مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي / 9

بدء بواسطة بهنام شابا شمني, ديسمبر 22, 2013, 09:55:26 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

بهنام شابا شمني

مقتطفات من ذكريات البروفسور باسيل عكولة البرطلي عن برطلي

والمنشورة في كتابه ( يوميات غجري لا يُجيد الرقص )*


* ( يوميات غجري لا يجيد الرقص ) كتاب للبروفسور باسيل عكولة البرطلي طبعة بيروت 1972 جميع احداثه تعود لما قبل سنة 1950 .
سنقوم بنشر وعلى شكل حلقات ما جاء في كتابه هذا عن ذكرياته التي تتحدث عن برطلي  .



الحلقة التاسعة



استيقظ الماضي الان قويا كمريض انهى نقاهته  . لم افكر ان بامكاني ان انفخ فيه روحا فينبعث. فانا اليوم اشعر بلذة لا تعادلها لذة وبميل لا يوصف الى الاستمرار في عملية الانقاذ هذه . فماضي اثمن لدي من آثار الكرنك . وعلي ، مهما كلفني الامر ، ان انشله من الغرق . لا بد من ان اضع بين يدي القاريء الخطوط الرئيسية لماضي . فالاحداث مترابطة كالمعادلات الجبرية . هل يمكن حل معادلة ما لم نجد المجهول ؟ فالماضي بالنسبة الى الحاضر والمستقبل ، كالسين في المعادلة ، يمكن في اكتشافها ايجاد التفسير الصحيح . انني اشعر بذاتي الان ، وانا اكتب الاحداث القديمة المتعلقة بفترات متقطعة من طفولتي وشبابي ، كانني تلقيت دفعة قوية على قفاي وانا على قمة منحدر ، فاندفعت كسيارة فقدت فراملها نحو الاعماق ، وهي غير قادرة على التوقف الا في اسفل الهاوية . اذا ، سانطلق بلذة ، متناسيا بعض الوقت حاضري ، باحثا عن دقائق احداث السنوات العابرة . لقد تاكدت الان من قيمة الذخائر ، صغيرة كانت ام كبيرة .
صورة العصا تعاودني من جديد . فكيف اتحدث عن المدرسة الصيفية دون ان اتحدث عنها ؟ كان اهلنا يبعثون بنا اليها ـ تخلصا منا ـ في تموز وآب من كل سنة لنتعلم الصلوات واللغة السريانية . كان الاستاذ شماسا يختار بالمزاد العلني في ساحة الكنيسة . فيعين من يقدم ارخص عرض دون النظر الى مواهبه . لم تكن الموهبة ضرورية كاتقان فن استعمال العصا ، لان هذه كانت تلخص التربية باسرها . كان على كل منا ان يدفع الرسم شعيرا او حنطة او عدسا لقاء الدروس التي كان يتلقاها في رواق الكنيسة القديمة ، وقد جلس الاستاذ امامنا وعصاه في حضنه وكتاب القراءة والصلاة امامه . فنصطف على الارض قبالته ، اربعة اربعة ، ونردد وراءه كالببغاوات بصوت عال الكلمات البربرية ونحن لا نفهم معناها . كان في بعض الاحيان يوزعنا الى صفوف ، يسلم كل واحد منها الى طالب اكبر منا سنا بعد ان يناوله عصا ، ثم ينصرف الى قضاء اعماله . كانت مدرسة من طراز غريب . جاهل يعلم جهالا بطريقة بدائية . يقرأ فنقرأ وراءه ، كل في صفه ومادته ، فتتعالى الاصوات وتختلط فيما بينها ، فيخيل اليك انك في سوق الصفارين . كان الطلاب ـ المعلمون يستعملون العصا في غباء فتقع على رؤوس البعض ووجوههم فتتورم او يسيل منها الدم . فينتظرون قدوم الاستاذ لتقديم شكاويهم ، فينالون مزيدا من العصي على اقفيتهم . . لذا قامت عداوة ضارية بين التلامذة وعصا الاستاذ . وتآمر الكبار مرة فسرقوها ورموها في بئر الكنيسة . كانت عصا حمراء من الخشب النادر في منطقتنا اهداها اياه صديق جبلي يتباهى بها امام الجميع وكانها صولجان .. لم ندرس شيئا ذلك النهار ، لان الاستاذ قضاه في التحقيق والاستنطاق حتى وصل دوري فافشيت ـ لسوء حظي ـ المؤامرة . فما كان منه الا ان ارسل في طلب عصا من خشب السنديان وهوى بها على ظهور المتآمرين وافخاذهم واقدامهم . لكنهم انتقموا مني في اليوم التالي بان رموني ككيس من التبن من اعلى درج الكنيسة حتى الارض ، فتكسرت ذراعي . ولا يزال الفاعلون حتى اليوم يتذكرون العملية الانتقامية ويضحكون .
لم تكن العصا رغم حجمها ولونها قادرة على فرض النظام . ولذا كثيرا ما لجأ الاستاذ الى سجن بعض التلاميذ في غرفة طويلة مظلمة لا تدخلها الشمس وتفوح منها رائحة الزيت والشمع ، سميت ( غرفة الفئران ) . اتذكر يوم ادخل تاليها ـ بعد ان اشبعني الاستاذ ضربا بعصاه ـ مع جماعة من رفاقي واغلق الباب وراءنا . كانت جريمتنا هربا من الكنيسة قبل ختام الصلاة . كان الجو في الداخل مقرفا خانقا ثقيلا ولا منفذ للهواء في الغرفة غير مربع صغير محفور في اعلى الباب .. فكاد يغمى على البعض لولا همتي ، اذا اسرعت الى كسر المفتاح الخشبي واللجوء الى الهرب . كانت كل ابواب الكنيسة والساحة مغلقة ، وصورة المقبرة والهيكل المظلم مرعبة جدا ، فصعدنا الى السطح وقفزنا من اعلى الحائط الى الشارع دون ان يرانا احد غير اللقالق المعششة فوق برج الجرس .
بعض الاحداث الماضية تتحرك في فضاء مظلم فلا اراها رغم التطلع العميق اليها . فعملية القبض عليها او مشاهدتها فقط تبدو مستحيلة . ما العمل ؟ هناك قضايا لا يسع الانسان امامها غير الاستسلام . حاولت عبثا اضاءتها لاتبين خطوطها فهي لبعدها لا يمكن ان يصل اليها ضياء مهما كان قويا . ساعتبرها وكانها غير موجودة ما دمت عاجزا عن نقلها من الغياب الى الحضور والحركة ا والى مجال التاثير على شريط فوتوغرافي مهما كانت حساسيته . انها ذبذبات فقدت البعض قدرتها . لا اريد بهذا ان انفي اهميتها ، لان هذه لا تتوقف على صغر الحادث او كبره بل على فعاليته . ان مقتل ولي عهد النمسا كان سببا من اسباب الحرب العالمية الاولى ، بينما احداث جنوب شرقي اسيا الدموية لم تجعل الصراع عالميا .
ماذا اذكر عن مدرسة القرية ؟ اذكر ا ناول كلمة عربية تعلمتها كانت زيز . تعلمتها غيبا لكثرة ما رددناها بصورة جماعية . انني ناقم الان على استاذي لان اول كلمة علمني اياها كانت اسما لحشرة . عرفت ذلك من صورتها . كان الاستاذ طويلا ، اسمر ، غامق اللون مائلا الى السواد ، يلبس الزي الاوربي مع ( السدارة ) ـ بعكس شماس الضيعة الذي كان يلبس الزي القروي مثل والدي ـ ويدعوه اهل القرية ( الافندي ) . كان في نظر القرويين المساكين ـ وهم اميون ـ مثالا للعالم الذي يعرف كل شيء . اظن انني ذهبت بعيدا في استنتاجي لان الناس كانوا منقسمين في تقدير من هو الاعلم : معلمي ( موسى افندي ) ام كاهن الضيعة . فالصراع بين اولية الارض او السماء نشا مع الانسان ولا يزال مستمرا بكل ضراوة ولو تغيرت الاساليب . كان والدي يناقش الكاهن ويعلن امامنا عدم اقتناعه بالكثير من معلوماته ، بينما كان يصغي الي وانا اقرا الكلمات الاولى بالعربية وينظر الى اصابعي كيف ارسم ارقام الحساب . وبعد سنوات صرت مرجعا له يطرح علي الاسئلة ويصدق ما اقوله في التاريخ والجغرافية ويضعني في منزلة تفوق كثيرا منزلة الكاهن .
