الهذيان ظاهرة في ازدياد/ شمعون كوسا

بدء بواسطة matoka, يوليو 17, 2013, 02:25:28 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

matoka

الهذيان ظاهرة في ازدياد







برطلي . نت / بريد الموقع


كان لي فراغ احببت ان اشغله ، وكما يُقال اردت ان اقتل الوقت ، فانطلقت في رحلة صيدِ قصيرة ، نشاط كنت امارسه ، ذلك اليوم ، لاول مرة في حياتي . تناولت بندقية الصيد التي استعرتها من احد الاصدقاء وتوجهت الى اقرب غابة . بعد الدخول في الغابة والسير لمدة ربع ساعة ، ابصرت غزالة رشيقة تسير ببطئ وهدوء . تهيأت لاطلاق النار عليها ولكني لم افعل لاني رأيتها تتقدم نحوي بخطى ثابتة . توقفتُ منذهلا وخفظت فوهة السلاح  عندما دنت مني  واثقة مطمئنة ، وكأنها هي التي ستصطادني .

توقّفتْ طريدتي تنظر اليّ ،  ومن خلال صمتها تخيلتها للحظة تعاتبني قائلة : ما لك وهذه المهنة ، هل قررت ان ان تتحول الى قاتل ؟ هل جئت هنا لقتل الوقت ام لقتلي انا ؟ كيف يطاوعك قلبك ان تمحوَني وتضع حدّا لحياة اعيشها بسعادة ، أصحيح ان منظري يزعجك ؟ الا تكفيك اللحوم التي توفرها لك الابقار والخرفان وبقية المواشي ؟ ألستم انتم الذين في أدبيّاتكم تتغنّون بالغزلان وتغازلونها ؟ ما بال انانيتكم بلغت حدّا لا ترحم حتى  الجمال ؟ إذهبْ الى الناس ، وترصّد ظواهر الحياة التي يحلو لك القيام بتحليلها ، ممتدحاً  أو ذامّاً.

أدخلني الكلامُ الصامت هذا في حالة ارتباك شديد أفقدني حُججي في الاعتذار ، فعدت على أعقابيّ صياداً شبه مُهان . صرفتُ النظر عن التوجه نحو حديقة قريبة  كنت قد نويت الدخول اليها لمطاردة الفراشات ، تقنية كان قد أطلعني عليها والدي .  قلت لنفسي باني سالقى حتما نفس اللوم من فراشة جميلة قد تواجهني بما يلي : لماذا تهمّ في أسري ، ألا تراني أجملَ وأنا اتحرك ، منتقلةً بين الازهار والورود والشجيرات ؟ الا ترى انه بوسعك القدوم كل يوم لتكحّل عينيك بمنظرٍ، سيوفر السعادة لك ولغيرك ؟

غادرتُ الغابة نحو المدينة ، وبعد نصف ساعة سيرٍ على الاقدام وجدت نفسي وسط حشد من الناس ، فبحثت عن موضع استند اليه.  رايت مقعدا قريبا تشغله امرأة في متوسط العمر، فجلست بجانبها . لم تحسّ المرأة بمقدمي لانها كانت غارقة في الكلام . لم أعرْ لها اهتماما كبيرا في اول الامر  معتقدا بانها تخاطب شخصا غير بعيد عنها. كان الكلام عتابا  واستفهاما واستغرابا وغضبا يعقبه صمت قصير . عندما لم أرَ أحداً يشاركها الحديث ، دفعني فضولي لمعرفة ما كانت تقول ، غير اني بمجرد التفاتي اليها ،  جعلتُها تقطع خيط افكارها وتعود من طريق هذيانها الطويل ، وقالت لي بكثير من الخجل : لا تؤاخذني يا سيد ، إن وضعي صعب ، لقد افضت بي ظروفي الى هذه الحالة التي تراها .  تمكنَ منّي الهذيان منذ حوالي سنتين ولم يعد بمقدوري السيطرة على نفسي. انا اكلم نفسي ويعتقد من يراني بأني مختلة العقل . طمأنتُها قائلا باني اتفهم وضعها  وتركت المكان .

بعد خطوات في بقعة اخرى من نفس المكان العام ، رأيت نفسي سائرا خلف شخص يضحك ويتحدث دون توقف . من ضمن ما كان يقوله : وأخيرا نلتُ من هذا الثعلب الحيال ، كم كان بودّي ان يرى اصدقائي هذا المشهد . كان يفرك يديه زهوا  بالنصر الذي حققه ،  ويعيد سرد الاحداث بنفس الفخر والاعتزاز.

وعلى بعد خمسين مترا من هناك ، رأيت شخصا آخر يتمتم كلمات غير مفهومة ، خلته يصلي ، ولكني  عندما سلمت عليه ، تلقيت سلاما ترافقه بسمة خفيفة وقال لي : لا تستغرب يا اخي ، لقد اصابتني هذه الحال منذ فترة قصيرة ، انها تمتمات ارددها عندما اكون لوحدي ، بحيث ان صلواتي ايضا تنقلب احيانا الى مثل هذا الهذيان ،  ولكن تأكد باني لست مجنونا.

