. إلاّ أنّ تغييب هذا الكاسر القاتل، الناشز عن المجتمع البشري، والمفروض على العراق والمنطقة، لن يكون بمقدوره إنهاء معاناة الشعب العراقي المغلوب على أمره، بسبب وطأة الأحمال الثقيلة التي خلّفها وأتقن صنعَها حيتانُ السياسة أيضًا،من الذين احترفوا الفسادوالنفاق وأصناف الكذب والسرقة وأجادوا التغطية على كلّ هذا وذاك بمكرٍ وصناعة مبتكرة تطوّرت وتشعبت وتغلّظت بفعل تكدّس أصناف الفساد وانتشار أدواته في كلّ مفاصل المجتمع. فهؤلاء كانوا السبب الأساس بمقدم هذا الكاسر المجنون الذي ما زال تأثيرُه ووجودُه قائمًا لغاية الساعة، طالما لا توجد استراتيجية فاعلة لقلع جذوره وقطع تمويله وردع ومحاسبة المتعاطفين معه والداعمين إياه، وقطع شأفة فكره الذي تغلغل في مجتمع العامة وانساق له أصحاب العقول المريضة. وينبغي القول إنه لَمِن المؤسف أن تسقط مجتمعات عراقية أصيلة مثل المجتمع الموصلّي، في فخاخ عصاباتالدواعش المسلحة،فيُحصى نفرٌ كثيرٌ من أبنائها ليكونوا جزءًا من فكر هذا التنظيم ومن ممارساته.
حالة الموصل، حالة خاصة، تختلف صورتُها ما بعد طرد مسلّحي داعش، لكون هذه البلدة وكرًا وملاذًا وعقرًا لدار التيار الإسلاميّ الإخوانيّ المعروف تقليديًاومحليًا بتزمّته. ومَن يعود بذاكرته إلى سنوات الماضي وما كان يُحكى عن أهلها من تعالٍ تجاه غيرهم من أهالي المحافظة ولاسيّما المختلفين عنهم في الدّين والمذهب، يعي ما تعنيه كلمات "أهل برّا وأهل جوّا" التي كانت سيّد العيش بين أهل داخل الموصل وخارجها. ولعلّ ممّا يُحكى من دواعي التذكير أيضًا، ليس إلاّ، لِمن لا يعرف التاريخ، أنّ نفرًا من سادة الموصل من التجارمن الذين كانوا يتسيّدون أسواق المدينة، عُرفوا باستخفافهم وإهانتهم للمختلفين عنهم في الدّين والعِرق. وممّا يُروى عن شهود حقيقة عننفرٍ من أهل هذه المدينة بهذا الصدد، اضطرار مَن كان يعمل من اليهود في مجال التجارة في السوق الموصلّي وضع ِ مئزرٍ أو قطعة من قماش أو ما نسمّيه "منشفة" على كتفه أثناء مروره في السوق وتعامله مع التجار، تفاديًا لاتساخ ثيابه. فقد كان اعتاد التاجر الموصلّي مسح يديه بثياب اليهودي الذي يقصد السوق، وكان يعدّه في منزلة أدنى منه، ما اضطرّ التجار اليهود لاتخاذ هذه الوسيلة من أجل الإيفاء بالغرض وعدم تعرّض ملابسهمللاتساخ. وهذا ممّا يدلّ على علّة التعالي والتكابر والاستعلاء الذي ما زال يمارسه نفرٌ من الموصلّيين إزاء الغير. بل هو جزءٌ من فكرهم وقاعدتهم في الحياة تجاه الغير. فقد لازمت هذه الظاهرة أيضًا، بعض أولئك الذين غادروا البلاد.