قصة قصيرة / الـــــــوداع . . الاخيـــــــــــــر / مال الله فرج

بدء بواسطة برطلي دوت نت, يونيو 24, 2015, 12:54:01 مسائاً

« قبل - بعد »

0 الأعضاء و 1 زائر يشاهدون هذا الموضوع.

برطلي دوت نت

قصـــــة قصيـــرة
....................
الـــــــوداع . . . . . الاخيـــــــــــــر


برطلي . نت / بريد الموقع

مال اللــه فــــرج
Malalah_faraj@yahoo.com
  .....................................
نزل الخبر عليها كالصاعقة وأصابها بالصدمة وما عادت تستطيع استيعاب الموقف والرد عليه او خوض مناقشة ولو سريعة حوله ،ففجأة بعد تناول وجبة الغداء وفيما هي تعد له شاي الظهيرة كالمعتاد في ذلك اليوم الحزين ، اعلمها ابنها  الصغير ، الذي كان كل ما تبقى لها ، برغبته في السفر ليضعها بين خيارين ، اما ان ترافقه الآن او  بعد ان يستقر وتتحسن ظروفه.
منذ سنتين وهي تعيش وحيدة معه بعد وفاة زوجها بازمة قلبية لم تمهله ورحيل  ابنتيها الى الخارج اثر زواجهما ، وبذلك فقد كان وحيدها ذاك كل ما تبقى لها ، وكل حياتها.
حاولت ان تثنيه لكنه كان مصرا ، ولما الح عليها أن ترافقه ،سألته معاتبة (ومن سيبقى الى جانب والدك ، هل تريدني ان اتركه وحده ؟؟؟) فقد تعودت منذ وفاته على زيارة قبره يوم الاحد من كل اسبوع بعد ان تفرغ من صلاتها في الكنيسة القريبة ، تحمل شمعتها وتذهب اليه توقدها امام قبره وتصلي له راكعة ، ومن ثم تروي له تفاصيل اسبوعها وكانه يسمعها ، وربما كانت تتخيل ذلك  من شدة حبها له ، ثم تقبل قبره وتنثر دموعها هناك قبل ان تغادره ، عادة اسبوعية التزمت بها ولم تتخل عنها حتى في اسوأ الظروف.
بعد مناقشات وجدالات وبكاء ونشيج وعتاب مر ، حلت ليلة السفر ، كانت منذ الصباح الباكر وحتى منتصف الليل ضائعة لا تدري ماذا تفعل ، مرة تنصحه واخرى تعيد ترتيب حاجياته واخرى تسأله من سيعد لك وجبات الطعام والشاي ؟ واخرى تؤكد عليه ان يتدثر بالاغطية جيدا قبل ان ينام فالجو هنالك بارد .
في تلك الليلة وهو يحاول عبثا النوم ، فقد كانت الليلة الاخيرة بين ام تعشق وحيدها وبين  شاب يرى فيها عالما من المحبة والحنان لن يتكرر ابدا ، تظاهر بالنوم مغمضا عينيه نصف اغماضة لمتابعة حركات والدته  ، كان يسمع صوت  قدميها وهي تتحرك في جميع الجهات ، وتفتح حقيبته بين فينة واخرى لتدس شيئا ، وكلما فتحتها كانت تخرج قطعة من ملابسه تشم ضوعها وكانها تشم كل جزء فيه وتعيدها ثانية ، واذ توقفت قدماها عن السير هنا وهناك فتح عينيه ليفاجأ بها جاثية امام صورة العذراء تصلي وتنشج بصمت والدمع يسيل بهدوء على خديها ، كانت كقديسة ورعة تدعو له ، امسك دموعه بمكابرة وهو يشعر انه في تلك اللحظات بات خارج الكون ضائعا في منطقة فقدان الوزن يريد الامساك بثوب والدته ولا يستطيع والعواصف تبعده عنها شيئا فشيئا.