وفي اماكن اخرى ، صادفت اشخاصا في مثل هذه الحالات، فمنهم من كان في قمة السعادة،  ومنهم من كان يبكي ، ومنهم من كان يحصي مستخدما يديه ، وآخرون يكتفون بكلام متقطع .

وآخر شخص سمعته يكلم نفسه كان يقول : ارجو ان تعلمني عن موضوع يوم امس ، وتوقف للحظة ثم اضاف : كلا ، انا لا اتحدث عن صاحبنا ولكن عن الرجل الغريب الذي التقيناه يوم امس . تقدمتُ لأرى وضع الاخ الجديد ، فرأيته يهاتف صديقه دون جهاز منظور او اسلاك بارزة . قلت في نفسي : ألم تكن تكفينا حالات الهذيان والتمتمات والتعب العقلي والانفصام ، لكي يأتينا بدوره الهاتف النقال الخفي فيجعلنا نعتبر مستعمليه اناسا غير طبيعيين ، مصابين بالهلوسة او الهذيان ، لاسيما اذا ابصرناهم من بعيد .

لقد ازدادت الهموم ، وانّ اجترارها بصورة متواصلة  يجعل بعضَ اصحابها يصوغون سيناريوهات داخل رأسهم ،  فينتهون باخراج  نقاشات ومعارك ، تخرج الى العلن لدى بعضهم ، لا سيما بين من كانوا ذوي اعصاب ضعيفة . يخرج الكلام دون وعيهم فيسمعه المحيطون بهم .  قرأت عن امرأة كانت تضع سينايوهات حديثها وهي تقود السيارة  او تعمل في المطبخ او تقوم بالخياطة . تقول بانها كانت تلقى راحتها في هذيانها . غير انها في النهاية اصبحت تخشى سخرية الناس ، بعدما صارت في حياتها العادية تعيد كل جملة ثلاث مرات ، وهذيانُها هذا كان يثير غضبها .

الثرثرة التي لا تضع لنفسها حدّاً ، قد تنقلب احيانا الى هذيان ، لان الثرثار ، إن لم يعثر على شخص يكلمه ، يتوجه الى نفسه ليتكلم وكأنه يخاطب شخصا آخر . معاذ الله ان اكون قاصدا بهذا الكلام النساء ، لان قسما منهن يُتَّهَمن احيانا ، لربما زورا ، اذا تواجدن مجتمعاتٍ داخل مواقع معينة ، كالحمامات مثلا !!

إن من أصابه الهذيان واصبح يردّد الكلام ويعيده ، يصعب عليه التخلص من عادته،  ما لَم يعثر على صديق يرافقه لفترة طويلة بهدف اشغاله  واغلاق المجال امام تفكيره المتواصل . وبهذه الطريقة ،  يقول البعض ، بانهم يتمكنون من قتل مخاطِبهم الوهمي في ذهننهم .

واذا عرّجتُ قليلا ، بصورة غير مباشرة ، على رجال الدين ، اقول : ان بعض رجال الدين في مواعظهم يكادون يلامسون حدود ما يشبه الهذيان عندما يردّد قسم منهم  جُمَلا وعباراتٍ بمقاطع غير مفهومة تشبه كثيرا الخطاب السياسي الذي لا همّ له غير ترديد عبارات رنانة بمقاطع معينة . كلام يشبه في بعض جوانبه التكرار الفارغ الممل ، كلام يحتاج فيه السامعون الى روابط تساعد المبتدأ في ايجاد خبره  والصفة موصوفها والاحرف والادوات الاستقرار في اماكنها المناسبة . انا ابصر من هنا ، ومن مسافات بعيدة جدا وجه بعض هؤلاء الواعظين هنا وهناك وفي اماكن اخرى . هؤلاء باعتقادي لا يحتاجون لِغير قناعة داخلية تجنّبهم كلاماً فارغاً طنانا يتكرر دون معنى . يكتسب كلامُهم حياةً ويستعيد معناه ، اذا ارتوى هؤلاء الاخوة  واقتاتوا من طعام الحياة ومائها التي ستملأهم غيرةً توصل كلامهم الى القلب . انها مجرد ملاحظة الصقتها بالموضوع بهدف بنّاء.

في طريق عودتي الى البيت ، فتحت الجهاز لانصت الى قداس أقامه في حينه المرحومان افرام بدى ويوحنا جولاغ . صوتان جميلان جدا يطربان نفسي ، وباعتقادي يطربان حتى الملائكة . كنت احسّ وكأني في السماء السابعة .
هل هناك حقا سماء سابعة ، أم انا ايضا بدوري بدأت بالهذيان لاني قفزت كما يقال ،  من الديك الى الحمار . ابتدأت في الصيد ، ومن بعده ذهبت الى كشف اوضاع المكلمين نفسهم ، وعرّجت على بيت رجال الدين ، وسمعت القداس الملائكي ، واخيرا وجدت نفسي في سماء سابعة . ألستُ انا ايضا أهذي تماشيا مع موضوع المقال ؟






Matty AL Mache