ولكنهم ما زالوا يحنّون إلى هذه الممارسات في تعاملهم مع مواطنين من مدينتهم ومن خارجها، متصوّرين لحدّ الساعة أنهم الأرفع منزلة والأعلى موهبة والأفضل درجة على غيرهم من بني منطقتهم وبلدهم. فهل يتعلّم الموصلّيون الدرس البليغ، ويتعظوا ممّا جرى من تدميرٍ لقصّة حياتهم المتمثلة برمز بلدتهم العريقة "منارة الحدباء"، وما في المدينة من تاريخ وتراث وآثار وحضارة ورموز وضرائح للأئمة والقديسين وتدنيس بيوت اللّه التي اتخذها الرعاع من الدواعش مراكز للتعذيب والقتل والترهيب ومحاسبة مَن لم يتعوّد تطبيق شرع دولة الخرافة؟؟؟
على أية حالٍ، سقتُ هذه المعلومة كي أصل بالقارئ ليعي بأنّ ما بعد مرحلة داعش، لن يكون مفروشًا بالرياحين والأزهار والورود. فأهل الموصل ممّن تشبعوا بالفكر الإخوانيّ التكفيريّ الذي عشعش في وسطهم منذ عقود، لا يريدون مبارحته، وإن حصل ذلك فسيكون على مضض. ولعلّ ما يؤكد ما سقناه من رأي وتصوّر، قد اختصره أحد أئمة المدينة، وقد قالها صراحة وأمام الملأ" كنا قد استبشرنا خيرًا بدولة الخلافة كي نسير على نهج النبوّة". وهذا هو الفكر الذي تربّى عليه أهل هذه البلدة منذ احتلالها على ايدي رعاع داعش ومّن والاهم واستقبلهم وآزرهم، ولن يتخلّوا عن ذلك بسهولة، بالرغم من هزيمة أصحابه شرّ هزيمة، وطرد مَن استطاع الهرب في الوقت المباح والمكان المتاح. وهذا ما سوف يفسّر صعوبة العيش المشترك بين مَن عوّل على بقاء وسيادة دولة الخرافة، مع غيرهم من أبناء هذه المحافظة، هذا إن فكّر نفرٌ ممّن نزحوا وتهجّروا بالعودة فعلاً إلى الديار المهدّمة بعد إعمارها. بل إنني أعتقد بصعوبة إعادة الحياة إلى البلدة نفسها، لأسباب داخلية تخصّ بيوتات نفرٍ من حاملي هذا الفكر التكفيريّ الذي تعزّز مع فترة حكم داعش، وأخرى إتنيةتعيق عودة الحياة الطبيعيةومظاهر التعايش السابق التي كانت سائدة في فترة ما قبل إعلان الدولة الإسلامية فيها، وغيرهاحزببة وإدارية تتعلّق بتقاطع مصالح أصحاب النفوذ في المدينة ومَن قدمَ من خارجها وطمحَ بتغيير ديمغرافيتها. وإنْ كان النصر العسكري قد تحقق بسواعد وهمم الأبطال وتضحيات الشهداء من أبناء العراق الغيارى، إلاّ أنّ النصر السياسيّ الذي يتحدث عنه الكثيرون والذي طالما تمنّاه الأحرار والعقلاء والمتشبعون بمبدأ المواطنة كي يسود على غيره من الفرعيات والمصالح الذاتية الضيقة، لن يكون سهلاً. فلكي يكتمل النصر، عسكريًا وسياسيًا وفكريًا، ينبغي أن تفرض الدولة هيبتَها ويسود القانون وتنهض دولة المواطنة المؤسساتية من جديد ويُحاسب الفاسدون والمفسدون والمقصّرون بحق الشعب والوطن، من دون تمييز وتمييع ومواربة.