في الصباح،  وهما يتشاغلان بتناول وجبة الافطار الاخيرة عبثا ، والتي كانت  بطعم الحنظل لم ينبسا بكلمة ، فكلمات الوداع ثقيلة كانت ومريرة   لم يستطع اي منهما تلفظها ونظراتهما كانت موجعة , واذ سمعا منبه سيارة التاكسي التي ستقله الى المطار ، احتظنا بعضهما بشدة في عناق أليم  مرير ، لم ينبسا بكلمة ، فقد قالت الدموع عنهما كل شيئ ، ورسم النشيج المتبادل عمق المشاعر الموجعة التي تفجرت تلك اللحظة ، واذ تراخت اصابعهما ببطء ، نزعت عن رقبتها صليبها الذهبي ، قبلته والبسته اياه ، وكأنها كانت تضعه امانة بين يدي المسيح  ليرعاه في الغربة بدلها.
قبل يديها ورأسها ورغم مقاومتها انحنى وقبل قدميها ، وغادر مسرعا والدمع يهطل مدرارا ، وكان اخر ما شاهده منها وهو يلوح لها من نافذة السيارة، يدها وهي ترش الماء خلفه ليذهب سالما ويعود سالما ، وفقا للاساطير الشعبية.
في طريقه الى المطار كانت لقطات من شريط ملون يوثق جانبا من حياته تمر امامه ، كم مرة قبلته تلك الام الرائعة وكم مرة حمته من عقاب والده عندما كان يشاكس شقيقتيه وكم ومرة سهرت الى جانبه حتى الصباح لمجرد ان صحته كانت متوعكة وكم مرة حرمت نفسها من احتياجاتها البسيطة لتوفر له ملابس جديدة وكم مرة جثت امام صورة العذراء وصلت لاجله .. وكم وكم وكم ؟ ومع تواتر تلك اللقطات كان تنفسه يسرع ودقات قلبه تتصاعد وسيطرته على دموعه تضمحل ، بينما اخذت عقدة الشعور بالذنب تتفاعل وتنبثق بقوة في اعماقه ، لكنه تجاهلها ، محاولا تبرير موقفه ذاك بحقه في البحث عن مستقبله رغم عدم قناعته.
في المطار تشاغل عن استذكار لحظات الوداع المريرة بمحاولة التأكد من وثائقه واحتياجاته ، وضحك من نفسه وهو يفاجأ بانه قد اصطحب مفاتيح الدار معه  وحدث نفسه قائلا (من يدري ربما اعود يوما وافاجئها بعودتي) ، لكنه ما ان فتح حقيبة اليد الصغيرة لاستخراج جواز السفر منها حتى فوجأ بمبلغ مالي متواضع هو كل ماكانت تمتلكه والدته الى جانب مصوغاتها الذهبية التي تمتلكها ومعها خاتم الزواج الذي لم يسبق ان فارق اصبعها منذ ثلاثين عاما ، كما وجد القلادة الذهبية التي اهداها اليها قبل سفره ، ومع كل هذه الاشياء كانت هنالك ورقة صغيرة كتبت عليها (ولدي الحبيب .. هذا كل ما املكه ما حاجتي به بعدك ، عسى ان يساعدك في غربتك وسادعو لك دائما ان يحرسك ويحفظك ويوفقك الرب ويعيدك لي سالما ، لا ترسل اي مبلغ فتقاعد والدك يكفيني ).
دارت الدنيا به ، تذكر في تلك اللحظة المريرة كم عانت والدته بوداعه وكم ستعاني في غيابه ، واستعاد معها وصية الرب (اكرم اباك وامك) وشعر بالخجل من نفسه ومن عقوقه ، حمل امتعته وقفل عائدا وكله شوق لاحتضان والدته ، هذه المرأة العظيمة ومعانقتها وتقبيل يديها وقدميها ، وطلب المغفرة منها عن جحوده تجاهها.
اراد مفاجأتها ، فلم يطرق الباب ، بل فتحه ودخل ليفاجأ بها جاثية امام صورة العذراء وبين يديها مسبحة الصلاة وقد أسندت رأسها على الحائط كأنها قديسة في حالة مناجاة ضارعة.   
ناداها برفق لكنه لم يسمع ردا ، وتوقع انها غاضبة منه ، اقترب منها ليحتضنها بشوق وليقبلها بمحبة وليطلب منها المغفرة ، ليفاجأ بها جثة هامدة ، فقد اسلمت تلك الام الرائعة الروح  وهي تدعو له بالموفقية
لقد كان وداعا اخيرا .. لكنه وداع حزين .... حفر جراحه عميقا في اعماقه ، وداع لن ينساه أبدا.