كانت المدرسة انذاك لا تضم غير الصفوف الابتدائية وعدد معلميها لا يتجاوز السنة ، بالاضافة الى المدير . كان بعضهم من المدينة القريبة وبعضهم ـ ثلاثة او اربعة بالاكثر ـ من ابناء القرية . وهم بالاضافة الى اثنين او ثلاثة عينوا من قرى اخرى ، كانوا من المثقفين والعلماء . يمرون في الازقة والساحات والسوق ، فيقوم الجالسون ويحيونهم اجلالا : ( اهلا وسهلا افندي ) ، ويحتلون المقعد الاول في الكنيسة اذا حضروا ـ لانهم نادرا ما كانوا يحضرون ـ ويختالون بزيهم الاوربي كانهم طيور غريبة تثير الفضول . وكان الشيء الذي يثير ضحكي ( السدارة ) السوداء التي كانوا يضعونها مائلة على رؤوسهم من فرط الغرور . كانوا يعتبرون انفسهم من طبقة ارفع من ابناء قريتهم ، تزوجوا بنات الاغنياء وتركوا عائلاتهم واخذوا يعيشون ببذخ يدفع الناس الى احترامهم . ونادرا ما رأيت كتابا في يد احدهم خارج فترة الدروس . واذا ما حضروا عرسا او مأتما اعدوا لجلوسهم فراشا مريحا ووسادة . كانوا بالنسبة الينا ، طبقيا ، من الاسياد في مرحلة البؤس التي كنا نعيشها .
كانت المدرسة تتحول عندي الى مشكلة في فصل الربيع او في الاعياد والمواسم . كنت افضل على دروس القراءة السخيفة ونظام الثكنات المتبع فيها ان اطوف في الحقول والخرائب المزهرة المحيطة بالقرية ، اجمع من هنا وهناك ، زهرات معدودات من فصائل مختلفة لندرتها . فتقودني رحلتي الاستكشافية الى مسافة تبعد كيلومترات حيث اجد نفسي ، وقد فقدت كل اثر لطريقي ، اهيم على وجهي حتى التقي براع او بفلاح عائد من عمله يحملني على البغل وراءه ، وانا خائر القوى من الجوع والمشي . فاشرع وانا في الطريق ، في اختلاق الاعذار لوالدي لتبرير تأخري ، ولا سيما لمدير المدرسة في اليوم التالي . وكنت اتوصل دائما الى ذلك فتمر الحادثة دون ان يشعر والدي بهربي من المدرسة ا وان يكتشف المدير كذبتي . وكانت الرغبة في الهرب من المدرسة تزداد عنفا في موسم عيد البربارة ، لان هذا العيد كان يثير في وفي رفاقي اهتماما خاصا لطابعه الشعبي . فمزار القديسة بربارة الذي يقوم على سفح تلة في قرية تبعد نحو اربعة كيلومترات كان يتحول في يوم العيد الى مهرجان يجتمع فيه شباب القرى المجاورة بثيابهم الفلكلورية الملونة . وكانت المساحات المحيطة بالمزار تغص بالزائرين الذين سرعان ما ينسون الغاية الدينية لحجهم ، فتنصرف الصبايا والنساء الى شراء البطم والحبة الخضراء والحمص المقلي وبذر القرع ، فيملأون بها جيوبهم ويقضمنها كالارانب من الصباح الى المساء . وكان الصبيان والاطفال يحيطون بباعة الحلاوة بنوعيها : حلاوة السكر وحلاوة الطحينة اللذين جلبوها من المدينة للمناسبة . كان البائع وهو يرقص ويصفق