قصارى الحديث، الهموم تنساب على الوطن وتكثر جراح المواطن، الذي ظلّلته المشاكل الداخلية الكثيرة من كلّ جانب، وحاصرته عوادي الزمن بسبب تقاطع مصالح ساسته الفاسدين في الداخل، والطامعين فيه من دول الجوار في الخارج، والأسياد الكبار الذين يفرضون أجندتهم كما رسموها في خارطتهم، والتي بالتأكيد لن تكون في صالح البلاد والعباد، مهما تبجّحوا وتحدثوا وعقدوا من مؤتمرات وندوات ولقاءات يدّعون فيها الرغبة بإعادة البناء والتأهيل والمساعدة. فإذا كانت هذه من صلب رغباتهم الحقيقية، فلماذا سمحوا إذن بما حصل؟ ولماذا كلّ هذا الدمار في الفكر والبنيان والبنية التحتية وفي الحضارة والتراث والعلم؟ والأكثر، لماذا تشتيت العوائل، وكأننا في بابل نعيد تاريخ تبلبل الألسنة وهجرة البشر التي تشتتت فيها الأجناس وانفصل فيها الأبناء عن الآباء وهاموا في الأرض ضياعًا وحسرة وحنينًا؟
سؤالٌ صعبٌ سيبقى غامضًا، إذ لا جواب ممكن عليه، لا اليوم ولا غدًا. لماذا حصل كلّ هذا؟؟؟وجوابه الصمت المطبق، ولو لزمنٍ، حتى تشاء الأقدارُ فضحَ ما تحت القدور ونبش الأسرار ومعاقبة الفاعل. لقد تحدثت وسائلإعلامعديدةعن مسرحيةالتواطؤالغربيالمنجزةمعداعش المجنون، وشخّصتالجهاتِالداعمةللتنظيمعسكرياوعقائدياومالياولوجستيًا، سواء من عرب الجنسية أو من دول الجوار أوالغرب، كلّ وفق مصالحه. فما بالُهم اليوم، استيقظوا من الغفلة وأفاقوا للهجمة، بمحاربتهم لهذا التنظيم وقمعه وتحجيمه ورفض تيّاره المتطرّف حدّ العظم، بعد أن انتشر دوليًا كالسرطان؟ هل لكونه أنجز المهمّة وتجاوزَها لحدّ تهديد مصالح المؤسس والراعي والمموّل والداعم والمتعاطف؟ إنْ هذا التفكيرُ الساذج إلاّ فيه شيءٌ من الغباء وعدم الدراية بواقع التيارات التكفيرية ومخاطر بروز التطرّف، إلى حدوده القصوى في إقصاء الغير المختلف وقمع كلّ صوت لا يخضع لتخلّفه أو يأبى العودة إلى قرون البعران والصحراء والغزوات والغارات والسرايا والسبي والقتل وتبادل النساء وأشكال النكاح على طريقة أيام الدعوة وزمن الجاهلية.
هكذا شاء الأسياد، وهكذا قرّر الزعماء، وهكذا ارتضى الساسة في العراق، أصحاب الفساد الأكبر عالميًا الذين اكتنزوا المليارات وما زالوا لم يشبعوا، وهم ماضون في سرقةحتى قوت النازحين والمتاجرة بمأساتهم في دهاليز دول الجوار وأوربا وأمريكا، بحثًا عن راحة إضافية لأيام معدودات في فنادق الدرجة الأولى عبر مؤتمرات دولية تعقد هنا وهناك، وفي مطابخها تُطبخ سياسة البلاد والمنطقة على نارٍ هادئة.
من هنا، لن تكون فترة ما بعد داعش خيمة وارفة الظلال، لا للمواطن ولا للبلاد ولا لمستقبل الإثنين معًا. هناك مسلّمات عديدة، ينبغي التروّي في معالجتها وعدم المرور بها مرّ الكرام أو التساهل في الحكم عليها والتقليل من ضررها وتأثيرها. فليس مقبولاً أبدًا، أن تمرّر الجريمة من غير عقاب، عقاب مَن سمح بحصول هذه التهلكة، أو سكت عن نسجها أوتنفيذها أو تمويلها أو دعمها، ولم يفكر فيها بتغليب مصلحة البلاد العليا فوق مصالحه الشخصية والدينية والطائفية والمذهبية والعرقية. وفي ضوء هذا المنظور، على الشعب أن يعاقب جميع الساسة والحكام والمسؤولين الذين عاصروا الأحداث منذ السقوط الدراماتيكي في 2003، وحين قدوم داعش المجنون بفكره المتخلّف والسماح له ببسط سيطرته وفرض تطبيق شريعته المتخلّفة في عصر الذرّة والتكنلوجيا والعلم. لا مجال، إذن لغضّ الطرف عن هذا وذاك. فالكلّ مثل الكلّ مذنب، أمام القضاء الذي لم يفق بعد من غفوته ولا يريد أن يصحو من نومه الذي غطَّ فيه طويلاً ويأبى العودة لنشاطه كما أمرهم به سيّد القوانين حمورابي. فقط، عندما يفيق شعبُ الرافدين من غفوته الطويلة هو الآخر ويستعيد عافيته المنشودة، سيكون قادرًا على دحر الطغاة وإيقاع العدل والحق بحقّ مَن تسبب بتمزيق اللحمة الوطنية، وشارك في مؤامرة تراجع العلم والفكر والخدمات والتطّور والثقافة والحضارة، وساهم في ضياع الثروات والأموال التي انسلّت كالأنهار إلى جبوب رؤوس الفساد والسرّاق وحرامية الليل والنهار.
وهذا يعني، من جملة ما يعنيه، عدمأحقية القبول بمقولة "عفا الله عمّا سلف". فالله، ربّ الأكوان، إنْ كان له من العدل قسطٌ بمثقال ذرّة، فهو يأمر عبادَه بانتصاب الحق والعدل وتطبيقه بحقّ المعتدين والآثمين والفاسقين والمارقين والفاسدين واللصوص، دون تمييز.كما ليس من الحق إبقاءالعواملالتيتسببتفياجتياحالعراق وحصول المآسي في التهجير والاغتصاب والسبي وترك الأوطان وخسارة الأملاك والأكباد والبنين والبنات، معلّقة في الهواء قابلة للمساومة كأداة للمتاجرة والبازار المفتوح.
المخاوف القائمة إذن، كثيرة والتحديات القادمة أكبر، والخوف من دخول البلاد في نفق آخر للصراع الجغرافي والديمغرافي والسياسيّ يصعب معه الخروج باستراتيجية وطنية موحدة. فالمؤتمر القادم الذي ينوي السنّة عقده قريبًا لتوحيد الخطاب السنّي، لا يعني وحدة الصفّ باتجاه مطالب وطنية صافية خالصة من شوائب المصالح الفئوية والحزبية والشخصية الضيقة، بقدر ما يعني إثبات الوجود السنّي وإعادة شيء من الهيبة والسمعة والمرتبة التي فقدتها الجماعة بخروج السلطة من بين أياديها بالطريقة التي رسمها أسياد العالم وفق الأجندة المرسومة. ومن ضمن نوايا هذا الحدث الذي يُعوّل البعض عليه كثيرًا، تحجيمُ مبادرة التسوية التي عمل عليها غريمُهم، التحالف الوطني، الذي يمسك بزمام السلطة والمال والثروة وكلّ مفاصل الحياة بدعم من عدوّ السنّة الأول، إيران. فالخطوط الحمر، يشهرها الطرفان، كلّ ضدّ الطرف الآخر، أملاً بتعزيز السلطة وتوخيًا بالحصول على أكبر قدرٍ ممكن منها ومن ثروات البلاد التي تتصارع عليها القوى الثلاث: السنّة والشيعة والأكراد، تاركين باقي المكوّنات أيتامًا يقتاتون على الفتات الذي يشترط فيه تقديم آيات الخنوع والخضوع والطاعة قبل تقديمه على موائد تجار الأقليات من زعماء الدكاكين الصغيرة للأحزاب ورجالات دين مهزوزي الشخصية والغيرة والضمير وضعيفي الرؤية، من المسيحيين والإيزيديين والتركمان والكوردالفيليين والشبك والصابئة وما سواهم. وآخر مشوار المكوّن المسيحي على سبيل المثال لا الحصر، ما قدّمه المشاركون في مؤتمر بروكسل الأخير نهاية حزيران المنصرم، من ولاء الطاعة والخنوع للأجندة المرسومة لمستقبل سهل نينوى بالقبول بضياع أرض الآباء والأجداد والدخول في مأزق الاستفتاء الذي يعتزم الجانب الكردي إجراءه بعد فرض شمول المنطقة به، رغمًا عن أنف الحكومة العراقية.
فرصتنا، وطنًا وشعبًا، استنهاضُ الهمم والإفاقة من النوم الطويل من خلال السهر الصحيح والنهج الواضح والحرص على مصالح البلاد والعباد، وإعادة عجلة البناء والإعمار على أشدّها، وطرد الفاسدين والمفسدين من الصفوف من دون مجاملة لأحد على حساب الحق العام ومصلحة الوطن العليا ومواطني البلد المثخنين بالجراح. أمّا التغاضي عن حقّ المواطن البسيط والضحك على ذقنه المثخن بالجراح، وتجاهل مستقبل البلد ووحدة أرضه وسمائه ومياهه، فهي جريمة العصر والتاريخ لن يرحم فاعليها ومنفذيها والمتسامحين بها.