ينادي باعلى صوته ( يا حلاوة . فلس فلس بيضة بيضة يا حلاوة ) ثم يواصل بلهجته : ( فرح ولادك بالفلس يا حلاوة . فلس فلس بيضة بيضة يا حلاوة ) . كنا نشتري قليلا منها يضعه البائع في ورقة عتيقة ثم ناخذ بالتهامه ، حتى اذا ما انتهينا عمدنا الى المقامرة . كان الكبار يجتمعون على العشب في حلقات دائرية في الارض المحيطة بالمزار او على سفح التلة وينصرفون الى الشرب . كانوا يشربون العرق بكثرة حتى يسكروا ، فترتفع الشتائم من كل ناحية ويتحول القروي المسالم الى عنترة ، فيستل سيف لسانه وينهال به يمينا وشمالا . فتثور الكرامات المصطنعة وتبدأ المعارك بين المتخاصمين الذين يعمدون الى العصي والحجارة فيدخل بينهم المصالحون الذين يصبحون ضحايا الطرفين . وكنا نتفرج على مشاهد السكر هذه ، فننسى الصلوات وباعة الحلاوة فترة ونسمع شتائم لم نكن نسمعها في غير هذه المناسبات الاحتفالية . ونادرا ما كانت تنتهي هذه المعارك بالجرح او القتل . فانا لا اتذكر حادثة قتل واحدة ، بل كانت تتحول بسرعة بعد المصالحة الى حفلات هزل ومساخر فيستولي على الجميع نوع من الهستيريا ، فيرقصون ويغنون ويهرجون حتى اذا تعبوا نام كل في مكانه كقطيع من البقر .
قلت كان الموسم مناسبة لنا للمقامرة . لكن اية مقامرة ؟ لم يكن احدنا يملك اكثر من خمسة او عشرة فلوس . وكانت لعبة القمار الوحيدة التي اعرفها ـ لبلاهتها ـ هي اليانصيب . لعبة اليانصيب التي اتحدث عنها لا علاقة لها باليانصيب الحالي ، بل كانت عبارة عن طبق من الخشب مقسم الى مثلثات يحتوي كل منها على غرض ما : علبة سكاير او منديل او ... وفي وسط الطبق تنتصب خشبة مثبتة بقاعدته تنتهي بمسمار في وسطها ينغرز في ثقب خشبة او حديدة رقيقة اوسع من قطر المسمار يتدلى في طرفها خيط علقت في اخره خرزة . كنت اضع فلسا على المثلث الذي يستهويني فيدير صاحب اللعبة الخشبة او الحديدة ، فاذا ما استقرت الخرزة عموديا فوقه ربحت والا اخذ الفلس بسرعة ودسه بجيبه . كنت اضيع ثروتي فلسا فلسا ، فيما انا افكر في الثراء السريع حتى اخسر كل مالي ، فاطوف ذليلا اطلب قرضا فلا يقرضني احد . واتجول بين باعة الحلاوة والبذور ، فاتطلع اليها بمرارة تزداد كلما رايت رفيقا لي يشتري او ياكل . واتخيل الى اليوم بائع الحلاوة ذاته يطوف ازقة قريتنا في بعض المناسبات ، وعلى راسه طبق كبير من الالمنيوم وفي فمه سيكارة وهو يصيح ردته الشهيرة . فاقصد والدتي واتوسل اليها ، دون جدوى ، ان تعطيني فلسا او بيضة . واجري وراءه حزينا ، فيتبدد حزني عندما اكتشف ان الاكثرية من رفاقي كانوا في وضع مشابه لوضعي . غير ان الرغبة في الحلاوة كانت تشتد كلما علا نداء البائع وتكاثر عدد المشترين . فامسك طرف ثوبي بفمي واركض حافيا على التراب المحترق في الصيف ، افتش في المقهى او السوق او تحت حائط الكنيسة عن والدي ، حتى اذا وجدته جلست الى جانبه كقط اليف واخذت اتودد اليه . فيسالني مرارا عن حاجتي ، فلا ارد حتى يقرا بنفسه في عيني رغبتي . فيمد يده الى كيسه يخرج منه قطعة من اربعة فلوس يعطيني اياها قائلا : ( قم . هرول ) .