ولعلّ من جملة ما ينبغي القيام به إلى جانب تحقيق أدوات النصر المذكورة في أعلاه، الترويج لتغيير الفكر المتطرّف السائد لغاية الساعة في مفاصل عديدة من الحياة العراقية، ولاسيّما التربوية والتعليمية منها، ما يستوجب اليوم مراجعة شاملةللمناهج الدراسية وتغيير الكثير منها، إضافة إلى زرع عوامل الألفة وأدوات التعايش السلمي وسط كلّ اسرة وكلّ عائلة وكلّ مجتمع وفي ما بين العشائر والقبائل التي ينبغي لها ان يكون لها دورٌ رياديّ في تفعيل كلّ هذه الأدوات والممارسات. فهذه الأخيرة، شئنا أم أبينا، هي اليوم أحد مفاتيح التطور الفكري والتغيير المجتمعي في الوقت الراهن، شريطة عدم تسيّدها وفرضها أجندة قبائلية وعشائرية تقف بموازاة الدولة ومؤسساتها. فدورها اجتماعيّ بحت وليس فرض سلطتها لتعلو على قانون الدولة ودولة القانون ومؤسساتها. فإنْ نحن بلغنا هذه الغاية وراجعنا الذات ووساوسَها واستبعدنا من صفوفنا رؤوس الفساد وسرّاق الشعب والمال العام، صلحَ أمرُنا ووقفنا على سكّة الإصلاح والسلم الأهلي، فنكون حقًا قد استعدنا جزءًا من حضارة وادي الرافدين العريقة وشيئًا من أصالة الشعب الذي سنّ أول القوانين للبشرية وجلس على عرش العدل وطبّق القانون واحترم المرأة وعضد الشباب وأنمى روح الوطن والوطنية في صفوف الأطفال منذ نشأة أظافرهم لحين بلوغهم.
على صعيدٍ آخر،فقد اتفقت آراء العقلاء والحكماء والمصلحين من مثقفين وأكاديميين وأصحاب أفكار نيّرة من رجالات دين وسياسة، على ضرورة "اعتماد الخطاب المعتدل والوسطي ونبذ الخطاب الديني التحريضي، بالخروج من الادبيات القديمة العقيمة"، التي نأمل أن تتطورقراءة ما ورد فيها من نصوص ومن أحاديث ومن تفاسير كي تتجانس وتتأيَّنَ مع العصر ووفقًا لتطوّر الزمن،فيصبح الكثير ممّا شاب الأصل والأساس في خبر كان ومن بقايا التراث الذي عفا عليه الزمن، بفضل تطوّر الإنسان وآلته وفكره ومنهجه الذي لا يقبل التراجع إلى الوراء لأنه لا يليق به ذلك. فلكلّ عصرٍ مفاتيحُه، ولكلّ زمن تفاسيرُه ولكل حادثة تأويلُها بحسب الزمان والمكان والإنسان. إنّما الأمم تتقدّم وتتطوّر، وكذا الفكر البشري يتماشى مع الزمن، ولا مجال للعودة بالإنسان إلى الخلف والتخلّف والجهل والجاهلية. هذا حال الزمن والبلدان إن نشدت التطور وعشقت الحياة واحترمت الإرادة وطوّرت نصف المجتمع الثاني المتمثل بالمرأة وقبلت بالحرية الفكرية والشخصية والدينية لكلّ إنسان!
وهنا لابدّ من الإشارة إلى تحدٍّ قادم أكثر زلزالاً ولا يقلّ خطورة عمّا اقترفه داعش من تخريب وتدمير وتراجع في مستقبل الوطن والمواطن. إذْ، لا يمكن بقاء الصراع قائمًا بينالحكومةالاتحاديةوحكومةالإقليم التي تجاوزت على هيبة الدولة واستقطعت ما أرادته وأخذت ما فرضته أمام بصيرة وبصر الحكومة وسياسيّيها. فضيقُ الأفق القائم بين الطرفين، أيًا كان، وطنيًا أم فئويًا أو عرقيًا قد يجرّ البلاد والعباد إلى صراعٍ متأزّم يطولَ أمدُه. وعلى الطرفين حسمُ أمرهما ورسم مستقبل شعوبهما والانتهاء من "حتوتة" التهديد بالاستقلال والاستفتاء، طالما أصرّ الطرف الكردي بحزبه الحاكم على الانفصال، تجاوزًا لمشاكله الداخلية وتجنّبًا لفقد السلطة والنفوذ والثروة. ولكن شريطة ألاّ يحصل هذا على حساب المصلحة العليا للوطن والتجاوز على جزءٍ من أراضي البلاد الاتحادية التي أُدخلت قسرًا كمناطق متنازع عليها زورًا وبهتانًا، وهي بعيدة كلّ البعد عن شيءٍ يجيز لطلب إلحاقها بالدولة الكردية العتيدة، لا عرقًا ولا لغةً ولا ثقافةً، إنّما تقف وراءها رغبات توسعية على حساب الدولة الاتحادية وإغضابًا للجارة إيران المتغلغلة في مفاصل الدولة العراقية التي تتحكم بها كما تشاء.

بالتالي، نحن اليوم نقف جميعًا على مرحلة حرجة، بعد زوال أحجيةداعشوجبروته الجنونيّ وتفنّن أدواته في قتل الإنسان وهدر الدماء من دون وجه حقّ، إلاّ لكون الأخير لا يخضع لشريعة القتل والعبادة والنكاح التي صاغها التنظيم المجنون المتخلّف وأرادها شريعة للبلدان والعباد في كل الأرض التي تبرّأت من أعماله الدنيئة. ردّنا على ما قام به من تدنيس للنفس الإنسانية ومن جرائم سبي واغتصاب وقتل وتهجير وتجارة جنس، سيكون بترسيخالتلاحموالتضامنوالمشاركة في إعادة تأهيل النفوس والعقول المريضة،وإشاعةثقافةالانفتاح والحواروبناء أسسالسلام من جديد، وبروح متجدّدة تختلف عن سابقتها، وذلك باشتراك جميع مكّونات الشعب العراقي، من مسلمين ومسيحيينوإيزيديينوصابئةمندائيين وبهائيين وشبك وكاكائيين وغيرهم، كردًا وعربًا وسريانيين وأرمنًا،منأجلخلقواقعجديدأفضلللجميعمن دون تمييز في الدين أو المذهب أو العرق.
وإن نحن لم ننجح في هذه المهمة المصيرية، فسيكون هناك موصِل أخرى، وداعش آخر، ربما من نوع جديد ومن طراز آخر. وسوف يتكرّر صمتُ الفاسدين والمفسدين في الأرض، وفقًا لمصالحهم المتجددة في كلّ فترة وحقبة وزمان ومكان، ما لم يتخلّى الجميع عن طريق الظلمة التي وقفوا أسرى لها، وبسببها أجادوا فعل الظُلم والقهر والقتل والاستغلال، وعبّدوا طرقَها لتفي بما ينسجم مع مصالحهم وأهوائهم وغرائزهم. خوفُنا القادم، بعد فراغ البلاد من الأقليات التي من الصعب عودة أبنائها إلى مناطقهم المحررة لأسباب كثيرة منطقية وواقعية، أن يصير الاقتتال بين الأكثريات ليجد الساسة والقيّمون على البلاد شرائح ضعيفة غير هذه كي تصبّ جمرات غضبها عليها وتعاود تطبيق ثقافة الموت والغزو والسبي بحقها.
من هنا، يكون التغيير الفعليّ في نظام إدارة العراق قد أصبح من الضرورات القصوى التي لا تقبل المساومة. وعلى الشعب أن ينتفض لنصرة الإصلاح والحث بالعمل على عودة الحياة المدنية للبلاد. فهي الكفيلة باستبعاد أصحاب الأجندات الدينية والطائفية والمذهبية من المتاجرين بهذه جميعًا والذين يعيشون في جلبابها مراءاةً ونفاقًا وكذبًا ورياءً. والله وحده فاصح القلوب والكلى.